في أواخر عام 2007 بعثت بي الشركة التي أعمل فيها إلى إحدى المناطق الحدودية بغية التمهيد لبناء منشأة نفطية على أراضيها. وكان أحد أسباب انتدابي لهذه المهمة أنني أعرف المكان جيداً، وأعرف الكثير من ساكنيه.
وكان لا بد لي ولزميليّ اللذين كانا يرافقانني حينها، أن نعرج على المجلس البلدي، الذي كان يدير الناحية الملغاة. وأن نتشاور مع أعضائه، وهم في الأصل معلمون أوموظفون أو عاطلون عن العمل، لاستطلاع المكان المناسب. وقد حظيت أنا وزميلاي باستقبال فاتر من أعضاء المجلس. وكان هذا فألاً سيئاً. أما الانطباع الأول الذي خرجت به بعد لقاء هؤلاء السادة أن الموضوع لن يمر بسلام.
وحينما بدأنا بشرح الموضوع وأوضحنا الغرض منه، وكان قد أقر في مجلس الوزراء منذ وقت ليس باليسير، تغير وجه هؤلاء الشبان وأبدوا امتعاضهم منه. واجتمعت كلمتهم – باستثناء رئيس المجلس – على رفض التعاون لإقامة المشروع لأنه يخدم دولة من دول الجوار. وهدد أحدهم بإخراج الناس للتظاهر ضد المشروع.
ومع أنني صدمت للهجة التي كانوا يتكلمون بها، توهمت أول مرة أنني أمام معارضة برلمانية تخطط لإسقاط الحكومة. ولكنني أفقت من أوهامي عندما قال أحدهم : ماذا استفدنا من النفط كل هذه المدة وكل وارداته تذهب إلى جيوب السياسيين وكبار موظفي الحكومة؟
ومع تفاهة هذا الرد، وابتذال معانيه، إلا أنني استغربت لجرأتهم على الحكومة وأجهزتها التنفيذية. وتساءلت في سري عن جدوى وجود أمثال هذه المجالس البائسة التي تتقاضى الرواتب أثناء وجودها "في السلطة" وبعد خروجها منه! وهي حلقة زائدة لا نفع منها على الإطلاق. بل إنها ليست إلا قوى معيقة للتقدم، جاء بها المهووسون بالديمقراطية بعد عام 2003، وكأن كل ما تحتاجه أريافنا ومدننا هو أناس منتخبون .. لا غير!
لقد أتاحت الحرية الزائدة التي جاء بها النظام الجديد الفرصة للكثيرين كي يمتهنوا السياسة من نوافذها المشرعة، عبر معارضة الحكومة لأي سبب كان. ويتحولوا إلى أدوات للتخلف والبؤس والتعاسة. وإذا كان مجلس بلدي صغير يستخف برأس الهرم ويرفض قراراته، فكيف لا يتجرأ مجلس محافظة أو محافظ على رأس الدولة، فيرفض ما يصدر عنه من أوامر، ويزدري ما يخرج عنه من قرارات؟
وهل يحق لنا بعد هذا أن ندعي أننا دولة ذات سيادة إذا كانت المرجعيات السياسية والإدارية لدينا تضرب عرض الحائط، وتتعرض لمثل هذا الامتهان؟
لقد فعلت ذلك محافظات كثيرة مثل الموصل والبصرة وكركوك والأنبار وواسط دون أن تنبري جهة ما لتنبيهها إلى اتباع أصول اللياقة في خطابها مع الحكومة المركزية، بحجة أنها هيئات منتخبة. ولا غرابة بعد ذلك إذا ما قام رئيس إقليم تابع للدولة بخرق القانون وإيواء الخارجين عنه، وإذا ما خرق الدستور واستعان بالأجانب، فهذا هو معنى الحرية في النظام الجديد!