صفحة الكاتب : د . علاء سالم

الطابور مسرحية بمشهد واحد بقلم
د . علاء سالم
المسرح  زقاق في حي شعبي ، دكان في الوسط ، على جانبي الدكان يمتد طابوران , اليمين للرجال واليسار للنساء، الطابوران يمتدان إلى خارج المسرح , في مقدمة طابور الرجال يقف رجل أعمى يرتدي نظارة سوداء كبيرة , خلفه مباشرة رجل بدين وخلفه شاب أنيق الملبس حسن الوجه , في وسط جزء طابور الرجال الظاهر على المسرح  رجل متوسط العمر يجلس على صفيحة معدنية تحيطه هالة من دخان سجائره التي يدخن اللاحقة منها بجمر أعقاب الفائتة  يقف خلفه طفل وخلف الطفل مباشرة كهل مقعد جالس في عربة متحركة , أغلب من في الطابور هم رجال متوسطي العمر..!
طابور النساء يمتد إلى الخارج بطريقة تناظر طريقة امتداد طابور الرجال تماما تتقدمه امرأة قبيحة الوجه يمتد خلفها الطابور النسائي متكونا من خليط من العجائز ومتوسطات العمر وبعض العشرينيات أيضا, الجميع غارق في سكون مطبق..!
( ( ملاحظة: تكون حركات بعض من في الطابور من غير المشاركين في الحوار حركات عفوية تنم عن الملل, الاستعجال, القلق, لكن غالبيتهم يجب أن يواصلوا سكونهم وترقبهم الصامت طيلة العرض ))
دقيقتان من الصمت بعد فتح الستار..
ضجّة في الخارج..
رجل كهل يُدفع إلى داخل المسرح بقوة , يتهاوى , يستعيد توازنه قبل أن يقع , يلتفت إلى الجهة التي دفع منها , يبصق بغضب
الكهل : (بامتعاض) جيل آخر وقت , بلا احترام , بلا تربية...أغبياء..سريعي اليأس ( يضيّق عينيه ) سري..عي اليأس ( صمت..يعيد النظر بما قاله ) ونحن؟! (يضيّق عينيه )( بلا مبالاة )ربما كنّا طويلي الأمل.. (ثانية صمت ) قليلا 
( لا أحد يلتفت إليه, يعيد ترتيب هندامه , يتقدم نحو الدكان , يقف أمامه مباشرة دون أن ينظم إلى أحد الطابورين , يخرج زجاجة ويسكي من جيبه يفتحها ويشرب جرعة صغيرة ثم يعيدها إلى جيبه مرة أخرى , يغرق في سكون من حوله وصمتهم وكأنه كان واقف معهم منذ البداية)
(دقيقة صمت)
البدين (للكهل): ( بتهكم) يبدو أن الأستاذ من الجنس الثالث ( يتفحصه ) مظهرك لا يكفي لكي تكون مثقفا, ينقصك الوقوف بأدب في نهاية الطابور..
( يتفحص الكهل ملابسه ثم يعود لسكونه دون أن يلتفت إلى البدين )
(صمت)
البدين : يا سيد نحن واقفون منذ الصباح وأنت أتيت الآن لتزاحمنا على أرزاقنا..
الكهل : ( يتفحص البدين بازدراء) إذا لم أكن مخطئا فالموظف المسؤول هنا أكثر رشاقة منك ( بصوت منخفض قليلا ) وأقل سذاجة..
البدين : ( بانفعال ) قد أتناسى لدقيقة واحدة بأني رجل مهذب حينها ستجد نفسك مسحوبا من ربطة عنقك هذه ومرميا في نهاية الطابور...
الكهل : أنت واقف ضمن النظام وستحصل على نصيبك من عطاء اليوم في الوقت الذي يستحقه مكانك في الطابور دون أن تتأخر ولا دقيقة واحدة وسوف لن أحصل أنا على أكثر من التوبيخ ( بلا مبالاة ) لا أرى ما يضايقك في وقوفي هنا...
البدين : وقوفك هنا يقلقني ( بامتعاض ) لي حياة مليئة بالقلق ( بألم ) أريد أن تكون دقائقي هذه محض أمل لا يشوبه شيء من القلق ( بإصرار ) سترجع إلى نهاية الطابور يعني سترجع إلى نهاية الطابور...
