صفحة الكاتب : صدى النجف

نقد نظرية التطور – الحلقة 9 – مناقشة الشواهد الاستنباطية على التطور (الجزء الثاني) : آية الله السيد محمد باقر السيستاني
صدى النجف

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

(المحاضرة رقم 108 من محاضرات منهج التثبت في الدين التي القاها السيد محمد باقر السيستاني حفظه الله في النجف الاشرف على جمع من طلاب الجامعات سنة 1437هـ )

إجمال الشواهد الاستنباطيّة

وأمّا الشواهد الاستنباطيّة:  فهي أمور وحوادث تتعلّق بالكائنات الحيّة ،يُذكر أنّه لا تفسير علميّ لها إلّا في حال نشأة هذه الكائنات عن التطوّر، وهذه الشواهد تتطابق إلى حدّ كبير على كيفيّة التطوّر ويسمّى تفاصيل التطوّر وترتيب الكائنات ب(شجرة الحياة التطوّريّة).

ومن جملتها:

1- إنّ الحادث ابتداء البكتريا الممثّلة للضوء البسيطة.

2- ثمّ حقيقيّات النوى البسيطة.

3- ثمّ كائنات بسيطة ولكن متعدّدة الخلايا مثل الإسفنج وقناديل البحر والديدان.

4- ثمّ كائنات أكثر تعقيداً ومن أبكرها الأسماك ذات الزعانف الغصنيّة.

5- ثمّ البرمائيّات.

6- ثمّ الزواحف البرّيّة.

7- ثمّ الثدييّات.

8- ثمّ الطيور.

وإجمال الشواهد المذكورة كما يلي:

الأوّل : دليل الشبه بين الكائنات الحيّة سواء في مظهرها الخارجيّ أو في أعضائها الداخليّة التي تتبيّن من خلال التشريح أو في جينومها.

الثاني : دليل الوجود التدرّجيّ بين الكائنات الحيّة المستمَدّ من التاريخ الطبيعيّ لها؛ فإنّ بقايا النباتات والحيوانات في العصور السابقة تدلّ على وجود أنواعها الأبسط قبل أنواعها الأكثر تعقيداً.

الثالث : دليل الأعضاء الأثريّة، وهي أعضاء من الكائن الحيّ لا تؤدّي وظيفةً فعليّةً فيه، أو لا تؤدّي وظيفتها التي وُجِد العضو لأجلها، فهي بقايا من أنواع سابقة تطوّر الكائن منها.

الرابع : دليل الجينات الميّتة الأثريّة والتأسّل، والمراد بالجينات الميّتة هي جينات معطَّلة ليست فاعلة في الكائن الخاصّ بينما هي فاعلة في بعض الكائنات الحيّة التي تقع قبلها في التسلسل التطوّريّ. كما أنّ المراد بالتأسّل أنّه قد توجد ولادات لبعض الكائنات الحيّة تشتمل على خصائص وأعضاء لغير النوع الذي ينتمي إليه فعلاً وإنّما هي من شؤون أنواع أخرى، وهو يدلّ على وجود جينات ميّتة في النوع من بقايا أصوله التطوّريّة ربّما تُحفَّز ببعض العوامل.

الخامس : المراحل التي يمرّ بها الجنين الإنسانيّ – مثلا - ، حيث إنّها تماثل التنوّعات التي مرّ بها الإنسان وفق نظريّة التطوّر.

السادس : دليل التوزيع الجغرافيّ، حيث نلاحظ اختصاص أنواع متشابهة يمكن أن تكون راجعةً إلى أصلٍ واحدٍ برقعةٍ جغرافيّةٍ معيَّنة، ولا موجب لهذا الاختصاص لولا تفرّعها عن أصلٍ واحدٍ كان يعيش في تلك الرقعة.

السابع : دليل تكيّف الكائنات الحيّة مع بيئتها، حيث نلاحظ انسجام هذه الكائنات في مجموع خصائصها مع البيئة التي تعيش فيها بما يقتضي حدوث تلك الخصائص وفق تلك البيئة ومقتضياتها. 

والبحث فيها بشيء من التفصيل :

شاهد الشبه بين الكائنات الحيّة جميعا

(الشاهد الأوّل): الشبه بين الكائنات الحيّة جميعاً.

