صفحة الكاتب : الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي

هل تكمِّمُ الشريعة الإسلامية الأفواه؟ وتعارض حرية التعبير؟
الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

بسم الله الرحمن الرحيم

حرية الفكر والرأي.. حرية العقيدة والدين.. كلمات تتردد على ألسن الكثير من أتباع الأديان الذين يزيد عددهم عن 80% من سكان العالم..
يبدي بعض هؤلاء رأيه في جزئيات الأديان حتى لو لم يكن من أهل الاختصاص، وإذا ما طلب منه الكفُّ عمّا لا يعلم عدّ ذلك نوعاً من القمع الديني! وتكميماً للأفواه! وترويجاً للإرهاب الفكري والنفسي!

ويستشهد بعض المسلمين منهم بقوله تعالى (لا إِكْراهَ فِي الدِّين‏)، وبعض الشيعة يضيف للآية قول أمير المؤمنين عليه السلام (لَا تَكُنْ عَبْدَ غَيْرِكَ وَقَدْ جَعَلَكَ اللَّهُ حُرّا)

ولكن.. هل تسمح الشريعة الإسلامية لأي أحد أن يبدي رأيه في أي موضوع ديني يريده وكيفما اتّفق؟
أم أنّ لها ضوابط في ذلك لا تقبل تجاوزها؟

نعرّج أولاً على المنهج العقلائي في ذلك لنرى ما الذي قرّره العقلاء في حياتهم، وهل أن الشريعة أقرّت لهم هذا المنهج أم لا؟

ونأخذ لذلك نموذجاً من واقعنا اللبناني المعاصر، ونتناول قانون تنظيم ممارسة مهنة الطب في لبنان على سبيل المثال، والمرسوم رقم 1658 الصادر بتاريخ 17 كانون الثاني 1979 والمنشور في الجريدة الرسمية العدد 10، تاريخ 8 آذار 1979.

تنص المادة الثانية عشرة فيما تنصّ على منع ممارسة الطب تحت طائلة الملاحقة عن (كل من لا يكون حائزاً على إجازة بممارسة مهنة الطب من وزارة الصحة العامة)

وتنصّ المادة الرابعة والعشرين في فقرتها الثالثة على أن (كل من يمارس مهنة الطب وهو غير طبيب يعاقب بغرامة مالية... وبالحبس من سنتين إلى خمس سنوات، وعند التكرار تضاعف هذه العقوبات، ولا يجوز منح الأسباب المخففة.)

وتبيّن المادة الاولى بعض مصاديق ممارسة الطب وهي تشمل فيما تشمل (الفحص والتشخيص.. وصف أو إعطاء علاجٍ شافٍ أو واقٍ أو مسكّن مهما كان نوعه.. إعطاء شهادة أو تقرير طبي يتعلق بصحة الإنسان..) وغير ذلك..
فهي تشمل كلّ تشخيص أو وصفٍ لعلاج مهما كان نوعه! ويعاقب عليها القانون بالغرامة المالية والحبس، دون أن تسمح بمنح الأسباب المخففة!

ولا يستنكر العقلاء مثل هذا التشدد في هذه القوانين، لأن التساهل فيها يعرّض صحة خلق الله تعالى للأذية يسيرة كانت أم خطيرة.
هذا نموذج واحد عن موقف القوانين الوضعية التي ترتكز على المباني العقلائية في التعامل مع المتطفلين على اختصاصاتهم.

فما هو موقف الشريعة الإسلامية وما هي قوانينها من التدخل في شؤونها من غير أهل الاختصاص؟

يتبين ذلك في أمور:
أولاً:
قوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُون‏ (يونس 59)
فإن الآية تبيّن أن نسبة كلّ شيء لله تعالى تحتاج إلى إذن منه عزّ وجل، وإلا كانت افتراء عليه تعالى، ومن مصاديق ذلك الكلام في الحلال والحرام كما في الآية، وغيرها من أمور الشريعة، فالافتراء على الله تعالى دون إذن يتحقق بكل ما ينسب لله عزّ وجل.