الشاب ( للكهل ): إذا كنت جادا بالحصول على حصة ما ففي رجوعك إلى نهاية الطابور أمل في حصولك على ما تريد في هذا الأسبوع على الأكثر, لن تجد في مكانك هذا غير ألم مراقبة الناس وهم يستمتعون بحصصهم صدقني لقد خضت تجربتك الفاشلة هذه لعدة أيام...
الكهل : هه  ( يقلد كلام الشاب ) إذا كنت جادا..( بثقة ) لا تقلق بشأني تربطني علاقة وثيقة بصاحب الدكان هذا..( يحس بأنه سُحب للبوح بسر حيلته دون أن يقصد, يرتبك, يحاول لملمة الموضوع ) أقصد..أقصد...
البدين : (بغضب) كنت أعرف أنك محتالا عندما رأيتك ترتدي بنطالك بلا حزام, سأريك نتيجة استغفال حشد من المثقفين ( يهاجمه )
(لا أحد يغادر مكانه لمنع البدين من مهاجمة الكهل, بعض الواقفين يراقب المشهد بصمت بينما لا يكترث البعض الآخر, يمسك البدين بياقة الكهل)
الكهل : (بصوت مختنق ) حسنا..حسنا..سأقف في الطابور..ح..حسنا..
(يرمي البدين الكهل إلى الأرض ويعود إلى مكانه, يقف الكهل يرجع قميصه إلى داخل بنطاله يستخرج زجاجة الويسكي من جيبه يفتحها ويشرب جرعة صغيرة ثم يعيدها إلى جيبه, يمد نظره على طول طابور الرجال يطلق حسرة, تلمع في ذهنه فكرة يستدير بقوة نحو طابور النساء يسكن للحظة يتقدم بهدوء ووقار نحو طابور النساء, ينظر إلى المرأة قبيحة الوجه يضحك, يحاول أن يرسم على تعابير وجهه حركات مشابهه لوجه المرأة, المرأة على سكونها غير مبالية بحركاته, يضحك مرة أخرى ويحشر نفسه في المكان الضيق بينها وبين وباب الدكان...)
البدين: ( يصفق يدا بيد ) أففف..أففف  (بانفعال ) سأهشم عظامك هذه المرة يبدو أنك تظن نفسك أذكى من الآخرين ( يتقدم نحو الكهل فيوقفه الشاب الوسيم )
الشاب :( يمسك بالبدين) دعك منه وانظر لما عندك أنت, انظر لنفسك أنت ثاني من في الطابور ( ينظر إلى الرجل الأعمى ) ووجود الأستاذ هنا يعني أنك الأول ( ينظر إلى ساعته ) لم يبق الكثير على بدء الدوام الرسمي ومجيء أستاذ كارون لفتح دكانه, من المؤكد أنك ستحصل اليوم على نصيبك الذي تريد..دعك من هذا الكهل, دعك منه..
( يعود البدين لمكانه ويرمق الكهل غير المكترث بغضب )
البدين : ( يصفق يدا بيد ) لا حول ولا قوة إلا بالله .. لا حول ولا قوة إلا بالله...
(يستخرج الكهل زجاجة الويسكي, يقدمها للمرأة قبيحة الوجه, تشير له بعدم رغبتها بالشرب يستهزأ بوجهها مرة ثانية, يشرب جرعة صغيرة ويعيد زجاجة الويسكي إلى جيبه ويعود إلى سكونه وصمته من جديد)
(دقيقة صمت)
(من جهة اليسار تدخل المسرح امرأة أنيقة المظهر تدفع عربة طفل فارغة, تقف عند الرجل الجالس على الصفيحة المعدنية, تسعل, تزيح دخان السجائر عن أنفها وفمها باشمئزاز)
المرأة :( بغضب ) التدخين مرة ثانية ؟! كم مرة تخلف وعدك لي بالإقلاع عن عادة المتخلفين هذه ثم تعاودها من جديد كيف لي أن أثق بك مجددا ( لا جواب ) ( تصرخ ) موفق إني أكلمك...موفق..!
