صفحة الكاتب : طالب منشد الكناني

في مسائل البيئه والبناء/ دراسه رقم (1) التجريف الصناعي للتربه الرسوبيه في العراق وبدائل الطابوق
طالب منشد الكناني

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

تعكف المؤسسات البحثيه في العالم المتقدم وكذلك العالم النامي على الخوض في مواضيع البيئه وتداعيات النشاطات البشريه المؤثره فيها ومنها على سبيل الخصوص البيئة المناخيه , والموضوع القديم الجديد هو التلوث المناخي بفعل النشاط الصناعي , الا أننا في العراق نعاني من اثار التدهور بفعل النشاطات الصناعيه التي تلحق الضرر في كل من الأرض والأنسان والمناخ والحياة بشكل عام حاضرا ومستقبلا.

   صوره لمعمل طابوق ويلاحظ حجم التأثير البيئي                                  صوره لشاحنه تنقل جدران خرسانيه جاهزه ثقيله

فالمعروف بداهة أن المحدود من الكم اذا ما استهلك تباعا سينفذ وأن الممدود من الكم لاينفذ طالما استمر الأمداد والتعويض , وغني عن التعريف ان التربه في وادي الرافدين قد تكونت طبقاتها وقشرتها بفعل عوامل التجويتين الفيزيائيه والكيميائيه التي مرت على وادي الرافدين منذ الاف السنين , وبفعل الفيضانات المتعاقبه وحركة باطن الأرض أستقرت رواسب الأنهار المتدفقه من الشمال ومن الشرق على بعضها البعض لتصبح على ماهي عليه الان من أراضي رسوبيه خصبه وغنيه تصلح وسطا للزراعه والأستيطان والتطور (1) . أن تلك الفيضانات المتعاقبه وتلك المياه الغنيه برواسبها والتي أسهمت بشكل فاعل في تكوين تلك الأراضي أصبحت اليوم من ضروب المستحيل بحكم سيطرة الأنسان على الخزانات العليا لأعالي الأنهار في كل من تركيا وسوريا والعراق وأضحت فرص تعويض المستنفذ من ترب السهل الرسوبي معدومه تقريبا.

أن أهم مايميز الأراضي الرسوبيه في وادي الرافدين هو خصائصها الفيزيائيه والكيميائيه والبيولوجيه الممتازه وأن مشاكل الملوحه هي صفات طارئه بفعل النشاط البشري وليس بفعل أصل الماده المكونه للتربه وهذا يعني أنها ترب واعده أذا ما اتبعت برامج متطوره في الأستصلاح والبزل وأدارات الري , ولم يكن التدهور في الأراضي الزراعيه وليد اليوم أو بفعل الممارسات الخاطئه في الري منذ وقت قريب بل أنها تعود الى عصور ماقبل الميلاد عندما كان محصول الحنطه يزرع بنجاح في مناطق  أور في الجنوب ثم تحول النشاط الزراعي نتيجة لتملح الأراضي الزراعيه الى محصول آخر أقل تأثرا بالأملاح هو الشعير ومن بعد ذلك بعدة عقود هجرت تلك الأقوام أراضي أور واتجهت شمالا نحو أراضٍ بكر تقع بين ميسان وواسط يطلق عليها جزيرة  الرفاعي بعد أن أخرجت الأراضي في أور من صفاتها الزراعيه بفعل التملح (2).

واليوم وفي الوقت الذي تنطلق فيه عجلة التطور والبناء بعد سنين عجاف , تتحرك النشاطات في العراق على مختلف الأصعده وبحركة تقصر في بعض الأحيان عن وضع الأستراتيجيات الحاكمه لفك الألتباسات والتقاطعات بين النشاطات البشريه المختلفه والتي يمكن أن تصبح ذات أثر مدمر لحياة الأجيال القادمه. فعلى صعيد الأعمار والبناء تتحرك عجلة البناء بآليات قديمه وأساليب يعرف القاصي والداني أنها غير قادره على رفع وتيرة وكفاءة التطبيقات المساهمه في تلبية الحاجات الأساسيه الفعليه  للمجتمع من مساكن منفرده  أو مجمعات سكنيه أو مباني صناعيه أو تجاريه أو مباني عامه.