وهذا الشاهد يُقرَّر بتقريرات ثلاثة : تقرير يستند إلى أصل التشابه بين الكائنات، وتقرير آخر يستند إلى التشابه الجينيّ المؤكَّد، وتقرير ثالث يستند إلى تدرّج الشبه على نحو متسلسل.

أمّا التقرير الأوّل : وهو الاستشهاد بأصل التشابه بين الكائنات فهو يبتني على مقدّمتين:

المقدّمة الأولى : ثبوت التشابه بين الكائنات الحيّة، وذلك من وجهين:

الوجه الأوّل : النظر إلى التشابه الصوريّ والتشريحيّ بين هذه الكائنات؛ فإنّ هذا التشابه أمر ملحوظ بمستوى محدود بالنظر إلى صورة الحيوانات على وجه مقارن وملاحظة نقاط الاشتراك بينهما، ويتبيّن أكثر بالنظر التشريحيّ، حيث إنّ التشريح يبيّن تشابه الهيكل العظميّ وأصول الأطراف والأجهزة المختلفة والأعضاء الداخليّة في الحيوانات المختلفة.. وهذا التقرير هو الذي ذكره داروين.

والوجه الثاني : النظر إلى وحدة الخريطة المقوّمة للحياة في الكائنات الحيّة كلّها ونعني بها الخريطة الجينيّة للخليّة.

بيان ذلك:  أنّ الكائن الحيّ - أيّاً كان نوعه نباتاً أو حيواناً بلا فرق بين قسامها - يتكوّن من خليّة، وهذه الخليّة متكوّنة من حروف جينيّة على النحو المعروف، وإنّما تختلف الكائنات الحيّة في طريقة تركيب الأجزاء الأوّليّة فيها، حيث تنقسم الكائنات الحيّة بعد اشتراكها في أصل مكوّنات هذه الخليّة في تفاصيل..

1- وقد قُسّمت بحسبها بالنظر إلى الشواهد التشريحيّة والجينيّة إلى  ممالك خمسة وهي: مملكة البدائيّات، والطلائعيّات، والفطريّات، والنباتات، والحيوانات.

2- ثمّ تنقسم مملكة الحيوانات إلى تسع شعب: الإسفنجيّات، واللاسعات، والديدان المسطَّحة، والديدان الخيطيّة، والديدان الحلقيّة، ومفصليّات الأرجل كالحشرات وعديدة الأرجل والعنكبيّات وغيرها ، وشعبة شوكيّات الجلد والحبليّات.

3- ثمّ تنقسم شعبة الحبليّات مثلاً إلى شعيبة الذيل حبليّات، والرأس حبليّات، والفقاريّات.

4- ثمّ الفقاريّات تنقسم إلى دائريّة الفم، والأسماك الغضروفيّة، والأسماك العظميّة، والبرمائيّات، والزواحف، والطيور، والثدييّات.

5- ثمّ تنقسم الثدييّات إلى الثدييّات الكيسيّة والثدييّات الحقيقيّة.

6- ثمّ تنقسم الثانية إلى آكلة الحشرات، وآكلة اللحوم، والحيوانات الحوتيّة، والحافريّة، والقارضة، والأرنبيّات، والخفّاشيّة، والريشيّات.

7- ثمّ تنقسم الريشيّات إلى أقسام من جملتها ما يندرج فيه الإنسان. ويجد الباحث بالتأمّل والمقارنة أنّ أصول الأقسام العليا متقاربة في صورتها وهيكلها التشريحيّ وجيناتها ثمّ تتفرّع إلى الأقسام الثانويّة مع حفظ وتيرة من التشابه بينها.

وهذا التقرير أُضيف بعد داروين، بالنظر إلى أنّه لم يكن قد تمّ في زمانه كشف الخريطة الجينيّة للحياة.

أمّا المقدّمة الثانية : فهي إنّه لا تفسير لهذا التشابه عدا تطوّر بعض هذه الكائنات عن بعضها الآخر في سلسلة تطوّريّة؛ لأنّ التشابه بينها حينئذٍ يكون حالة طبيعيّة بالنظر إلى العلاقة التطوّريّة بينها، ولو كان كلّ حيوان قد حدث بخلق مبتدأ لم يكن هناك داعٍ للالتزام بهذا التشابه بين الكائنات.

