الرجعية في السياسة
الشيخ مازن المطوري
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
الشيخ مازن المطوري

يتداول وصف "الرجعية" في السياسة والاجتماع بكثرة في وسم الخصوم. كان في السابق يستعمل الماركسيون مفردة الرجعية في توصيف خصومهم المتدينين والذين لديهم خلفية إقطاعية وبرجوازية، وكانت الحكومات القومية تطلق الحكم بالرجعية على كل معارضيها! ويستعمل العلمانيون الليبراليون التوصيف بالرجعية في وسم خصومهم الفكريين.
وواضح جداً أن هذا الحكم بالرجعية يمثل مفهوماً قيمياً ثانوياً، بمعنى هو مفهوم خاضع للقاعدة الأساسية التي يؤمن بها الإنسان وينطلق منها، ومن ثم فهو مفهوم نسبي محدود، أي يكون الإنسان رجعياً بالإضافة وبالنسبة لفكرة معينة ولمبدأ معين، فالذي يؤمن بالماركسية والثورة العمالية يعتبر كل من يقف بوجه ثورة الطبقة العمالية الكادحة، ويريد الحفاظ على الأوضاع الحالية رجعياً، كما أن الذي يؤمن بالعلمانية الليبرالية يعتبر كل خصم يؤمن بأصالة المجتمع وقيمه الأساسية وأوليتها على الحرية الفردية المطلقة رجعياً.
وعلى هذا الأساس فالتوصيف بالرجعية خاضع لرؤية الإنسان لمعنى الرجعية ومعنى التقدم ومعنى التحديث، ومن ثمّ فلا ينبغي أن ينزعج المؤمن عندما يسمه خصومه بالرجعي! لأن رجعيته تعني عدم إيمانه بما يتصورونه من أفكار ومن قواعد تحررية وتقدمية، فهم ينطلقون من رؤية في المجتمع والإنسان تريد أن تجري قطيعة في بناء المجتمع مع الأفكار الأخرى وتراها هي الأجدر بالاتباع، لذلك يعتبرون تجاوزها وعدم الإيمان بها رجوعاً إلى الوراء، ويسمون المخالف لها بالرجعية.
والقرآن الكريم نفسه انطلاقاً من رؤيته للكون والحياة والإنسان قد استعمل مفردتي التقدم والتأخر، فوسم الذين يأخذون بما يأتي به الأنبياء ويتعظ بآيات الله بالتقدم، بينما وسم الذين لا يأخذون برسالات الأنبياء بالتأخر، (نذيراً للبشر لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر)، فالمتأخر هو الذي لا يتعظ بآيات الله وبما أرسل به الأنبياء، أما المتقدم فهو الآخذ برسالات الأنبياء ولم يعرض عنها ولم يعبس بوجه النذير وآياته.
فكما أن الآخرين بناءً على رؤيتهم للتقدم والرجعية يسمون المؤمنين بالرجعية، كذلك للمؤمن أن يسمهم بالرجعية والتأخر، لعدم أخذهم برسالات الله وما جاء به الأنبياء.
والخلاصة إن الحكم بالرجعية حكم نسبي وليس مطلقاً.
نعم هناك فارق كبير بين توصيف القرآن الكريم للآخرين بالرجعية وبين توصيف غيره.. فالآخرون يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا، وعلى أساس هذه الرؤية الضيّقة يسمون خصومهم بالرجعية، بينما توصيفات القرآن الكريم واقعية منطلقة من علم الله تعالى التفصيلي المحيط بالإنسان واحتياجاته وما يصلحه وما يضرّه.
وهذا المعنى بشأن الرجعية، يعزّز ما قلته في مناسبة سابقة من ضرورة التدقيق في التوصيفات والمفاهيم، وتفكيكها ومعرفة خلفياتها الفكرية والفلسفية قبل استعمالها. لأن الإنسان في حياته ينطلق على أساس مجموعة أفكار يؤمن بها، وهو انطلاقاً من تلك الرؤية يسم خصومه بمجموعة من الأحكام، ويستعمل مفاهيم تتناسب وتلك الرؤية.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat