صفحة الكاتب : د . علي مجيد البديري

الخبزُ و القِرط ... أطفال الحسين (ع) بين قصيدتين
د . علي مجيد البديري

  تُثيرُ فينا قراءةُ الشعر الحسيني العربي أو شعر الطفِّ رغبةً وفضولاً علمياً في البحث عمّا يشابهه في الموضوع ، ويماثله في المعالجة الفنية في الآداب العالمية الأخرى ، من خلال مساحة بحثية يوفرها لنا (الأدب المقارَن) في ميادينه وحقوله الدراسية التي منها دراسة المتشابهات في آداب الأمم المختلفة . ولا يبذل طالبُ هذا الأمر وصاحبُ هذه الرغبة جهداً كبيراً في البحث عن مطلبه ؛ مادام الحسينُ (ع) حسينَ الإنسانية ، ومادامتْ سحائبُ ثورته المباركة الطاهرة قد أمطرتِ الأرض بأسرها ، وشربتْ من مائها الإنسانيةُ ـ وما زالت ـ على مرِّ العصور .
     ولعل في هيمنة فجائعية مقتل الإمام الحسين (ع) على شعر الطفِّ ما جعل من وجوه المأساة الأخرى أقلَّ حضوراً ونصيباً في التناول من قبل الشعراء . ومن هذه الوجوه (أطفال الإمام الحسين (ع)) و ما نالوه من قتل وسبي وتشريد . ومن هنا كان لهذه الوقفة البسيطة شرف المحاولة في تسليط ضوء القراءة على نصين شعريين ينتميان إلى أدَبَين عريقين لهما صلةٌ عميقةٌ و تاريخٌ طويلٌ مع هذا الشعر و هما : الشعر العراقي ، والشعر الفارسي .
     النصان الشعريان المختاران في هذه الوقفة البحثية السريعة لشاعرين معاصرين ؛ هما الشاعر العراقي عبد الكريم كاصد ، والشاعر الإيراني علي رضا قزوة .
     يُعدُّ الأول من شعراء الحداثة في الشعر العراقي الحديث ، صدرت له إحدى عشرة مجموعة شعرية منها (الحقائب 1975) ،(النقر على أبواب الطفولة 1978) ، (الشاهدة 1981) ، و (وردة البيكاجي 1983) وغيرها ، و له أيضاً مجموعة قصصية ، ومسرحية شعرية ، وترجمات عديدة عن الفرنسية والانجليزية ، ويعيش مغترباً منذ أواخر السبعينيات من القرن الماضي.
    يمكن لقارئ شعر عبد الكريم أن يلاحظ احتفاءه باليومي والمألوف بكل تفاصيله ، من غير أن تُوقع هذه الظاهرةُ شعرَه في تقريريةٍ باردةٍ أو تسجيليةٍ آليةٍ ، فهو يحرص في كثيرٍ من قصائده على توظيف هذه التفصيلات في التعبير عما هو عام وشمولي . و في مجموعته الثانية (النقر على أبواب الطفولة) التي صدرتْ في بغداد عام 1978 تتجلى هذه الظاهرة بوضوح في معظم قصائد المجموعة التي تمتاز بأنها صورٌ مستلَّةٌ من ذاكرة الطفولة التي عاشها الشاعر في جنوب العراق . وقد تناولت إحدى قصائد هذه المجموعة موضوعة عاشوراء من خلال عيني طفلٍ جائع .
   تحمل القصيدة عنوان: (طفلٌ جائعٌ في عاشوراء)(1) ونصها :
(( بين شموع المأتم و الآس
تحملني أمي فوق رؤوس النسوة ملفوفاً بعباءتها السوداء
والحيطان السود .. و صورة مطعون بين خيول الأعداء
يحمل طفلاً ..
مرَّ على جبهته السيف ..
دعيني ألمس جبهتك .. احترقت رئتي
مرَّ السيف على شفتي
أماه .. !
دعيني آكل خبز العباس ))
      يأتي الوصف في نص عبد الكريم على وفق منطق طفولي بما فيه من ميل نحو المباشرة والتسجيل، وهو بهذا يمنح القارئ فرصة المشاركة في إعادة بناء المشهد ، الطفل/ الراوي لا يدرك حجم المأساة وحقيقتها بشكلٍ تامٍ ؛ لذا فهو ينقل طرفه بين مفردات الواقع/ المأتم وبين حاجته للطعام ، ولعل في طلبه الخبز من أمه في نهاية النص، إحالةً إلى حدث يقترن بالعباس (ع) وهو طَلَبُ عيال الحسين (ع) منه الماءَ في ظهيرة اليوم العاشر من المحرم ، حينما اشتد بهم العطش وأنهك قواهم . و نلاحظ في نص عبد الكريم التركيز على التقابلات بين المفردات لإبراز إيقاع التوحد الداخلي مابين الطفل ووالدته من جهة ومشهد الإمام الحسين (ع) وطفله الرضيع :
