صفحة الكاتب : الشيخ جميل مانع البزوني

المأساة والمتصدق المجهول
الشيخ جميل مانع البزوني

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

     كلّما جاءَ المساءُ خرجَ وعلى كتفهِ جراباً من الطعام لا أحدَ من المساكين يعرفُ من هو؟ ولا يوجدَ من يعاونه في عملهِ هذا، وكانت الدولةُ لا تفكر في إطعامِ أحدٍ من الرّعية بل كانت تقتسمُ مالَ الله بين فئةٍ من الناس ولا يكادون يشعرون  بتلك البطونِ التي مسها الجوعُ والعطشُ.
    وعندما كان يُطعِم الناسَ من خيراتِ الدنيا فيشعرهُم بمن يريدُ لهمُ الشبعَ بعدَ الجوعِ  لم يكن يستطيعُ الجلوسَ على مائدةٍ  إلا وقد مزَجَها بدموعِ عينيه، تلكَ العيونُ التي ما برحت تبكي مقتلَ أبيهِ وأخوتهِ وأصحابِ العقيدةِ من رجالِ الله.
   وبينما هو غارقٌ في همومِ تلك الذكرياتِ المأساوية لم يكن يريد للمستضعفين أن يمرّوا بتلك اللوعةِ التي أصابتْه وأهلَ بيتهِ عندما وقعوا في أسرِ الفئةِ الضالة.
    ولم يكن الزمنُ قادراً على أن ينسيه تلكَ اللحظاتِ التي تمر على الإنسانِ الفاقد للأبِ والأخوةِ والأصحابِ، فكان تفكيرُه منصباً في الليلِ والنهارِ على التفكيرِ بتلك الأفواه والبطونِ الفارغةِ.
وهذا كان ديدَنه مع الجميع فان كان هناك من يعاديه، كما كان يفعل  أحدُ الحكامِ لم يجعله ذلك يغيّر من أسلوبِه في معاملةِ الإنسانِ بحسب حاجتهِ لا بحسب تاريخهِ وسيرتهِ، وحتى لو لم يكن نادماً، فيمنع أصحابَه من التعرّضِ لمن ينزلُ عن مرتبتهِ الاجتماعية، فلا يلتفتُ إلى التاريخِ لأنه قد مضى فالنفوسُ الكبيرةُ لا تقفُ عند هذه السفا سف.
وعندما تنقلبُ  الأمورُ ولا يجدُ أعداؤه أحدا يستقبل عوائلهم بعد أن ثارتْ عليهم مدينةُ النبي (صلى الله واله)، تجد قلبَه مفتوحاً للنساءِ والأطفال، فهم لا ذنبَ لهم سوى التبعية للظالمين، مع علمِه أن الظالمين لن يتبدلوا، فأعطى بهذا رسالةً للأجيال بأنّ علينا أن نكرَه الإثمَ والخطيئةَ ولا نكرَه الإنسانَ الآثِم، فكلُ واحدٍ من البشرِ يمكن أن يقفَ موقفَ الظالمين عندما يفقدُ السيطرةَ على خارطةِ الطريق.
وعندما يتنقلُ في شوارعِ المدينةِ المنوّرة فتتعرض له النفوسُ المريضةُ بالأذى فهي تنتظرُ منه الردَ بالمثلِ ، لكنه يخيِّب أملهُم ويجعلهم يندمون عندما يرد شدة الأذى بالإحسان، والغلظةَ بالرفقِ، فيكتبُ للتاريخِ درساً في قتلِ عدوانَ النفوسِ بكبح جماحِ العدوانية في مهدِه.
وتبدأ حياته يومياً في تربيةِ النفوسِ فيأتي بالعبيدِ من السوقِ ليعيدَهم دعاةً لله بعد الحريةِ والانعتاق، فيجد المعتقون أن الإسلام كان حريصاً على حريتهِم كما هو حريصٌ على أخلاقهِم، وفي كل يوم تبدأُ قافلةُ الحرية من بيتهِ لتنطلق إلى المجتمع محملةً بكل معاني الإنسانيةِ والسمو بعد أن تتزوّدَ بكلِّ  معاني الخيرِ والتقوى.
وتجد أنّ حياتَه لا تتبدلَ فهو يعيش من أجل إحياءِ النفوس، ولا همَّ له سوى إنقاذها من براثنِ الشيطان، وإيصالها إلى عالمٍ من الأمن والأمان.
فتجدُ بعضَ الموالي لا يريدونَ الذهابَ بل يتمسّكون بالبقاءِ معه مع العبودية على الحياة مع غيره بحرية ، فلا حياةَ بعد هذه الحياة، ولا نجاةَ بغير هذه الصحبةِ الإنسانية، فيخشى بعضهَم على نفسِهِ من الضياعِ إذا غادرَ المكان.
فإذا مرّ بالسوق كانت كلماته تعبّر عن إرادةِ الله للإنسان،  ولا يتعرض لما مر عليه من المأساة إلا إذا وجد ذكرى من ذكرياتِها حاضرةً أمام عينيهِ من دونِ أن ينظرَ إلى محاسبةِ المجرمينَ، ولا مضايقةِ أتباعهم من المغفلين،حتى وإن سقطوا وضاعَت هيبتَهم، بل كان يعيش بين الناس وهو جسدٌ لا أكثر فروحُه معلقةٌ بالملكوتِ الأعلى. 
 عندما يأتي الليلُ لا ينام كما تنام الناسُ بل يخلدُ إلى الذكرِ بلا انقطاعٍ، وفي النهار ليس بينه وبين الطعام وصالٌ سوى لقيماتٍ في موعدِ إفطارِ الصائمين.
والناسُ معه لا تخافُ حتى عندما تخطيء وتسيء، مع أنه  لا ينسى صاحب الخطأ لكنه أرفع من رغبة مباشرة العقوبة؛ وكيف لا يأمنونَ وهم يرون إرادة الله  تتجسدُ في إنسان، والتقوى تمشي على الأرضِ والزهدُ يسير في أزقة المساكين، يتخفّى ليلاً  وهو يملأ أبوابَ بيوتهِم من العطاء دون أن يعرفه أحد ، ويصل الجميعَ دون استثناء، فلا القريبُ المعادي له عدو، ولا البعيدُ المعادي له عدو،فلا عداوة في قاموسه، فان سمعَ من قريبهِ كلاماً يذكرُه فيه بسوءٍ لم يرفع غطاءَ وجههِ لكي يحظى برضاه، فليس المقصودُ من هذا البذلِ سواهُ جلَّ وعلا ، فهو يعمل وكأنه يتنرنم بقوله: ( رضِّ وجهاً يكفيكَ الوجوهَ جميعاً).
وعندما ذهب  إلى ربه ما دله على فعله هذا  سوى آثار الجرابِ على ظهره فهو يعرف أن (صدقة السر تطفئ غضب الرب)  فكانت شهادة لميت بأنه المتصدق المجهول.


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


الشيخ جميل مانع البزوني
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2018/05/09



كتابة تعليق لموضوع : المأساة والمتصدق المجهول
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net