موفق : ( يضحك بألم وسخرية ) هه .. ماذا يجب أن أقول ؟!
المرأة : لا أرى سببا وجيها للضحك..
الرجل : وهل الضحك حرام ؟!
المرأة : نعم حرام..
الرجل : ( يسحب قدرا كبيرا من دخان سيجارته إلى صدره ويزفره دفعة واحده ) منذ متى؟!
المرأة : أكره أسلوبك هذا..( تسحبه من يده ) هيا انهض, ارجع معي إلى البيت..
الرجل : لن أرجع..
المرأة :( تأخذ السيجارة من يده ترميها على الأرض وتدوسها بحذائها ) هيا انهض لن أدعك مع هؤلاء المرضى المتخلفين..
الرجل : ( يستخرج سيجارة أخرى من علبة سجائره ) قلت لن أرجع ولن أرجع في كلامي..
(تجلس المرأة, تضع رأسها على عربة الطفل, تتظاهر بالبكاء, دقيقة صمت, ترفع رأسها..)
المرأة : موفق..موفق حبيبي...( لا جواب ) موفق أرجوك لا تفعل هذا بي... عد معنا أرجوك, دعك مني لا تعد من أجلي ( تشير لعربة الطفل ) عد من أجل ابنك هذا..
الرجل : ( باستهزاء ) هه ابني؟!  أين ابني هذا؟! ( ينظر للعربة ) عربتك فارغة كالمعتاد..!
المرأة : ابنك أ... ابنك الذي ننتظره, أقصد الذي قد أحمله في أحشائي في أية وقت, أ...., عد إلى المنزل على أية حال من الممكن جدا أن أصبح حاملا في الأسبوع القادم أو الأسبوع الذي بعده أو..أو
الرجل : منذ متى وأنت تجرين عربتك الفارغة هذه؟!
المرأة : تقصد منذ متى ونحن ننتظر امتلاء هذه العربة..؟! ثم إنها ليست فارغة ( تنظر إلى العربة ) ممتلئة ( تصمت لثانية ) تقريبا
الرجل : ( مستفهما ) ؟!
المرأة : بالأمل ....
الرجل : أمممم الأمل....
المرأة : أحيانا أحس بأن ليس لديك رغبة بالحصول على طفل..؟!
الرجل : كانت رغبتي الوحيدة هي أن أملئ لك هذه العربة الفارغة التي أكلت كل شيء ولم تمتلئ لحد الآن..
المرأة : دعك من كلمة " كانت " وارجع معي إلى المنزل أعددت لك فطورا, سيعجبك...
الرجل : متى كانت آخر مرة أعددت بها الفطور لنا..؟!
المرأة : منذ أن تزوجت كومة أوراقك البيضاء التي تمضي ليلك ونهارك بتسويدها وطلقتني..
الرجل: ( يدخن سيجارة أخرى ) وها أنا طلقتها أيضا...
المرأة : عد معي أرجوك..أعدك بأني سأجعلك سعيدا هذه المرة..
الرجل : كم مرة أخلفتي وعدك لي بجعلي سعيدا؟!, كيف لي أن أثق بك مجددا؟!
المرأة : عد, عد من أجلي جرب هذه المرة فقط من أجل ذكرياتنا السعيدة أرجوك أعدك بأني سأعد لك الفطور يوميا ( صمت ) و وسأسمح لك بتقبيلي قبل أن تنام...
الرجل : لن أرجع..
المرأة : سوف لن أقاطعك وأنت  تعزف على البيانو..سوف لن أعترض على ما تقضية من وقت في الكتابة.. ( لا جواب ) عد عد أرجوك..
الرجل : ليس في ذهني ما يصلح للكتابة..
المرأة : أكتب عن أي شيء ( تتلفت حولها تشير للجمهور ) اكتب عن هؤلاء ( تشير إلى الطابور ) أو عن هؤلاء..نعم نعم عن هؤلاء..
الرجل : لن أرجع..
المرأة :والحل؟!
الرجل : سأبقى واقفا هنا وسأحصل على نصيبي من عطاء اليوم, أنتي اذهبي إلى نهاية طابور النساء وانتظري نصيبك أيضا ( يدخن سيجارة أخرى ) سأراك بعد أن يستلم كل منا نصيبه, قد نتفق عندها ( ينفث الدخان ) وقد نعيش بسلام..