ويلاحَظ على هذا التقرير: عدم وضوح المقدّمة الثانية؛ وذلك لأنّ هذه المقدّمة تنطلق من افتراض أنّه في حال حدوث الكائنات بالخلق لا موجب لخلقها على نظامٍ واحدٍ ولا مراعاة تدرّجها من الأبسط إلى الأكثر تعقيداً. وهذا ليس أمراً مسلَّماً، فمن الجائز أن يكون للخالق غرض في خلق جميع الكائنات الحيّة على نظام واحد، لبعض ما يأتي:

1- أن يكون هذا التناسق بين الكائنات الحيّة أمراً منظوراً لذاته كوجهٍ من وجوه الروعة في الكون، كما هو الحال في وجوه كثيرة أخرى من التناسق الملحوظ في الكون.

2- أن يكون هذا النظام هو النظام الأتقن للحياة بين النظم الممكنة.

3- أن يكون هذا النظام هو الأنسب بالغاية المنظورة للخالق في هذه النشأة )الحياة الدنيا( التي هي نشأة الفناء والتجدّد.

4- أن يكون هذا النظام أوفق للتفاعل بين الكائنات الحيّة وبيئتها من المياه والتراب والهواء.

5- أن يكون هذا النظام أوفق لهذه الكائنات فيما بينها، وانتفاع بعضها ببعض على ما جرت عليه سنّة الحياة . 

وعلى الإجمال، فإنّ بناء الاستدلال على أنّه لا موجب لالتزام الخالق بوحدة نظام الحياة في جميع الكائنات الحيّة إذا كانت قد أُ وجدت بالخلق لا بتطوّر بعضها عن بعض ضرب من الغوص في عالمٍ مجهول؛ إذ لا اطّلاع لنا على البدائل  الممكنة ولا وجوه المقارنة بينها وبين هذا النظام، ولا على تفاصيل المنهج الإلهيّ وغاياته في الخلق، فكيف يمكن أن نثق بهذا المعنى.

هذا كلّه عن الاستشهاد بأصل التشابه بين الكائنات الحيّة على تطوّر بعضها عن بعض.

الاستشهاد بالتشابه الجينيّ المؤكَّد .

وأمّا التقرير الثاني : الاستشهاد بالتشابه، وهو الاستناد إلى التشابه الجينيّ المؤكَّد، فهو يبتني على مقدّمتين:

المقدّمة الأولى : إثبات هذا التشابه، ويقع ذلك على وجوه، منها ما يلي:

1- تطابق الجينومات بين بعض الكائنات على مساحة كبيرة من الحمض النوويّ.

ومن أمثلة ذلك:  ما ذُكر(1) من اشتراك الجينومات البشريّة والفأر، وكلاهما تمّ تُديدهما بدقّة عالية. وقد لوحظ أنّ الحجم الكلّيّ لكلا الجينومات متقارب، ومكان تخزين شفرة البروتين في الجين متشابه بشكل ملحوظ وهذا ليس محلّ الاستشهاد؛ ولكنّ الشاهد في توافق ترتيب الجينات في الإنسان والفأر بشكل عامّ يمتدّ على طول الحمض النوويّ. ولذلك، فإذا وجدتُ ترتيب الجينات في الإنسان على النحو التالي A,B,C ، فإنّ من المرجَّح أن أجد ترتيب الجينات في الفأر بنفس الترتيب، وإن كانت الفراغات الموجودة فيما بينها قد تختلف بعض الشيء.

وتمتّد هذه العلاقة في بعض الحالات لمسافات كبيرة تقريباً، لتشمل كلّ الجينات على الكروموسوم البشريّ، مثلا الكروموسوم البشريّ رقم 17 هو نفس الجين الذي تمّ العثور عليه في الكروموسوم رقم 11 في الفأر.

