صفحة الكاتب : كاظم الحسيني الذبحاوي

كتاب (معاً إلى القرآن ـ منهج تدبري لكتاب الله من خلال قراءة واعية في سورة الشعراء) المجلد الأول ـ خطاب وتعريف
كاظم الحسيني الذبحاوي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

 بسم الله الرّحمن الرّحيم   

 خــطابـــٌ وتعـــريــــــــفــٌـ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا * قَيِّماً لِّيُنذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً * مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً *  الكهف [ 1ـ3] بلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ [العنكبوت : 49] أوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [العنكبوت : 51] قُرآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [ الزمر :28] إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً [الإسراء : 9] وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً [الإسراء : 106] .
أشهد أن لا اله إلاّ الله وحده لا شريك له إلها واحداً أحداً فرداً صمداً، لم  يتخذ صاحبةً  ولا ولداً، له الملك وله الحمد يُحيي ويميت، و يميت ويحيي؛ وهو حيٌّ لا يموت، بيده الخير ،وهو على كل شيءٍ قدير . 
وصلى الله وملائكته وأنبياؤه ورسله على رسوله المصطفى، أمينه على وحيه، وعزائم أمره الخاتم لما سبق، والفاتح لما استقبل، والمهيمن على ذلك كلّه، صاحب السكينة المدفون بالمدينة، المنصور المؤيّد ،المصطفى الأمجد أبي القاسم محمّد بن عبد الله وعلى آله الطيبين الطاهرين؛ الفلك الجارية في اللجج الغامرة  يأمن من ركبها ويغرق من تركها، المتقدّم لهم مارق والمتأخر عنهم زاهق واللازم لهم لاحق؛ صلوة تقرّ بها أعينهم ويرغم بها أنف شانئهم من الأولين والآخرين من الجنّة والناس أجمعين .  
إن أيسر مقياس  يُقاس به تمدّن وتطوّر مجتمع ما، هو ما يمتلكه من وسائل اتصال فيما بينه وفيما بين غيره . 
وحيث إن اللغة السائدة في أي مجتمع هي الوسيلة الأولى للتفاهم ،فإنه تزداد خطورتها ويتعاظم دورها ،إذا صارَ التفاهم بين مختلف التجمعات البشرية ميسوراً بواسطتها، فعند ذلك يصحُّ أن نعبّر عنها: أنها(وسيلة اتصال) فعّالة لنقل المعارف والثقافات التي  يتبنّاها هذا المجتمع أو ذاك .
وفي عصورنا الحاضرة تعددت وتطوّرت مصاديق اللغة من حيث الكمّ ومن حيث النوع؛ فأصبح لكلِّ فرعٍ من فروع العلم والمعرفة لغة خاصّة يتقابل بها المحاورون والدّارسون، فانتشرت المعارف والثقافات بسرعة هائلة ،ولاسيّما بعد تعدد اللغات التي تستخدم في البرامجيات وشبكات الأنترنت . 
ولقد كان القرآن العزيز-بوصفه رسالة رب العالمين- من أبرز وسائل الاتصال(العَمودي)بين المرسِل وبين المرَسل إليهم من جهة ،كما انّه وسيلة اتصال(أفقيّة)بين البشر العقلاء أنفسهم من جهة أخرى ،لما يحويه القرآن من وجود معرفيّ هائل في الأخلاق ،والعقائد ،والتشريعات في جميع شؤون الحياة، ما يضمن للبشريّة سعادتها ورقيّها في الدنيا وفي الآخرة. هذا المعنى نتذوّقه من كثير من الآيات الشريفات ،كقوله تعالى :)  طه * مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى) *[ طه :1ـ  2] ، أو قوله تعالى :( إنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً )[الإسراء : 9]
إن الوجود المعرفي داخل القرآن لابدّ أن يظهر للبشرية لفظاً ودلالةً على هيئة لغة تستوعبه استيعاباً متّسعاً بأيْسرِ تفهيمٍ، وأليقِ عبارة، إتماما للحجّة عليها، هو ما جاء هكذا مطابقاً لواقع الحال قال تعالى : (فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً) [مريم : 97] أو قوله تعالى : فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [الدخان : 58].
وقد ذكرت سورة الشعراء صفة هذا اللسان بقولها :( بـِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ) [الشعراء : 195 .