تحملني أمي                          يحمل طفلاً
مرَّ على جبهته السيفُ               دعيني ألمسُ جبهتك
صورةُ مطعون                   احترقت رئتي
مرَّ على جبهته السيفُ            مرَّ السيفُ على شفتي
     و يعتمد الشاعر هذه التقابلات نسقاً مهيمناً في بنية نصِّه القصير و يحقق حضورُها انسجاماً تركيبياً و يشكِّل قيمةً فنيةً كبيرةً إضافةً إلى قيمته المعرفية ، حيث يمكن أن تجسّد للقارئ رؤيةَ الشاعر للحدث ودلالاته في التاريخ والحياة .
       في نهاية النص يَعمدُ الشاعرُ إلى توظيف طقسٍ عاشورائيٍ شعبيٍ حرص الناسُ ـ النساء تحديداً ـ على القيام به في اليوم السابع من المحرم وهو اليوم المخصص للإمام العباس (ع) حيث توزع النسوة فيه على الأشخاص والبيوت الخبزَ ، في تقليد طقسي سُمِّي بـ (خبز العباس). و يُعدُّ التوظيف هنا عنصراً غنياً بحمولته الدلالية المرتبطة بواقعين متلازمين لم ينفصلا منذ أن وجدا ؛ واقع الحدث (معركة الطفِّ واستشهاد الإمام الحسين ع) ، و واقع الشعائر الحسينية .
     إنَّ نصَّ عبد الكريم كاصد نصٌّ تبنيه الذاكرةُ ، ذاكرة الطفل، وهي تمسكُ بمشاهدَ و صورٍ من المأتم الحسيني في أيام عاشوراء ؛ فمفردات المشهد مستجلَبَةٌ من ذاكرة الراوي/الشاعر حين كانَ طفلاً ، وقد اعتمد النص فيها بناءً سردياً يتخلّق الحدثُ فيه من خلال عددٍ من الصور التي تتسم بالاقتضاب وعدم الاكتمال ، ولعل خَلْف ذلك يكمن ما يسكتُ عنه النص ، ويحرِّض القارئَ على استنطاقه ، ففي عدم الاكتمال هذا إشارةٌ إلى استمرارية الحدث وامتداده ، فالمشهد الموصوف مفتوحٌ على التشكل ، طالما أنَّ وَصْفَه قد تمَّ عبر عينين ترى الأشياء والأحداث والأفكار محاطةً بغلالةٍ من الإبهام عدم الوضوح . وتقوم هذه الصور المقتضبة بتحريض انفعالاتٍ خفية على الظهور ، فتتجلى الرغبة ملحةً على لسان الطفل بالتماهي مع شخصية من شخوص مشهد الواقعة (العباس ع ) وكأن النص بكثافته واختزاله يقصد إلى نقل المتلقي من عالمٍ عامرٍ بمشاهد الحزن والألم وتصوير المأساة ، إلى عالم آخر يبدأ من الوعي بالحدث وينتهي إلى طلب التوحد معه والانصهار فيه ، وفي ذلك دلالة قصدية واضحة .    
       ولا يفارق النصُّ الشعري الثاني الذي نختاره في هذه المقارنة عن نص كاصد في الموضوعة المتناولة ، ولكنه يختلف عنه في بعض الوجوه . النص ـ كما أشرنا في البداية ـ للشاعر الإيراني علي رضا قَزْوِة ؛ وهو من مواليد عام 1963 في مدينة كرمسار ـ جنوب شرق طهران ـ ، حائز على درجة الدكتوراه في الأدب الطاجيكي, و يعدُّ من الجيل الثاني لشعراء إيران بعد الثورة, و من أكثرهم شهرة و توفيقاً. ينظم الشعر بالأسلوبين العمودي و الحر، وله قراءاته في الشعر العربي المعاصر, وقد صدرت له عدة مجاميع شعرية منها : من غابة النخيل إلى‌ الشارع ، و شبلي و النار ،  يا لكثرة يوسف ، الحب عليه السلام.