(لحظات من الصمت, تسحب المرأة نفسا عميقا, تزفره تدفع عربة الطفل وتعود من الاتجاه الذي عادت منه..)
(دقيقة صمت...)
(يدخل المتسول من يمين المسرح, رجل متوسط العمر, حليق الذقن, يرتدي قميصا وبنطالا وربطة عنق باليات ومتسخات قليلا, يحمل على ظهره كيسا كبيرا من النايلون الشفاف في قعره مجموعة من الكتب والاوراق المتكدسة بلا انتظام, الاستكانة واضحة على خطواته وتعابير وجهه, يدقق في الواقفين وكأنه يبحث عن أشخاص معينين, يقف عند رجل كبير السن واقف في نهاية جزء الطابور الظاهر على المسرح تقريبا)
المتسول ( يمد يده للرجل ): ( باستكانة وتذلل ) محتاج ( لا جواب من الرجل ) لي ثلاثة أطفال عليّ أن أغذيهم في هذا الزمن الصعب.. ( لا جواب من الرجل ) أرجوك..أقبل بأي شيء ...
الرجل ( يهز يده ورأسه باستهزاء ) : ابحث عن رزقك عند غيري...لن تجد عندي ما سيعجبك..
المتسول : أقبل بأي شيء..أي شيء...
الرجل : ( بامتعاض ) يبدو أنك غبيا بالفعل..قلت أنك سوف لن تجد عندي ما سيعجبك, أرحل قبل أن افرغ ما في كيسك هذا على رأسك...
( يهز المتسول رأسه بخيبة أمل وينتقل مدققا في وجوه الواقفين, يصل إلى الرجل الجالس على الصفيحة المعدنية " موفق ", يدقق في وجهه , يمد يده نحوه..)
المتسول : ( بتذلل ) محتاج...لدي ثلاثة أطفال علي أن أغذيهم....
موفق : آسف لا أحمل ما قد يفيدك بشيء...
المتسول : أقبل بأي شيء
موفق : لو كان لدي ما قد ينفعك لما تأخرت بمنحك إياه...
( يتنهد المتسول ويغادر متقدما )
موفق ( للمتسول ): تعال...
المتسول : ( بلهفة ) نعم, نعم, كنت أعرف أنك سوف لن تقصر معي, ماذا تحمل معك, أرني إياه بسرعة أرجوك...
موفق : لا أحمل شيئا... ولكن..أ.., هل عندك ورقة وقلم...
المتسول ( يبحث في جيوبه ): نعم, نعم أعتقد ذلك..
موفق : سأكتب لك شيئا ما...
( يستخرج المتسول ورقه متسخة من كيسه وكسرة قلم رصاص من أحد جيوبه ويناولهما لموفق )
موفق ( يأخذ الورقة والقلم ): في أي مجال تعمل...
المتسول : الطب سيدي...
موفق : أممم , في أي اختصاص بالضبط...
المتسول : جراحة القلب...
موفق : اممم ودخلك المادي جيد جدا..أليس كذلك؟ّ
المتسول : بل ممتاز سيدي...
موفق ( ينظر للورقة ): واضح جدا... ( صمت ) قل لي يا دكتور  أأ...
المتسول : أسعد..أسعد يا سيدي...
موفق ( يبتسم ): أمم أسعد ...على كل حال.. لماذا تريد تغذية أطفالك بهذه الأشياء يا دكتور أسعد ؟! كتب , فلسفات , أفكار , خيال...
المتسول : لا أريد لهم أن يعيشوا الفراغ الروحي الذي عشته سيدي...
موفق : مشكلتك أنك انتبهت أو نُبهت بمعنى أصح لفراغك الروحي لسبب أو لآخر لكنك لو لم تُنبّه لشيء كهذا لمت بسعادتك دون أن تعرف أن هناك شيء ما يسمى فراغا روحيا....لو سألتني النصيحة لقلت لك أن عليك أن تتركهم تافهين بلا هذه الأشياء و أنا أضمن لك أنهم سيعيشون عمرا طويلا وسيقضون نهاراتهم ضاحكين  ويغطون كل ليلة بنوم عميق بمجرد أن يضعون رؤوسهم على وساداتهم  لا أرق , لا حزن , هه لا تفكير بالموت...