لقد واكبت النشاطات العمرانيه في العراق الحديث جمله من الأساليب القديمه في البناء أبرزها الأسلوب الموقعي الذي ألفه المعماريون والأنشائيون وأصبح واقعا ولم يزل يملي تبعاته وآثاره السلبيه وقيوده على صانع القرار في العراق رغم معرفتنا بكونه أسلوب بطيء في الأنجاز ,مكلف لكثرة التالف فيه , لايمتاز بقدرته على عزل المباني عن الأجواء الساخنه في الصيف والبارده في الشتاء وبالتالي فهو يزيد من ساعات الكسب الحراري ويزيد بذلك من وحدات الطاقة الكهربائيه المستهلكه للتبريد في الصيف والتدفئة بالشتاء وأيضا يمتاز برداءة عزله الصوتي في المباني التي تنشأ بالأعتماد على مواده الأوليه كالطابوق وقطع الخرسانه المصمته أو المجوفه.

أن مراجعه سريعه لخطة الأسكان في العراق تنبأ عن حاجة البلد لأربعة ملايين وحده سكنيه يجري تنفيذها على مدى عشرين عاما أي بواقع عشرة وحدات سكنيه لكل ألف نسمه في السنه (3) , الأمر الذي يعني الحاجه الى تجريف ترب صالحه للزراعه بمعدل عشرين متر مكعب  بالدقيقه الواحده ولمدة عشرين عام أو مايعادل مساحه بقدر مساحة ملعب كرة قدم في الساعه الواحده لغرض توفير مادة الطابوق لتلبية أحتياجات المباني السكنيه فقط(4). وبذلك سيجابه القطاع الزراعي ظرفا محددا آخر يضاف الى مجموعة الظروف المحدده الأخرى والمشاكل والقيود التي تجابهه في الوقت الحاضر وهذا الظرف أن بدا غير واضح المعالم والتأثير في الوقت الحاضر بسبب الوضع المتردي للزراعه في عموم العراق فأن أثره السلبي سيكون أشد فتكا بالأجيال القادمه التي ستصحو على اراضٍ دمرها النشاط البشري وحولها الى برك صناعيه جافه كبرى في وقت لايمكن التكهن فيه بطبيعة الأوضاع السياسيه والأقتصاديه التي ستسود العالم مستقبلا وتحكم سلته الغذائيه وتضربها بمقتل , وهذا ما فعلته وألزمت نفسها به العديد من الدول المتقدمه والناميه حيث حرّمت قوانينها المساس بعناصر التنميه الأقتصاديه والتي تقف في مقدمتها الأرض . وحسنا فعلت لجنة البيئه في البرلمان العراقي في دورته الأولى أذ أصدرت مشروع الحفاظ على الغابات والأشجار غير أنه كان من الأجدر أصدار القوانين والتشريعات التي تحافظ على الوسط الذي تنمو فيه تلك الأشجار.