وما أبلغ الآية الشريفة التي قرنت بين افتراء الكذب وعدم الإيمان بآيات الله، قال تعالى: إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ (النحل 105)

ثانياً:
ما روي عن الإمام الصادق عليه السلام، وهو قوله: من فسر [برأيه‏] آية من كتاب الله فقد كفر (تفسير العياشي ج1 ص18).
فتفسير آية واحدة من الكتاب بالرأي دون أن يكون مأذوناً فيه صار على حدّ الكفر بالله تعالى، حتى لو كان المراد من الكفر كفر العصيان..

ثالثاً:
ما روي عن رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله: مَنْ أَفْتَى بِغَيْرِ عِلْمٍ لَعَنَتْهُ مَلَائِكَةُ السَّمَاءِ وَمَلَائِكَةُ الْأَرْضِ (النوادر للراوندي ص27)
والإفتاء بغير علمٍ يتحقق بالإفتاء في مسألة واحدة، ما يبيّن خطورة المسألة في شريعة السماء كما هو الحال في شرائع العقلاء.

رابعاً:
ما روي عن الإمام الصادق عليه السلام: وَلَا تَكْذِبْ عَلَيْنَا فَإِنَّهُ مَنْ كَذَبَ عَلَيْنَا فِي شَيْ‏ءٍ فَقَدْ كَذَبَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ص وَمَنْ كَذَبَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ص فَقَدْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَمَنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ عَذَّبَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَل‏ (الكافي ج4 ص187)
فالكذب عليهم في (شيء) يعني كذباً على الله تعالى، أيا يكن موضوع الكذب عليهم..
وعذاب الله تعالى عزّ وجل لا يقتصر كعقاب القوانين الوضعية على الغرامة والحبس، إن عذابه يأتي في يوم يقول فيه تعالى:
فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شيباً (المزّمل 17)

هو موقفٌ حازمٌ من الشريعة المقدّسة إذاً في منع التدخُّل في أمورها من غير أهلها، ومن غير العالمين العارفين، وإلا كان ذلك عليهم وبالاً.

وقد بيّنت الشريعة لنا تكليفنا عند جهلنا، فعن أَبِي جَعْفَرٍ ع قَالَ: مَا عَلِمْتُمْ فَقُولُوا وَمَا لَمْ تَعْلَمُوا فَقُولُوا اللَّهُ أَعْلَمُ إِنَّ الرَّجُلَ لَيَنْزِعُ بِالْآيَةِ مِنَ الْقُرْآنِ يَخِرُّ فِيهَا أَبْعَدَ مِنَ السَّمَاء (المحاسن ج1 ص206)

وعن أبي عبد الله ع قَالَ: إِذَا سُئِلْتَ عَمَّا لَا تَعْلَمُ فَقُلْ لَا أَدْرِي فَإِنَّ لَا أَدْرِي خَيْرٌ مِنَ الْفُتْيَا (المحاسن ج1 ص207)

فعلى عامة الناس من غير أهل الاختصاص أن يتوقفوا عن إبداء آرائهم واجتهاداتهم في أمور الدين، ويأخذوها من أهلها، وإلا عرّضوا أنفسهم لعذاب الله تعالى في الآخرة، ولذمّ العقلاء في الدنيا.
وعامة الناس المنهيون عن ذلك شاملٌ لكافة أصحاب الاختصاصات الأخرى من أطباء ومهندسين وحملة الشهادات العليا في كل المجالات.

وكما لا يحق للطبيب أن يتدخل في عمل المهندس ولا للمهندس ان يتدخل في عمل الطبيب، عليهما معاً أن لا يتدخلا في جزئيات الأمور الدينية الخارجة عن اختصاصهم، لأن في التدخل بعمل الطبيب خطرٌ على صحة الإنسان عند الخطأ في التشخيص والعلاج، وفي التدخل بعمل مهندس البناء خطرٌ على الأرواح لاحتمال سقوط بنائه، وفي التدخل في الأمور الدينية بغير علمٍ إضلالٌ للناس عن أمور دينهم..

