صفحة الكاتب : محمد علي جواد تقي

المشي الى كربلاء تحت المجهر
محمد علي جواد تقي

 ليس فقط في الزيارة الاربعينية، بل في جميع الزيارات المليونية، وربما في جميع الزيارات المسنونة الى مرقد الامام الحسين، حيث يتسابق الزائرون للوصول الى كربلاء، نلاحظ ظهور مشهدين بشكل غريب؛ الاول: العطاء في كل شيء، فهنالك من يقدم الطعام والشراب، ومن يتكفل بنقل الزائرين مجاناً، ومن يتجشّم عناء السير على الاقدام، ومن يستضيف الزائرين في بيته، و أشكال تتنوع مع مرور الزمن، أما المشهد الثاني: فهو سيل من مشاعر الاحباط والفشل لدى البعض من حالات سيئة مثل الفقر وتدني الخدمات من ماء وكهرباء وطرق و.... الى قائمة طويلة.
يخاطبون المشاية!
الاموال تبذل بالملايين لإطعام الزائرين، بينما هنالك عوائل تعاني الجوع والفقر! والطرق الرئيسية تغصّ بالمشاة على الاقدام، بينما البلد يعاني بالاساس أزمة الطرق الخارجية وفي داخل المدن، وفي زيارة مليونية مثل الاربعين، نلاحظ المشاة ومعهم مواكب جرارة تضم مئات الشاحنات والمركبات التي تبحث عن مكان للوقوف لفترات طويلة. وفيما تعاني مدينة مثل كربلاء المقدسة، من ضعف الخدمات البلدية، نرى ازدلاف الآلاف والملايين من الزائرين بين ازقتها الضيقة، مع أدوات الطبخ والاعداد الكبيرة من الماشية بقصد الذبح لتوفير اللحوم، وغير ذلك كثير...!
بإزاء ذلك كله، يخاطب البعض هؤلاء الزائرين بأن {أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله}! فما المانع لو أنفقتم من بعض هذه الاموال الوفيرة لتمكين الفقراء من العيش في بيوت كريمة بدلاً من بيوت الصفيح، او تزويج العزاب او توفير نفقات التعليم او انقاذ حالات مرضية خطيرة...؟!
و أعجب ما نسمع هذه الايام، أحدهم يتسائل عما لو كان بالامكان توجه حشود المشاة نحو "داعش"!!، هذا الخطاب لا يصدر من أناس عاديين، إنما ممن يعدون أنفسهم أصحاب رأي ومن حملة الفكر والثقافة، ويرون في انفسهم ما يمكن تسميته بـ "بيضة القبّان" بين المجتمع والدولة، لتحقيق العلاقة المتوازنة والعادلة بين الجهتين. بيد أنهم عندما يصلون الى الطريق الواصل بين هذا المجتمع والامام الحسين، تتغير لديهم المعادلة، ويصبح هذا الطريق هو "بيضة القبّان" فينسون أنفسهم! ويلقون بالمسؤولية على الآخرين لأن يصلحوا ما أفسده الدهر، وهم لا يجهلون سبب ومنشأ الازمات، من فقر وأزمة خدمات أو أزمة الكتب الدراسية والامن وغيرها مما يجب أن تتحمل مسؤوليته الدولة، مع ذلك يطلبون كل ذلك من المواكب الحسينية، ربما لانها المقصد الأسهل والأقل كلفة من غيرها، فاذا كانت مظاهر البذخ والاسراف من احتفال ضخم لأسرة معينة او جماعة او مكان ما، هل كان بإمكان أحد التجرؤ على المطالبة بأن توجه بعض الملايين المسفوحة على الارض بهدف الشهرة واللذة العابرة، الى من هم بحاجة الى لذة الطعام والشراب والملبس والمسكن الكريم؟.
واذا بحثنا في الاسباب التي تدفع اصحاب هذه المشاعر إزاء زيارة الاربعين، يمكن الوصول الى حقيقتين من جملة مسائل:
الاولى: سوء الفهم العميق لمشاعر للجمهور المتفاعل مع قضية الامام الحسين، عليه السلام، والاصرار على قراءة هذه القضية فكرياً، عادّين تجييش العواطف ومظاهر البكاء والتألم على مصاب الامام الحسين وأهل بيته، عقبة في طريق الفهم الذي يرونه صحيحاً، وهذا ما أدى الى حصول نوع من فتور العلاقة بين الجمهور وأهل الثقافة والفكر في مواسم الزيارة تحديداً، سواءً في الاربعين او قبله في ايام عاشوراء، وحتى سائر الزيارات المليونية، فبدلاً من توجيه هذه العواطف والمشاعر الصادقة نحو مسارات حضارية، من إصلاح وتغيير وتنمية، نلاحظ التنكيل والتجريح والنقد لهذه الظاهرة او تلك الممارسة العفوية في معظم الاحيان، فاصبح هؤلاء "المثقفون" جزءاً من المشكلة وليس من الحل، فاتسعت مساحة السطحية في الوعي بسبب الانشغال بالمهاترات والشدّ والجذب، بدلاً من تعميق الوعي بتعاطي عناصر الثقافة من مطالعة ومتابعة ونقاش ودّي ومثمر.
الثانية: الشعور المخيف من استمرار حالة تجاوز الجماهير للشريحة المثقفة وما تبذله من جهد في التنظير والتعليق، كما فعلت الجماهير من قبل، وبكل شجاعة؛ لشريحة الساسة بعد ثبوت فشلهم الذريع في إدارة شؤون الناس ورعاية مصالحهم.
و يعود منشأ هذا الشعور الى نفس هذه الشريحة التي طالما افترضت الجهل والأمية وحاجة الناس الى من يهديهم الى افكارهم ونظرياتهم، التي من دونها – كما يتصورون- فانهم في ظلال مبين! وبين "حوار الطرشان" والقراءات الخاطئة للمظاهر الاجتماعية، والإيغال في الاستهانة بمشاعر وعقول الناس، كان القرار الاخير من الجمهور العريض بأن تتولى هي بنفسها بلورة الرؤية الثقافية بما يعزز هويتها وانتمائها، وهذا ما نلاحظه في مسيرة المشي في زيارة الاربعين، وقبلها في ايام عاشوراء.


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


محمد علي جواد تقي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2017/11/05



كتابة تعليق لموضوع : المشي الى كربلاء تحت المجهر
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net