2- إنّنا عندما ننظر(2) في نسخة بعض الجينات نجد أنها أكثر تشابهاً بين الأقارب الأوثق عمّا بين الأقارب الأكثر بُعداً. على سبيل المثال (3) إذا لاحظنا جين (GLO) وهو جين ينتج إنزيماً يُستعمل في عمل فيتامين (C) الذي هو جين زائف في الرئيسيّات ومنها الإنسان نجد أنّ الحال فيها كذلك، فتسلسلات هذا الجين للإنسان والشمبانزيّ كمثال تشابه بعضها الآخر على نحو وثيق؛ ولكن  تختلف عن هذا الجين للأوانجوتانات (إنسان الغاب)  الذين هم وفق التطوّر أقارب بعيدون لهما، كما أنّ تسلسل هذا الجين لخنازير غينيا مختلف جدّاً عن الذي لكلّ الرئيسيّات.

ومن هذا القبيل الجينات الشمّيّة (OR) والتي يحمل الإنسان منها ثمانمائة يعمل منها حوالي أربعمائة فقط وتعطّل الباقي في الإنسان ومعظم الثدييّات، وربّما كان السبب فيه أنّ الرئيسيّات التي تنشط في النهار تعتمد على الرؤية أكثر من الشمّ، ولذا لا يحتاج إلى التمييز بين روائح كثيرة جدّاً فتُزاح بالتطفّر؛ ومن ثَمّ نجد الرئيسيّات ذوي الرؤية اللونيّة لديهم جينات (OR) ميّتة أكثر، والشاهد أنّا إذا نظرنا إلى تسلسلات جينات الاستقبال الشمّيّ البشريّة النشطة والمعطَّلة فهي أكثر تشابهاً مع التي للرئيسيّات الأخرى وأقلّ تشابهاً للتي لثدييّات بدائيّة كالبلايتبوس (مفلطح الفم أو منقار البطّة الأستراليّ)  وأقلّ شبهاً أكثر إلى تلك الجينات في أقارب بعيدين كالزواحف.

والمقدّمة الثانية: إنّ هذا التشابه الجينيّ المؤكَّد يتخرّج بناءً على تطوّر بعض الكائنات عن بعض بشكل طبيعيّ؛ ولكنّه لا يتخرّج وفق فكرة الخلق كذلك؛ إذ لا ملزم للخالق باختيار للالتزام بتماثل مئات الصفحات من الخريطة الجينيّة لعدّة كائنات إذا لم يكن أوجدها بتطوّر بعضها عن بعض.

وقد يمكن لشخص أن يقول: إنّ ترتيب الجينات أمر بالغ الأهمّيّة من أجل القيام بوظيفتها بشكل صحيح، وبالتالي فإنّ المصمّم قد حافظ على هذا الترتيب في خلقه لهذا الكائن الخاصّ.

لكن أُجيب عن ذلك: بأنّه لا يوجد دليل في الفهم الحاليّ للجيولوجيا الجزيئيّة يدلّ على أنّ هذا القيد نحتاجه على مسافات طويلة في الكروموسوم.

ولكن يُلاحَظ على هذا التقرير للاستشهاد: عدم تماميّة المقدّمة الثانية.. وذلك لأنّ التشابه بين الكائنات في الجينات وفق التشابه التشريحيّ والصوريّ بينها ينشأ عن العلاقة بين الجينات ونتاجها التشريحيّ والصوريّ، وبعد وجود علاقة الشبه صورةً وتشريحاً بين الرئيسيّات ثمّ بين كلّ قسم منها فإنّ من الطبيعيّ أن يكون هناك تشابه جينيّ بما يناسب تلك الدرجة بينها، وليس في ذلك ما يدلّ على نشأتها جميعاً عن أصل واحد.

علماً أنّ بعض الجينات ذات وظائف متعدّدة؛ بل قد يكون لاجتماع جينات معيّنة معاً أثر خاصّ على تكوين الكائن الحيّ، فضلاً عن الآثار المترتّبة  على كلّ واحد وهذا أمر معروف في علم الأحياء .

وعليه:  فإنّ من الوارد دخالة الترتيب المفترَض بنحو في كيان أسلم لهذه الكائنات في آنٍ واحد، وهذا احتمال وارد فيما أعلم في العصر الحاضر لاسيّما مع عدم تقدّم علم الجينات بدرجة يستطيع الإنسان أن يختبر المساس بهذا الترتيب وملاحظة مضاعفاته القصيرة والطويلة الأمد.