وحيث إن لغة العرب هي الوجه اللفظي الظاهر لهذا اللسان العربي المبين ؛فقد اختزنت مفرداتها أفقاً بيانياً مترامياً،وطاقة دلالية تنبضُ بالحَرَكة،ما يجعلها تُفصح وتُعرب عن مراده تعالى،الأمر الذي افتقرت إليه اللغات الأُخر التي هي أعجز من أن تُعربَ عن ذلك المراد ،ولم يصل القرآنُ  إلى أجيال البشر من  غير العرب عن طريقها ؛مما يستلزم أن يتصدّى العلماءُ العرب إلى إتقان اللغات السائدة في العالم ليأخذوا على عاتقهم نشر الثقافة القرآنية في أرجاء المعمورة ،¬عن طريق قيامهم بترجمة النصوص القرآنية إلى اللغات التي أتقنوها، لأنّ العربَ الأُصلاءِ يمتلكون القدرة على الإفصاح والإعراب عن المكنون البنيوي لهذا اللسان العربي،لِما عندهم من حسٍّ بلاغيٍّ متأصّلٍ بالفطرة، يمكّنهم من تذوّق الألفاظ والجُمَل القرآنيّة،بوصفها أرقى كلامٍ عرفوه؛كيف وهم أرباب البلاغة، وفطاحل الفصاحة ،وصُنّاع البديع،وأمراء الكلام ؟  
أما المحاولات التي نهض بها علماء مستشرقون وغيرهم من العلماء المسلمين الأعاجم من أجل ترجمة النصوص القرآنية إلى مختلف اللغات، فإنها باءت بالفشل،ولم يتسنَّ لهم-وإن درسوا علوم العربية- التعرّف على ما في هذا الكتاب العظيم من مَعانٍ عُلويًّةٍ بالدرجة التي يمكن أن يعرفها المسلم العربي. وهذا يفسّر لنا كيف أن معاني القرآن خرقت قلوبهم؛بل كانت قلوب المعاندين منهم مسلكاً سهلاً لها . قال تعالى :( كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ) [الحجر :12] . فلا يسعهم الاحتجاج بعدم بلوغهم مراميه ،أو الإدعاء بجهلهم مغازيه ،لأنهم شخَّصوا ما فيه من سحر العبارة ورصانة المباني، ودقائق المعاني !
ولكن عُتاتهم عجزوا عن معارضته ومماحلته إلاّ باللغو والتشويش. قال تعالى :( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) [فصلت : 26] . 
قال تعالى : (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَّقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ) [فصلت : 44] . فضلاً عن رداءة الكثير من التفاسير التي كتبها مسلمون غير عرب اتّفق أن كانت أقلامهم مسخّرةً تحت إرادة الحكّام المتسلّطين على رقاب المسلمين؛ فأسسَّت داخل الساحة الإسلامية(موروثاً تفسيرياً)يحمل في مطاويه معاني باهتة لآيات الكتاب العظيم، كانت نتيجة ذلك بُعد الأمة عن قرآنها بأن جعلته وراء ظهورها، كتابا تراثيا، يستعملونه في مطالب رخيصة،بعيدة كل البعد عن مقام (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم) .  
بَيدَ أنَّ قوماً منَ العرب دخلوا الإسلام استجابة للمعطيات الاجتماعية التي فرضت نفسها بقوة داخل النسيج الاجتماعي العربي . وقد نبذوا القرآن وجعلوه وراء ظهورهم قال تعالى:( وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ) [آل عمران : 187]
وانك لتجد مظاهر النبذ لكتاب الله في زماننا هذا، متكاثرة ومصاديقه متنوّعة وشاخصة، نتيجة لعكوف كبراء الأمّة– قادة السوء– على تكديس المال الحرام، عن طريق نهب الثروات العامة والخاصة،بعدما تمهّدت لهم الفتاوى التي تُضفي شرعيةً كاملةً على كلّ ما يرتكبوه من قتل وتشريد بحق المسلمين أنفسهم، فانتشرت في المسلمين المنابر السلطوية التي يعتليها قطّاع الطريق إلى الله، بما عندهم من التأويلات المُضِلّة لكتاب الله ،عن طريق تحريف نصوص الأحاديث الشريفة ،أو اختلاق أحاديث لم تصدر عن النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله تدعوا المسلمين الذين يُحسنون الظنّ بهم إلى عدم الاقتراب من هذا القرآن والتدبّر فيه إلاّ بالحدود التي يضعوها لهم،وهي لا تتعدّى مسائل أحكام التلاوة،وشرح المفردات المعجميّة ،ثمّ الإصرار على دراسة أسباب النزول والاهتمام بها، على الرغم من أنها روايات طافحة بالتصوير الخرافي،تحكي أحوال الآخرة وما فيها من نعيم ،وما فيها من عذاب، نأياً بالقرآن عن الدخول في مسائل دنيوية حسّاسة تمسّ حاضر ومستقبل المسلمين في هذا العالم، تماسّاً مباشراً، كنظم السياسة والإدارة والحكم والعلاقات الدولية ،والاقتصاد، وما إلى ذلك .  