     يرى الشاعر قزوة في واقعة عاشوراء انتفاضةً كبرى صانعةً للإنسان ، و حركةً إلهيَّة. وهي بالإضافة إلى هذا تتوافر من الناحية الفنية على تلك الروعة الجمالية الفائقة ، التي تجعل الأدباء و الفنانين في حيرة إمام الجوانب المتعددة والكبيرة لها. ويفرض هذا الأمر ـ برأي الشاعر ـ  على الأدباء أن ينظروا إلى هذه الواقعة نظرةً إشراقيةً خاصة ، و يعدُّونها حركة و نوراً ، و يبدعون أعمالاً قيمة و خالدة بوحي من هذه الواقعة . وتجسيداً لذلك فقد شهد الشعر العاشورائي الفارسي في العقد الأخير من القرن المنصرم توجهاً جديداً في اللغة و الفكر و الهيكلية إذ تمَّ التطرق إلى الجوانب العاشورائية العميقة مع وضع العنصر الفكري و الذوق الفني بطريقة توازي أهمية المعرفة .(2)
يحملُ نصُّ علي رضا قزوة عنوان :
(بعض المشاهد من رواية ظهر اليوم العاشر)(3)
(1)
كنت أصلي الركعة الثانية
وفجأة
سقطت قطرة من دم على الأصغر
على سجادتي
كنت ذاهباً للبحث عن عطشي
قرب كفِّ العباس
وفجأة حزّ شمر وريد الإمام .
(2)
العربي بائع الذهب
قال بلهجة غير مفهومة تماماً
اشترِ !
يا سيدي اشترِ
يا سيدي الإيراني الجميل
هذا ذهبٌ جيد
معضد ... أقراط الأذن
قال محمود:
عندما يرخص الدولار
عندما يرتفع سعر النفط
سعر الذهب ... يرتفع ... ينخفض ...
قلت :
في الجانب الآخر
من تلة الزينبية
إذا رأينا تراباً
سنبحث فيه
لعلنا نعثر على قرط صغير ...)) (4)

