صفحة الكاتب : صالح الطائي

حينما تصهل الكلمات قراءة في كتاب (أنا الشعر) للدكتور محمد تقي جون
صالح الطائي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

طالما عد المنجز الفكري الأكاديمي عصيا على فهم أغلب شرائح المجتمع لما يتميز به من خصوصية ترقى أحيانا إلى مستوى التكلف في انتقاء المفردات وامتحان الجمل لتتساوق مع نظرة الناس إلى الدرجة العلمية التي يحملها الأكاديمي فتميزه عمن سواه بكل ما تمثله من جهد يمتد إلى جذوة سنين الشباب فيعتصرها وساعات العمر فيختزلها في بحث أو كتاب وسعي وراء المعلومة، لكن الدكتور محمد تقي جون القادم من بيئة البساطة البعيدة عن صيغ التكلف والتصنع أبى أن يقلد الآخرين وأبى إلا التمسك بأحقية أن يكون الفكر للجميع، وبقى أسير هذا المنهج السهل الممتنع بكل ما يمثله من بساطة وتحبب تجعله قريبا من عقل وقلب المتلقي حتى لكأن من يقرأ نتاجه يشعر أنه يعرفه وإن لم يلتقيه، فصورته تبدو واضحة بين الأسطر ومن خلال صهيل الكلمات.
أفاد الدكتور محمد تقي من دراسته التاريخية وحبه وتدبره له (1) ودراسته الأدبية (2)  بأن وشّج بين الصنعتين فبدت الأرخنة واضحة في نتاجه الأدبي، وصنعة الأدب واضحة في نتاجه التاريخي، فبات تاريخه أدبا وأدبه تاريخا. ولكي يجدد مفهوم الازدواجية بعيدا عن نمطية التقليد ومرتديا ثوب التجديد أحدث مزجا فريدا بين الاثنين (الأرخنة والبلغنة) ليخرج علينا حاملا (المتنبي مؤرخا) و(شعر الثورات العلوية بين الأرخنة والفن)(3) حيث بدت سلطة التأثير التاريخي على المضمون الأدبي واضحة جلية، ثم خرج حاملا (العروض الرقمي) و(سلطة الشعر الجاهلي على الشعر العباسي) (4)  حيث المضمون الأدبي يتناغم ويتلاعب بالجانب التاريخي ويوظفه لا من حيث الأرشفة السردية القصصية وإنما من حيث العبرة التوثيقية البلاغية. وفي مرحلة ثالثة اتجه إلى النص المفتوح جامعا بين السرد النثري والنظم الشعري ليوّشج بين الاثنين برباط وحدة الهدف واستهداف الوحدة المفقودة وصولا إلى نبض إنسان الشارع الشعبي حيث تتحول الصور الحياتية اليومية لبسطاء الناس وهم يعملون، يعانون، يأملون، يحلمون إلى حكم تلهم العلماء معنى المعاناة فأبدع (منامات ابن سيا) (5)
واليوم يعود الدكتور محمد تقي جون ممتطيا ظهر أصائل الكلمات يخب بها وسط ميادين التاريخ باحثا عن وشائج العلاقة بين دهر ولى ودهر حاضر يتجلى، يحمل روح المستكشفين والرحالة القدماء ابن بطوطة وابن فضلان والمقدسي، جائلا في مفازات العتمة والأفق اللامحدود، باحثا عما يجمع بين الاثنين، بين التاريخ والتاريخ، وبين الشعر والشعر ليكتب تاريخا مرصعا بجواهر الشعر.
يعود ليحكي لنا عن رحلته إلى هناك، إلى  تلك الأماكن المنسية حيث تسمع صهيل الكلمات وكأنها خيول جامحة تتفصد عرقا ودما في داحس والغبراء تثمر كلماته جمانا بين وريقات الحاضر تشم من خلاله عبير التاريخ وتاريخ العبير المتواصل، فيتمظهر أمامك الشعر العصري متجلببا رداء أجداده أهل الجاهلية والبداوة وكأن السنين لم تتقادم والأيام لم تتسافد فتلد حضارات تلو حضارات وقيم ومستجدات بعيدة ليس عن مواريث الأمس وحدها بل حتى عما مر قبل ساعات، وهذه متلازمة تبدو لغير ذوي الاختصاص أحجية من قصص الجدات والعجائز الجالسات حول مواقد الشتاء، أو تناص مع قصص ألف ليلة وليلة مغرق بالسذاجة والفطرية أو كأنها من المسلمات التي لا تحتاج جهدا لكي تعرف تماما كما هو النطق ولفظ الكلمات كان ولا زال يحمل نفس السمات.
أما المتخصصين الباحثين عن جذور الوقائع وجذوتها والذين يمعسون في رماد الذكريات بحثا عما يترجم الذات فلا يبحثون مثل غيرهم عن مظاهر الشبه وتطابق العروض والوزن فتلك أوضح من شمس لبصير ومن إشارة لمشير، وإنما يبحثون في الخارطة الوراثية (دي أن أي) عن نقاط ليست ظاهرة للعيان وقد لا يدركها الإنسان لأنها تقع عادة في المناطق المنسية والزوايا المظلمة والوجه الآخر المحجوب عنا وتلك وربي مهمة ليست باليسيرة وجد خطيرة.