المتسول : وماذا لو انتبهوا لما انتبهت أنا له متأخرا...
موفق : سيكونون سيئي الحظ إذن, على كل حال  قد يجدون من سيضع لهم في أكياسهم بعض الهم الذي سيجدونه ثقيلا جدا حين يضعونه على أكافهم...
المتسول ( ينظر لكيسه ) : قد..!
موفق ( يهز رأسه ) : نعم قد..
المتسول : هل أنت مقتنع بنصيحتك هذه سيدي ؟!
موفق : لا طبعا...
المتسول ( يستفهم ): ؟!
موفق : سأكون صريحا معك ولكن أريد منك أن تجيبني على سؤال أو سؤالين أولا...أنت درست علم التشريح أليس كذلك ؟!
المتسول : نعم ولكن ..
موفق: دعك من ال لكن ... قلي شخص مثلي لم يدرس علم التشريح كما فعلت أنت ما هي الصورة التي قد يكونها في مخيلته عن رأس الإنسان إذا ما طلبنا منه أن يتخيل رأسا لإنسان ما...؟!
المتسول : شكل خارجي فقط ...وجه بتفاصيله, شعر أأأ, شكل خارجي فقط...
موفق : وبالنسبة لك كيف ستكون نفس الصورة في مخيلتك...
المتسول : الشكل الخارجي نفسه إضافة إلى...
موفق : إضافة إلى ماذا...
المتسول : خريطة دقيقة جدا لما هو في داخل الرأس أغشية وأوعية دموية و أجزاء دقيقة ووظائف أشياء معقدة جدا...
موفق : وأنت تعرف مهمة كل هذا جزء بهذا النظام كيف يعمل وكيف ممكن أن يتضرر وكيف يُتلافى الضرر وكيف يُعالج...
المتسول : شئ من هذا القبيل تقريبا...
موفق : إذن أستطيع أن أقول أن تصور الإنسان التافه للكون الذي حوله, لشخصيات الآخرين وعلاقاتهم به, تفسيره  لما يسرون, لما يعلنون, نظرته للأحداث, للكائنات, للأشياء التافهة والبسيطة هي نظرة ساذجة وسطحية بقدر نظرة الشخص الذي لم يدرس الطب والتشريح للرأس الإنساني على العكس من نظرة الإنسان المتبصر الذي ملئ كيسه بما تبحث أنت عنه الآن ينظر لهذه الأشياء والأحداث بصورة أصح, يراها على حقيقتها تماما, يرى البعد الرابع لكل ما حوله....
( صمت)
المتسول : لا أتصور أن الإنسان خلق كي يكون ساذجا وسطحيا....
موفق : ولكن للإنسانية ثمن...
(صمت)
المتسول : أتعتقد أن هناك من رأى البعد الرابع هذا دون أن يضطر لدفع ثمنه الباهظ ؟!
موفق : لا أعرف...لكنك سوف لن تجده بين هؤلاء الواقفين على ما أعتقد...
( يغرق الاثنين بصمت يستمر لبضعة ثوان )
المتسول : قلت أنك ستكتب لي شيئا ما...
موفق : نعم, نعم ( يكتب شيئا على الورقة ويناولها للمتسول) هاك, هذا كل ما يستطيع أن يعطيك إياه شخص بمزاج مثل مزاجي الآن ( يبتسم )
( يقرأ المتسول ما كتب على الورقة , يضيق عينيه , يفتح كيسه ويضع الورقة فيه, يحاول حمل الكيس, يجده أثقل قليلا, يحمله بعد المحاولة ويغادر تاركا موفق لسيجارة جديدة, يدقق في وجوه الواقفين, يقف لوقت أطول أمام الشاب , يبتسم عند رؤية البدين بينما يغادر الرجل الأعمى دون أن ينظر له أصلا, يتجه نحو الكهل الواقف بمقدمة طابور النساء )
المتسول : محتاج..لدي ثلاثة أطفال...