    في نص الشاعر قزوِة يتداخل زمنان : الحاضر بالماضي ، ومكانان : كربلاء المدينة بكربلاء المعركة والمأساة . ويأتي البحث عن قرطٍ لطفلةٍ من أطفال الحسين (ع) تأكيداً على انتماء المكان للمعركة والمأساة ، أكثر من انتمائه لتفاصيل الحياة في كربلاء المدينة ، وما يشغل سوقها من حراك يومي واقتصادي مألوف ينأى بها عن قدسيتها وروحانيتها .
      والبحث ـ أيضاً ـ محاولةٌ من الشاعر  لبعث صورة المأساة من جديد ، يدفعه إلى ذلك شعورٌ بتوهج حرارة مشهد إحراق الخيام وترويع النساء والأطفال بعد مقتل الإمام الحسين (ع) وبقائه ماثلاً في المكان. وقد اختار الشاعر منطقة (التلّ الزينبي) ليعبر عن حركته في استعادة المكان لملامحه . ولا يقف قزوة ـ في كل ذلك ـ خارجَ النص ، بل يتحرك داخله متماهياً مع زمنه ومكانه ، مثيراً بفعله هذا سؤالاً يبعث به المأساة من جديد عبر البحث عن قرطٍ سقط من طفلةٍ للحسين (ع) قبل عدة قرون على هذه الأرض ، ونرى كذلك أنَّ فعل البحث يسعى إلى ردم الهوة الزمنية بين زمن الواقعة و زمن كتابة النص ، ومجيء الشاعر زائراً كربلاء .
لقد جسَّدَ هذا البحثُُ ـ الذي تنتهي به وإليه القصيدة ـ  تصعيداً دلالياً يرتفع بمعنى فعل البحث من مجرد بعث المأساة من جديد ، إلى القول بتضييع الإنسان المعاصر لكثير من معطيات الثورة الحسينية ونسيانها والتفريط بمعطياتها ، وبذا يدين النص بشكلٍ غير مباشر، وبطريقةٍ لا تخلو من الشعور بالألم والغصة لحدوث ذلك ، يدين هذا التضييع والتفريط .
و يعمد قزوة إلى الارتفاع بحدث الزيارة العادي لمكان الواقعة عبر اعتماد السرد الحكائي وكسر عادية الحدث ومألوفيته في اللحظة التي تصل القصيدة فيها إلى مشارف النهاية، فيجدد ذخيرة النص الدلالية عبر فعل البدء بالبحث عن القرط الصغير، الكبير في انفتاحه على المأساة وبإحالته السياقية على تفاصيلها .
                                       **
 *  لقد كانت أشكالُ التوظيف الفني لمطيات واقعة الطف ولوجهٍ شُبهِ مهملٍ من وجوهها في هذين النصين ناجحاً بطريقةٍ موفقةٍ ، فلم يتوقفِ الشاعران عند حدود السَّرد والتسجيل والنقل التفصيلي للأحداث والشخصيات ، بل عَملا على استثمار ما يكتنزه الموضوع من قوة جمالية وفنية ودلالية في تجسيد رؤيةٍ ووعيٍ مُفارِقٍ للسائدِ (كما هو في نص عبد الكريم كاصد)، وفي تشخيص مفارقات الحياة التي نأتْ بمعطيات الثورة الحسينية عن أرضها (قصيدة علي رضا قزوة) .
* انطلق النصان من ذاكرةٍ جمعيةٍ تختزن الحدث بكل تفصيلاته ، وتدرك أبعاده ونتائجه ودروسه وعبره ، ولكنها تنقسم حين تدخل دائرة الفعل واستدعاء الحدث القديم المنتهي زمنياً إلى ساحة العمل المعاصرة ، وهو ما حاول النصان العمل على تحقيقه كلٌ بطريقته الخاصة. بيد أنهما تقاسما امتياز تصوير اللحظة المكثفة والانتقال المفاجئ بين مفاصل الحدث ببراعة .
                             والحمد لله ربِّ العالمين 

الإحالات ...............................................................................................
(1) النقر على أبواب الطفولة : عبد الكريم كاصد ، مطبعة شفيق ـ بغداد ، ط1 ، 1978 : 14
(2) ينظر : الشعر العاشورائي في حوار خاص لشاهد مع علي رضا قزوة ، على الرابط :
http://www.navideshahed.com/ar/index.php?Page=archive&ID=17&S1=6912
(3) قصائد بتوقيت بيروت : علي رضا قزوة ، ترجمة : موسى بيدج ، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي ـ بيروت ، ط1 ، 2008 : 27
(4) إشارة إلى انتزاع الأقراط من آذان بنات الإمام الحسين(ع) في عصر عاشوراء(الهامش موجود أصلاً في المجموعة)




 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


د . علي مجيد البديري
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2011/11/27



كتابة تعليق لموضوع : الخبزُ و القِرط ... أطفال الحسين (ع) بين قصيدتين
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 

أحدث التعليقات إضافة (عدد : 2)


• (1) - كتب : علي مجيد البديري ، في 2011/11/29 .

الأديب المبدع الأستاذ علي الخباز
دمت سالما سيدي وعظم الله لك الأجر
أرجو أن تذكرني بالزيارة والدعاء

مع محبتي

علي

• (2) - كتب : علي حسين الخباز ، في 2011/11/29 .

عزيزي الدكتور علي مجيد البديري وفقك الله وحفظك لما امتعتنا به من مقاربات نقدية مهمة تقبل دعائي





حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net