لقد أبان العلم الحديث أن المثاقفة أو التناقل الثقافي بين الأجداد والآباء والأبناء يخضع عادة إلى نفس عوامل التطور التي تؤثر في أسلوب تكلمهم وطرائق تفكيرهم ونمط ملابسهم وسبل عيشهم فيصيبها التقادم بالوهن ثم التبدل كلما ابتعد المتلقي عن الأصل ووسعت الفجوة الزمنية بينهم، وأنْ تأتي لتثبت خلاف ما تعارف عليه العلماء حتى ولو كنت مهتما بجزئية واحدة من مجمل الحراك فذلك يعني انك تضع نفسك موضع المتحدي، ويعني انك سوف تواجه الكثير من المنافسين الأشداء وتتعرض إلى قدر كبير من النقد الذي قد يكون حادا في بعض الأحيان وقاسيا في أحيان أخرى، ولذا يجب أن تتسلح بكل المتاحات العلمية والعقلية لتكون قادرا على إثبات وجهة نظرك بثقة وتمكن كبيرين ولاسيما إذا ما كنت باحثا مهتما بالتنقيب عن الأسس والأسباب رغم بعد الشقة وجسيم المشقة.

تسلح الدكتور محمد تقي بخبراته التاريخية والبلاغية وملكته الشعرية وخاض غمار لجج بحر الظلمات باحثا في الأعماق عن تفسير لأسباب خلود الشعر الجاهلي واستمرار سطوته على شعر العصور الإسلامية كلها وصولا إلى الشعر العربي المعاصر الحديث. ومفتشا عن القوى الخفية التي منحته وهو الموصوم بالجاهلية روح التأبي الكبير على التلاشي متجاسرا على الوقوف بكبرياء بوجه موجة أسلمة الشعر الذي أحدثه سحر البيان القرآني بتألقه الذي سلب لباب فحول الشعراء قبل غيرهم وألهاهم عن تذكر صنعتهم القديمة كما الأعشى ولبيد وحسان بن ثابت.
 وهو التأبي عينه الذي مكنه بعد أربعة عشر قرنا من الوقوف بوجه تحديات موجات التجديد والحداثة والعصرنة والعولمة التي قلبت حياتنا رأسا على عقب فتخلينا بسببها عن كثير من قيمنا التي كنا نقدسها لكي لا نتهم بالرجعية أو السلفية الفكرية، وبتنا نتغنى بقصيدة الشعر الحر ولكننا لم نجرؤ على التخلص من أوزان شعرنا الجاهلي، ونكتب القصيدة النثرية وندعي دفاعا عنها وربما عن أنفسنا أنها دلالية تبحث عن جمالية ومع ذلك تجدها تسير على أنماط من أوزان شعر الأقدمين بعد ترويض القافية.
صدر هذا الكتاب الجميل عن مطبعة الطيف في واسط بعنوان (أنا الشعر، دراسة في أساسات الشعر الجاهلي وصلاحيتها لعصور الشعر العربي) بمائة وثلاث وأربعين صفحة، وهو إضافة جميلة للمكتبة الأدبية العربية فضلا عن كونه بحثا جديرا بالقراءة نظرا لكم المعلومات والأبيات والآراء والأفكار والاستنتاجات الكبير الموجود فيه    

الهوامش
(1)    من خلال دراسته في معهد التاريخ لنيل درجة الدكتوراه، وفيه قسمان: تاريخ وتراث يجمع كل العلوم والفنون كالطب والرسم والشعر وهو بنظام غربي
(2)    حاصل على درجة الماجستير في الأدب العربي
(3)    كتابان مطبوعان ومنشوران للباحث
(4)    كتابان آخران مطبوعان ومنشوران للباحث
(5)    كتاب آخر مطبوع ومنشور للباحث
 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


صالح الطائي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2011/12/22



كتابة تعليق لموضوع : حينما تصهل الكلمات قراءة في كتاب (أنا الشعر) للدكتور محمد تقي جون
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net