( يبحث الكهل قليلا في جيوبه, يستخرج كتابا صغيرا بورق أصفر وبلا غلاف ويعطيه للمتسول, يضع المتسول الكتاب في كيسه ويحمل الكيس بخفه ويضعه على ظهره, يلقي نظره سريعة متفحصة في طابور النساء وهو واقف في مكانه , يهز رأسه ويغادر المسرح من الطريق الذي قدم منه )
( دقيقة صمت )
(يدخل الموظف كارون , رجل أنيق بلباس رسمي, يحيط به اثنان من الشباب المسلحين, الطابور على  ذات سكونه وصمته المعتادين...)
كارون ( لمرافقيه ): الأعداد تتزايد هذا الأسبوع يوما بعد يوم...
أحد المرافقين : شيء متوقع أن يتزايدوا هذا الأسبوع ..العيد يقترب..
الآخر : يبدوا أن يوما شاقا بانتظارنا...
(يقف الموظف كارون أمام الدكان, يبحث عن المفتاح في جيبه, يستخرجه, يفتح القفل ويرفع أحد الشابين باب الدكان المنزلق..الدكان ضيق تقريبا وفارغ تماما, ليس فيه سوى لوح خشبي مركون جانبا, ركن الدكان البعيد يفتح إلى الخلف ببابين أحدهما على اليمين والآخر على اليسار, يتقدم أحد الشابين يستخرج اللوح الخشبي ثم يلتفت يمينا وشمالا وكأنه يبحث عن شيء ما...)
الشاب الذي يحمل اللوح ( لكارون): أستاذ لا أعرف أين ذهب المقعد الذي نستخدمه لتعليق اليافطة..
كارون : أين ذهب يعني؟! ( لمرافقه الآخر ) أذهب وابحث عنه في الفناء الخلفي, أتمنى أن أعرف معنى لعبارة " عدم تحريض الناس " التي نتحمل من أجلها عناء إنزال هذه اليافطة اللعينة كل مساء وإرجاعها إلى مكانها في الصباح...
( يدخل المرافق إلى الدكان ويخرج من أحد بابيه الخلفيين ثم يعود بعد قليل للدكان حاملا مقعدا خشبيا يضعه أمام الدكان فيصعد عليه المرافق الذي يحمل اليافطة ويعلقها في واجهة الدكان, اليافطة بيضاء كبيرة ومكتوب عليها عبارة  واهب الموت بالخط الأسود...ينزل المرافق الأول من على المقعد ويعيده الآخر إلى داخل الدكان )
كارون : والآن ماذا لدينا ( ينتبه إلى الكهل الواقف في مقدمة طابور النساء والمنهمك بالبحث في جيوبه ) لحظة..هه لحظة ( للكهل ) ماذا تفعل هنا؟!... ( للشابين ) أرموه بعيدا..
الكهل :( مكملا بحثه في جيوبه ) لحظة يا أستاذ, لحظة من فضلك, لحظة لدي ما أريك إياه (  يستخرج قصاصة ورق صغيره من جيبه ) هذه من السيد جواد, تربطني به صداقة وثيقة قال إن له تأثير عليك ( يأخذ كارون الورقة من يد الكهل ويقرأها) قال أعطها لأستاذ كارون وقل له إني من معارف أستاذ جواد..نعم نعم لقد قال ذلك حرفيا..
كارون : أف..مشاكل وإحراج منذ الصباح ( يعيد الورقة للكهل ) كل احترامي للأستاذ جواد لكن يأسفني أن أقول لك أني لا استطيع...! نقبل وساطات هؤلاء الرجال في كل شيء إلا الموت لا أستطيع أن أعطيك جوازا للموت من عطاء يوم ما دون أن تستحقه بتحملك عناء الوقوف ببابه لأن هذا يعني أني سأعطيك حق شخص آخر وقف هنا لبضعة أيام بانتظار نصيبه, لا, لا,  لا أسمح لنفسي بالقيام بشيء كهذا, سيؤنبني ضميري كثيرا لو فعلت...
الكهل : ولكن...