كيف نقترب من القرآن؟
 للخوض في هذا الموضوع الحسّاس والخطير،لابدّ أن نجيب أولاً على سؤال هام مفاده : ما هو رأي القرآن بمسألة التمعّن والتفكّر والتدبّر فيه،وهل أن ذلك واجب على كل مسلم عاقل، أم هو واجبٌ كفائيٌ تنهض به طائفة مخصوصة من المسلمين تأخذ على عاتقها مهمة اختيار الأدوات الفنيّة التي تعتقد أنها كافية في تعليم الناس ما اصطلحوا عليه بـ (علوم القرآن) ؟ 
وللإجابة على هذا السؤال:إن للبشر العقلاء إذا أرادوا تحصيل ما يرونه ضرورياً، أن يكتفوا بما عند المختصّين بمختلف العلوم كالرياضيات والطب والفقه والفيزياء والفلك والكيمياء وغيرها. ولا يُعقل أن يتصدّى جميع أفراد البشرية للتخصص في مثل هذه العلوم دفعة واحدة وخلال حقبة زمنية ،غير أن التصدي للتعرّف على القرآن،بمستوى أو آخر،واجبٌ على جميع أهل القبلة كما يظهر واضحا من عدد كبير من الآيات الشريفات التي أُورد بعضا منها : 
1-) أفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً) [ النساء:82] .
2- (إنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً )[الإسراء : 9] .فهذه دعوة صريحة للبحث في هذا القرآن عن تلك التي أسمتها هذه الآية بـ (التي هي أقوم)، حتى يفوزوا بمرتبة من مراتب المؤمنين . 
3- )إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [يوسف : 2] .هذا خطاب للمسلمين العرب،بادئ ذي بدء ، أن الله تعالى أنزل ألفاظ القرآن بمنزلة ألفاظهم، رجاء أن يعقلوا هذه الحقيقة،وما هي الغاية منها،وما هي فائدتها .
4- (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَـؤُلاء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) [النحل : ]89 .
5- (فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً) [مريم : 97]
6- (طه * مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى *) [ طه 1ـ 3] . خطاب فيه إغراء أن يكونوا من أهل الخشية .
7- (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً) [الفرقان : 30] . أي لا يتدبرون فيه ولا يتخذونه منهاجاً في حياتهم.ويمكن أن ينصرف معنى(قومي) إلى العرب،وهذه شكوى تجري إلى يوم القيامة،لا كما يقال أنه مشهد من مشاهد القيامة الكبرى فقط .
 8- (طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُّبِينٍ * هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) [ النمل : 1ـ2].
9- (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [العنكبوت : 51] .
10- (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) [سبأ : 6]
11-( كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ) [ص : 29]
جاء في  إرشاد الديلمي:«وقال جعفر بن محمّد u في قوله تعالى : [الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته] قال : يرتلون آياته ،ويتفقهون فيه، ويعملون بأحكامه،ويرجون وعده،ويخافون وعيده ، ويعتبرون بقصصه،ويأتمرون بأوامره، ويتناهون عن نواهيه .ما هو والله حفظ آياته،ودرس حروفه،وتلاوة سوره، ودرس أعشاره وأخماسه،حفظوا حروفه وأضاعوا حدوده،وإنما هو تدبّر آياته ،والعمل بأحكامه، قال تعالى:كتاب  أنزلناه  إليك  مبارك  ليدبروا  آياته «( [1]). 
12-) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) [الزمر : 23] .
13-(وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَّقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ) [فصلت : 44]  .
14-(فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) [الدخان : 58] .
15-(أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) [محمد : 24] . وفيها : إن هذا القرآن كتاب غير منغلق أمام من يتدبر فيه،ألا تلاحظ أن الآية نسبت الأقفال إلى القلوب ؟  
 16-)وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ) [القمر : 17] .
هذا و ينبغي أن لا يُتَصَوَّر بأن التدبّر للقرآن يحتاج إلى أدوات كثيرة بالمقدار الذي يحتاجه الفقيه حينما يُفرغ الوسع لاستنباط الحكم الشرعي من النص القرآني .