وليس قتل النفس أهون من إضلالها، فعن إمامنا الصادق عليه السلام في تفسير قوله تعالى:
مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَ مَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً: مَنْ أَخْرَجَهَا مِنْ ضَلَالَةٍ إِلَى هُدًى فَقَدْ أَحْيَاهَا وَمَنْ أَخْرَجَهَا مِنْ هُدًى إِلَى ضَلَالٍ فَقَدْ قَتَلَهَا (المحاسن ج‏1 ص232)

فإن قيل:
كيف تجمعون بين حرية الاعتقاد وبين كلامكم هذا؟
قلنا:
الفرق بين حرية الاعتقاد وبين الترويج للامور الباطلة، كالفرق بين من ينتحر في بيته متناولاً دواءً ساماً وبين من يصف هذا الدواء للناس كي يستعملوه.
فالأول يهلك نفسه فلا سبيل لنا عليه، والله يحاسبه يوم الجزاء، ولكن الثاني يهلك الحرث والنسل، فينبغي وضع حدّ له حفظاً للمجتمع الإيماني..

وإن قيل:
كيف يجتمع ما تدعون إليه مع قولكم أن لا تقليد في أمور الاعتقاد؟
قلنا:
هناك فرق بين أصول الاعتقاد وفروعه.
فإن التقليد غير سائغ في أصول الاعتقاد لأنه لا بدّ أن تكون قطعية يقينية مبنية على الدليل، وأما ما سواها فلم يقم الدليل القطعي على المنع من التقليد فيها.. بل حتى على المنع من التقليد فيها هناك فرقٌ بين الاعتقاد بها دون دليل، وبين نسبة هذا الاعتقاد لله تعالى وللنبي والأئمة وللشريعة، وهو الممنوع.

وإن قيل:
إن هذا يعني قمعاً وإرهاباً فكرياً وحجراً على العقول.
قلنا:
الحجر بهذا المعنى مما تقرّه العقول والأديان والشرائع.
كحال من يكون في سفينة يريد أن يغرقها لأنه يعتقد أن في غرقها صلاح ركابها، فيتوجب عليهم أن يمنعوه من ذلك وإلا كانوا شركاء له في الانتحار.
فإن المجتمعات الإنسانية تضحي بالمخطئ الذي يريد الإضرار بها لتحفظ المجتمع.

وخلاصة القول
على الاخوة والاحبة المؤمنين، وأصحاب الغيرة على الدين أن يلتزموا بتعاليم الشريعة التي ينتمون إليها ويعتقدون كمالها وحكمتها، ويدركوا أن ما نراه اليوم من خلطٍ وخبطٍ في مسائل الشريعة يعود إلى خوضهم فيما لا يحق لهم الغوص فيه، وقد روي عنهم عليهم السلام: لَوْ سَكَتَ الْجَاهِلُ مَا اخْتَلَفَ النَّاسُ. (كشف الغمة ج2 ص349)

قد يكون بعض الأحبة صادقاً في رغبته الإصلاح، لكن الإصلاح متوقفٌ على المعرفة، والمعرفة موقوفة على أهل الاختصاص، والمتكلم من العوام بغير علم يهتك ستر نفسه، فقد روي في الحديث: صَمْتُ الْجَاهِلِ سِتْرُه‏ (عيون الحكم ص302)

فمن كسر حاجز الصمت منهم هتك الستر عن نفسه، وأظهر جهله، وكان شريكاً في إيقاع الفرقة بين المؤمنين.

جمع الله كلمتنا على التقوى، وألهم جاهلنا الصمت وعالمنا النطق.

والحمد لله رب العالمين
25 محرم الحرام 1440 للهجرة


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2018/10/05



كتابة تعليق لموضوع : هل تكمِّمُ الشريعة الإسلامية الأفواه؟ وتعارض حرية التعبير؟
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net