كارون: ( يقاطع الكهل ) لا استطيع.. ( يكلم الأعمى ) منذ متى وأنت واقف هنا يا سيد( يستدير الأعمى تاركا المسرح...يخرج ) عجيب أمر هذا الرجل ينفق الأيام ليصل إلى هنا ثم يخرج تاركا مكانه بمجرد أن أوجه إليه كلمة ما...! ( يتقدم البدين مبتسما بعد أن أصبح أول من في طابوره كما يتقدم جميع من خلفه أيضا خطوة واحدة فيضاف للجزء الظاهر على المسرح من طابور الرجال شخص جديد من الجزء المفترض وقوفه خارجا )( للكهل) على كل حال ليس باستطاعتي أن أخدمك بشيء عد إلى نهاية الطابور...
( يطرق الكهل, ينظر إلى الورقة, يرميها, يستخرج زجاجة الويسكي يشرب جرعة صغيرة ويعيد الزجاجة إلى جيبه ويغادر المكان يجر بخطواته جرا)
كارون (لأحد مرافقيه الشابين ): أففففف...ناد عليه...( ينادي على الكهل فيعود منتشيا ) لا أستطيع أن أرفض طلبا لأستاذ جواد, سأعطيك فرصة ولكن تحتاج إلى بعض الحظ لكي تصبح فرصة حقيقية...
الكهل : نعم, نعم سأبذل ما في وسعي لإكمالها...
كارون : عليك أن تجد من بين هؤلاء من يقبل على أن يشاركك رصاصته..
الكهل: ( يستفهم )؟!
كارون : أطلبت منك إيجاد حلا لأحجية ما؟! عليك أن تجد من يقبل أن تضع رأسك على رأسه لكي تخترق الرصاصة رأس كليكما بنفس الوقت..! تسافران بجواز واحد لقبرين اثنين...
( يسيطر التعجب على الجميع وتنطلق الشهقات من هنا وهناك)
أحد المرافقين : أستاذ لا تنس أن لنا قوانينا نحاسب على عدم الالتزام بها...
كارون : الأستاذ جواد يستحق أن نسن من أجله توصيته قانونا جديدا..
المرافق الآخر : جديدا؟!
كارون : ونوقف العمل به حال استفادتنا منه...
الكهل : ومن من قد يوافق على هبة كهذه ( ينظر إلى البدين , ينظر إلى طابور الرجال) ( لكارون ) عطائك هذا يساوي عدمه لا أريد أن أتعلق بأمل كاذب من جديد ( بانكسار ) سأعود إلى نهاية الطابور...
( يغادر )
الشاب ( ينادي الكهل ): يا سيد... تعال , لا تغادر..! تعال أنا أشاركك رصاصتي..! لي الحصة الثانية من حصص طابور الرجال سأشاركك إياها ( يبتسم ) لا تقلق سنرحل سوية...!
شابة من طابور النساء ( ثالث الواقفات )(للشاب): ولكن...
كارون ( للشاب): قد نحاسب بالفعل على مثل هذه القوانين الوقتية لذا يجب أن نظمنها عقوبة ما للأسخياء أمثالك..!
الشاب والشابة من طابور النساء سوية : عقوبة ؟!
كارون : نعم توضع ماسورة المسدس على رأس المُتبرَع له وينتظر المتبرِع السخي خروجها من رأس صاحبه ودخولها إلى رأسه بمعنى أوضح هناك نسبة لنجاته وضياع فرصته بالرحيل كعقوبة على سخائه الذي قد يساعد على اختلال نظام الطابور...
الشابة ( للشاب): (تبتسم )إذن هناك فرصة لأن أرحل قبلك...
الشاب : ولكن النسبة الأكبر هي أن أرحل أنا أولا...أصبحت ثاني طابوري بينما لا تزالين ثالثة طابورك...
الشابة : (بارتباك): أي..أين هذا الأعمى الخرف..(تبكي )( للشاب ) ليس عدلا, لا تتركني .. لا, لا ترحل قبلي ولو بثانية واحدة..لا..لقد..لقد وعدتني ( تختنق بالبكاء ) أرجوك..لا, لا أستطيع..
كارون :( بامتعاض ) أطفال...
الشاب : حسنا, حسنا سأتدبر الأمر سأعطي مكاني لمن خلفي ..سأصبح ثالثا لن أترككِ اهدئي الآن..اهدئي..