فأذا قيدت الحكومه العراقيه أستنفاذ الترب وحددت مناطق أنتشار معامل صناعة الطابوق أو طورت مواصفات المنتج بشكل يقل معه الأثر السلبي على التربه كما فعلت بقية الدول مثل جمهورية مصر العربيه التي تحرم نهائيا أفساد أو تغيير جنس الأرض دون موافقات مشدده , فالذي يزور مدينة القاهره ستلفت أنتباهه مداخن معامل الطابوق المعطله عن العمل وقد أحاطت بها مزارع الموز الجميله على  ضفاف النيل الساحر, أو بريطانيا التي انتهجت سبيلا مماثلا منذ أربعينيات القرن الماضي , وأزاء ذلك سنجد أنفسنا مضطرين لقبول أعتماد أساليب أخرى في البناء لحل مشاكل البناء والأعمار لدينا منها على سبيل المثال لا الحصر أسلوب البناء الجاهز والذي تم اعتماده عالميا في النصف الثاني من القرن الماضي لغرض أنشاء الوحدات السكنيه في دول أوربا والتي تمكن البعض منها بفضله من الأرتقاء بنسب الأداء الى أكثر من عشرة وحدات سكنيه لكل الف نسمه سنويا  وتمكنت تلك الدول في نهاية المطاف من أغلاق ملفات الأسكان لديها نهائيا .ألا أنه من ناحية ثانيه لا يعتبر الكثير من الأقتصاديين أن أسلوب البناء الجاهز حلا سحريا  للكثير من شعوب الدول الناميه التي تشكو عجزا كبيرا  في موازين مدفوعاتها السنويه ذلك بسبب الكلف العاليه لأستيراد ونصب وتشغيل وصيانة هذه المعامل والتي ستستقطع من الموازنة العامه والتي لا تسهم في تقليص نسب البطاله في تلك المجتمعات كون هذا الأسلوب في البناء أساسا يعتمد المكننه في الأنتاج والنقل والبناء والتركيب فهوسيؤدي في هذه الحاله وكما يؤكد الكثير من أولئك الأقتصاديين الى تخفيف نسب البطاله في دول المنشأ بدلا من تخفيفها لدى الدول المستورده (5).هذا ومن ناحية أخرى ففي بلد مثل العراق في الوقت الحاضر سيؤدي هذا الأسلوب الى تسريح العديد من العمال الممتهنين والمشتغلين في قطاع الأسكان الذي يتبع الأساليب التقليديه في البناء بجميع مراحله , أن هؤلاء العمال سيتطفلون في واقع الحال على مهن وقطاعات أخرى هي الأخرى تشهد كسادا وتوقفا في حركة العمل مما ينذر بحدوث مشاكل لا حصر لها في المجتمع , كذلك فأن أسلوب البناء الجاهز يتطلب وجود شبكة مواصلات جيده وواسعه ومتطوره من شأنها أن تساعد في أيصال القطع الجداريه الكبيره ثقيلة الوزن الى مختلف المناطق في المدن والأرياف وهذا أيضا عامل محدد آخر لمن يفكر في أستخدام هذا الأسلوب في البناء لحل مشاكل السكن والأعمار في العراق في المرحلة الحاليه وفي المستقبل لجميع شرائح المجتمع في خطه استراتيجيه ممنهجه مركزيه.

وهنالك أيضا أبعاد خرى لهذا الموضوع عندما نناقش مشاكل أخرى ناجمه عن بناء مجمعات سكنيه أو عمارات متعددة الطوابق شاهقة الأرتفاع كما نجد ذلك في الدول الأخرى أذا ما أردنا أتباع الأساليب والمدارس القديمه في البناء والتي لا تأخذ بالحسبان تأثيرات الأحمال الثقيله على الفوالق التحتيه لأراضٍ واقعه على خط الزلازل الأرضيه أو مدن شهدت أو تشهد مثل هذه الزلازل كما هو حاصل في شمالنا العزيز وفي شرق البلاد وجنوب شرقها , كذلك يمكن تأشير ضعف الترب الطينيه كونها أسوء أنواع الترب من الناحيه الأنشائيه خصوصا في المناطق التي تشهد تذبذبا في مناسيب الماء الأرضي صيفا وشتاءا ناهيك عن تذبذبها المتكرر في مناطق الترب المنتفخه من البلاد أن وجدت.

 فما السبيل أذن لتدارك مسائل البناء والأعمار والسكن لمجتمعات هي بأمس الحاجه الى الرعايه في مختلف مناحي الحياة والى أين يمكن توجيه بوصلة البحث العلمي في مسائل من هذا النوع كون هذه المسائل والمشاكل هي من النوع التراكمي المتضخم والذي يتطلب وقفات جديه وحلولا جذريه , هذا ما سنعكف على تناوله في مقالات قادمه أن شاء الله.

الهوامش/

  1. د. مهدي الصحاف / الموارد المائيه في العراق وصيانتها من التلوث/ وزارة الأعلام / 1976
  2. Ghassemi F,Jakeman  AJ ,Nix H A  1995, Stalinization of land and water resources .Sydney,Australia:New South Wales University Press
  3. د. علي الحيدري / منظور الأسكان في العراق / مجلة أتحاد مجالس البحث العلمي العربيه/ العدد11/1983
  4. د. داخل راضي نديوي واخرون / السهل الرسوبي ومخاطر زحف الصناعات الأنشائيه / دراسه مقدمه الى وزارة الأسكان والتعمير/ 2001
  5. د. عادل مصطفى أحمد / مجلة أتحاد مجالس الببحث العلمي العربيه / العدد 11 / 1983

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


طالب منشد الكناني
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2018/07/19



كتابة تعليق لموضوع : في مسائل البيئه والبناء/ دراسه رقم (1) التجريف الصناعي للتربه الرسوبيه في العراق وبدائل الطابوق
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net