وأمّا ما ذُكر من مثال تقارب الفأر والإنسان في ترتيب الجينات فإنّه ينبغي التأكّد بشأنه عن مدى اطّراد هذا التشابه في باقي الأصول التطوّريّة المفترضة للإنسان ممّا هو أقرب إليه من الفأر، فإذا لم يكن التسلسل الجينيّ فيها مشابهاً مع الفأر كالإنسان فهذا يوجب الترديد في نشأة هذا التشابه عن ضرب من الوراثة الجينيّة عن سلف مشترك.

وأمّا التقرير الثالث : لدليل التشابه فهو كون هذا التشابه على نحو التدرّج؛ بمعنى تدرّج الكائنات الحيّة في مقوّمات الحياة فيها من الأبسط إلى الأعقد، فهذا الأمر لا تفسير مناسب له إلّا نشأة هذه الكائنات كلّها عن شجرة واحدة ممّا يمثّل وحدة مقوّمات الحياة فيها من جهة، ثمّ تولّدها من هذه الشجرة بالتطوّر من الأبسط إلى الأكثر تعقيداً.

وهذا التقرير يبتني على مقدّمتين أيضاً:

المقدّمة الأولى : تدرّج أنواع الكائنات من الأبسط إلى الأكثر تعقيداً بوجهين تفريعاً على وجهين سابقين للتشابه.

ف(التقرير الأوّل) : ما ينظر إلى تدرّج الكائنات في إمكاناتها وأعضائها، حيث نجد إنّهّا تبدأ بما يكون ذا إمكانات بسيطة وقليلة، وتتدرّج إلى ما يكون ذا إمكانات أكثر.

وهذا المعنى قد انتبه له العلماء المعنيون بتتبّع أحوال الحيوانات منذ عهد طويل قبل داروين(4) .

والتقرير الثاني: ما ينظر إلى تدرّج الكائنات في مقوّمات الحياة فيها، حيث إنّهّا تبدأ بذات الخليّة الواحدة وترتقي حتّى يصل إلى الإنسان الذي هو صاحب خريطة جينيّة معقَّدة للغاية تقدَّر معلوماته بمئات الألوف من الصفحات.

المقدّمة الثانية: هي أنّ تدرّج نظام الكائنات الحيّة لا تفسير له، إلّا افتراض نشأة الأعقد منها عن الأبسط في أثر العوامل الطبيعيّة؛ إذ لو كانت هذه  الكائنات مخلوقة من عدمٍ لم يكن هناك ما يوجب الالتزام بخلق الكائنات على

نحوٍ متدرّجٍ من الأبسط إلى الأكثر تعقيداً.

ولكن يُلاحَظ على هذا التقرير:  بعدم تماميّة شيء من هاتين المقدّمتين..

أمّا المقدّمة الأولى: وهي تدرّج الكائنات من الأبسط إلى الأعقد فقد يلاحَظ عليها بأنّ هذا التدرّج صحيح بعض الشيء؛ بمعنى أنّنا إذا لاحظنا الكائنات الحيّة بعضها إلى جنب وفق درجة الشبه بينها لاحظنا شبهاً تدريجيّاً في كثيرٍ من الموارد بين بعضها وبعض. إلّا أنّ ذلك:

 أوّلا : ليس مطّرداً؛ بمعنى أنّنا لا نجد هذا التسلسل التدرّجيّ في جميع الموارد.

وثانيا: أنّ مستوى التدرّج الملحوظ لا يبلغ إلى التدرّج القريب الذي يقتضيه التطوّر؛ لأنّ التطوّر يقتضي تدرّجاً قريباً بين الكائنات بحيث لا يمتاز اللاحق عن السابق إلا في شيءٍ يسيرٍ جدّاً، وهكذا، ومثل هذا التدرّج إنّما نجده في أصناف نوعٍ واحد، ولا نجده بين الأنواع؛ بل الذي نجده في الأنواع وجود فاصل معتدٍّ به بين نوعٍ ونوعٍ آخر.