(يتقدم الرجل الذي يقف خلف الشاب فرحا بالفرصة التي وهبها له القدر بالتقدم في الطابور, يتبادل مكانه مع الشاب الوسيم الذي لا يزال يمسك بكف الكهل...)
الشابة : ودع هذا الكهل أيضا, تريد أن تسلبني راحتي حتى في موتي, أريد أن أموت مرتاحة دون أن أفكر باحتمال نجاتك وعذاباتك بعدي...
كارون : يبدو أن المواطنين الكرام ينون تأخيرنا لبعض الوقت..احسموا أمركم رجاء ( بحزم ) وبسرعة قبل أن أغلق الدكان...
( الاضطراب يعم جميع الواقفين )
الشاب : ولكن..
الشابة :( تصرخ ) الآن...
الشاب : حسنا..حسنا ( للكهل ) اذهب, اذهب أرجوك لا استطيع أن أرفض طلبها الأخير..اذهب ودع  الأمر يمر بهدوء...
الكهل : ولكن..ولكنك وعدتني..
الشاب :( بامتعاض ) وها أنا أخلف وعدي الآن..اتركني لما أنا به أرجوك..
( دقيقة صمت )
(ينصرف الكهل خارجا...)
كارون : أصبت بالصداع ( لمرافقيه ) هيا لقد تأخرنا على عملنا كثيرا...
 (يدخل الشابين إلى الدكان ويخرج كل واحد منهما من أحد أبواب الدكان الخلفية...)
المرأة قبيحة الوجه : ( تنادي الكهل ) يا سيد..سيدي الكهل ( يلتفت الكهل مذهولا ) سأشاركك رصاصتي ( تنظر إلى كارون ) بكل الشروط التي أملاها أستاذ كارون...
الكهل :( يرجع ) ولكنني أ..أ..
المرأة قبيحة الوجه : أعرف ما تريد أن تقوله, وفر اعتذارك لنفسك, خذ نفسا عميقا وكن مستعدا...
(يخيم الصمت من جديد يهز كارون رأسه , يستخرج الكهل زجاجة الويسكي يشرب جرعة صغيرة ويعيدها إلى جيبه )
كارون ( للبدين ): أدخل الآن واخرج من هذا الباب الذي على اليمين عند إشارتي.. ( للمرأة قبيحة الوجه والكهل ) وأنتما أيضا ادخلا واخرجا من هذا الباب الذي على اليسار عند إشارتي... ( يدخل الثلاثة إلى داخل الدكان بينما يلتفت كارون نحو طابور الرجال ويكلم من في مقدمته ) وأنت ..استعد ( نحو طابور النساء, لمن تقف في مقدمته ) وأنتي أيضا...
                                       ستار  ..... صمت, صوت رصاصة..ثانية واحدة..صوت رصاصة أخرى
                                                                                                                   النهاية                                        
 dr.venus89@yahoo.com        

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


د . علاء سالم
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2011/12/25



كتابة تعليق لموضوع : الطابور مسرحية بمشهد واحد بقلم
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 

أحدث التعليقات إضافة (عدد : 3)


• (1) - كتب : د.علاء سالم ، في 2011/12/25 .

استاذ مهند ماقرأته هو وصف حرفي لما حولي وما حولك وليس غريبا أن نعيش داخل كلمات من يصف لنا الواقع بصدق دون أن يضيف لوجهه أية " مساحيق تجميل "
شكرا لباقتك وأمنياتك وعبورك من هنا



• (2) - كتب : د.علاء سالم ، في 2011/12/25 .

استاذ مهند ماقرأته هو وصف حرفي لما حولي وما حولك وليس غريبا أن نعيش داخل كلمات من يصف لنا الواقع بصدق دون أن يضيف لوجهه أية " مساحيق تجميل "
شكرا لباقتك وأمنياتك وعبورك من هنا



• (3) - كتب : مهند البراك ، في 2011/12/25 .

الدكتور الرائع علاء سالم
لقد جعلتنا نعيش داخل المسرح
لك باقة ورد مكللة بالامنيات بالتوفيق




حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net