وقد يُجُاب عن هذه الملاحظة: بأنّ ممّا لا شكّ فيه بحسب بقايا الحيوانات من العصور السابقة انقراض فئة كبيرة من الحيوانات، ومن الجائز أنّ جملةً ممّا انقرض منها كثير من الحلقات المتوسّطة؛ بل المستحاثّات التي عثر عليها العلماء يتضمّن نماذج من ذلك.

كما سيأتي ذكر بعض تلك النماذج في الكلام على شاهد التدرّج الوجوديّ للكائنات الحيّة.

لكن يبقى أنّ التدرّج الوجوديّ في الكائنات المشهودة فعلاً أو ما عُثر عليه في الأحافير لا يبلغ في شيء من الحالات إلى التدرّج القريب.

وثالثا: أنّ العبرة في إثبات التطوّر ليس هو التدرّج الصوريّ والتشريحيّ بل التدرّج الجينيّ؛ بمعنى أنّ الخريطة الجينيّة تبدأ من خريطة بسيطة ثمّ نلاحظ خريطةً ثانيةً لا تختلف عن الأولى إلّا في زيادة بسيطة في الحروف الجينيّة أو تغيير موضعٍ فيها، أو كلا الأمرين معاً، وذلك لما اتّضح في القرن العشرين من توقّف التطوّر على الطفرة الجينيّة، فلا يقع من دونّا، والطفرة إنّما تقع في كلّ حلقة بطبيعة الحال بشكلٍ محدود، ولا يحضرني بمقدار ما اطّلعت عليه أنّ الطفرات اليسيرة التي يقدَّر وقوعها هل هي منتجة لكائن حيّ سليم فعلاً أو لا. 

فهل يمكن أن تنشأ أداة الإبصار في الكائن بعد أن كانت فاقدةً لها في الإسفنجيّات مثلا بطفرة بسيطة في الخليّة، أو أنّ ذلك يقتضي طفرة كبيرة يرى جمهور علماء الطبيعة صعوبة الإذعان بها.

وأمّا المقدّمة الثانية:  وهي عدم انسجام التدرّج من البساطة إلى التعقيد مع نظريّة الخلق فيلاحَظ عليها : 

أوّلا :  بما تقدّم مثله في نقد التقرير الأوّل من أنّ من الجائز أن يكون هذا التسلسل الرائع والجميل عند التأمّل فيه أمراً منظوراً للخالق، أو يكون هو الأنسب بالغاية المنظورة في هذه النشأة أو أوفق بالتفاعل بين الكائنات الحيّة في

نفسها ومع سائر الكائنات التي تمثّل البيئة الحاضنة لها.

وثانيا: أنّنا لا ننكر أنّ للتطوّر قدرة تفسيريّة لظاهرة التدرّج هذه، إلّا أنّ هذا المقدار قد لا يكفي للاقتناع بهذه النظريّة بالالتفات إلى الاستبعاد الأوّليّ لنشأة الحواسّ والأطراف والأجهزة المختلفة للتكاثر والهضم وغيرهما، من دون مبدأ أوّليّ لهما كما تقتضيه نظريّة التطوّر، والمفروض عدم قيام دليل مادّيّ محسوس على أنّ الطفرة التي تُصل لعوامل طبيعيّة يمكن أن تفي بتضمين الخليّة معلومات جديدة من هذا القبيل ابتداءً. 

وللبحث تتمة في حلقة قادمة باذنه تعالى

الهوامش:

__________

(1) لاحظ لغة الإله: 149 .

(2) لاحظ لماذا النشوء والتطوّر حقيقة: 80 و 82 .

(3) لاحظ لماذا النشوء والتطوّر حقيقة: 80 .

(4) لاحظ ما جاء في مقدمّة أصل الأنواع بترجمة إسماعيل مظهر:6 - 7 عن رسائل إخوان الصفا، وفي: 8 عن ابن مسكويه  (ت421) في كتابه الفوز الأصغر وتهذيب الأخلاق حول التدرّج في الكائنات النباتيّة والحيوانيّة.


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


صدى النجف
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2018/07/26



كتابة تعليق لموضوع : نقد نظرية التطور – الحلقة 9 – مناقشة الشواهد الاستنباطية على التطور (الجزء الثاني) : آية الله السيد محمد باقر السيستاني
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net