ثُمّ يمكن بيان بعض الفوارق بين عملية استنباط الحكم الشرعي من القرآن،وبين عملية تدبّر معاني الآيات :- 
أولاً:- إن الأدوات العلمية للفقيه هي أدوات خارجية عن القرآن في الأعم الأغلب،كعلم الأصول، والكلام، والفلسفة والبلاغة والبديع والبيان والتأريخ والأدب والرجال والفلك والهيئة والرياضيات وما إلى ذلك من العلوم الضرورية التي لا غنى له عنها وعليه إتقانها والاجتهاد فيها بينما المأمول في المتدبر للقرآن أن لا يحتاج إلى مثل تلك الأدوات حيث إن أكثرها يمكن أن تؤخذ من القرآن نفسه لِما دلَّت عليه الآيات والروايات . قال تعالى : (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَـؤُلاء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) [النحل : 89] .أو قوله تعالى:( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) [المائدة :48 ].
وفي الكافي،عن أبي عبد اللهu قال:إنَّ اللهَ تَبارَكَ وَ تَعالى أَنْزَلَ فِي الْقٌرْآنِ تِبْيانَ كُلِّ شَيءٍ حَتّى وَاللهِ ما تَرَكَ اللهُ شَيْئاً يَحْتاجُ إلَيْهِ العِبادُ حَتّى لا يَسْتَطِيعَ عَبْدٌ يَقُولُ : لَوْ كانَ هذا أُنْزِلَ فِي القُرْآنِ ،إلاّ وَقَدْ أَنْزَلَهُ اللهُ فِيهِ.( [2])
وفيه عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي،عن السَّكوني، عن أبي عبد اللهu قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: إنَّ على كُلِّ حَقيقَةٍ وَعَلى كُلَِ صَوابٍ نوراً فما وافَقَ كِتابَ اللهِ فَخُذُوهُ وما خَالَفَ كِتابَ اللهِ فَدَعُوهُ ( [3]) . وغيرهما من الأحاديث التي تحثُّ الأمّة على التدبّر بكتاب الله؛الّذي هو ميزانٌ توزن به الأحاديث لتشخيص سقيمها من صحيحها.ثُمَّ ليس شيء أصرح من حديث الثقلين المتواتر عن رسول الله صلّى الله عليه وآله ؛الذي يدعو الأمة إلى التمسّك بالكتاب والعِترة،أماناً لها من الوقوع في الضَّلال،فكيف ترى هل أن الرسولَ صلّى الله عليه وآله يدعو المسلمينَ إلى التمسّك بشيءٍ يَعسُر فهمه ؟؟  
 ثانياً :- إن الأدوات العلميّة المستخدمة في دراسة علم الفقه،هي أدوات تخصُّصيّة،ولمعرفتها وضبطها لا بدَّ من تحصيلها من أهل الفن.بينما التدبّر في القرآن لا يحتاج إلى مثلها؛بل يتأثّر تأثيرا كبيراً بالمستوى العلمي العام للمتدبّر،أضف إلى ذلك أن القرآن مُيَسَّرٌ للفهم،بدرجة أو أخرى،وقد دلَّ على ذلك القرآن نفسه كما جاء في الكثير من الآيات الشريفات:
 1- (الرَّحْمَنُ *عَلَّمَ الْقُرْآنَ *خَلَقَ الْإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) [ الرحمن : 1ـ 4] 
فالملاحظ من هذه الآيات قيام الحجّة على العِباد بعد تعليم الله لهم بتوسّط رسوله الأعظم صلّى الله عليه وآله كما ورد في قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) [الجمعة : 2]
2- )وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ) [القمر : 17] .
ثالثاً:- إن التصّدي للفقاهة والإفتاء واجبٌ كفائي، لما دلّت عليه آية النفر، فضلاً عن الأدلّة العقلية( [4])،في حين أن التدبّر للقرآن واجبٌ عينيٌ،وقد تقدّمت الإشارة إلى ذلك.  
رابعاً :-الذم الشديد الظاهر من الآيات المباركات لمن لا يتدبر القرآن،كما في قوله تعالى : (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) [محمد : 24]،وكذا الذم المستفاد من الروايات الشريفات، كالرواية التي نقلها الديلمي في الإرشاد( [5]). وإلى غير ذلك من الفوارق التي، ويمكن استظهارها من مظانّها.
 ما الفرق بين التدبّر للقرآن،وبين التفسير بالرأي الذي منعت الأحاديث الشريفة منه ؟  
للإجابة على هذا السؤال،فانه ينبغي التعرّف على معنى المصطلحات ذات العلاقة،هي:التدبر،التفسير،التفسير بالرأي.أمّا التدبّر فمعناه النظر بعواقب الأمور وهو من مرادفات التفكّر والتمعّن،والتأمل، ونحو ذلك . 
أما التفسير،فهو من الفَسر وهو: «إظهار المعنى المعقول»( [6]).
وقال العلاّمة الطريحي: «التفسير في اللغة كشف معنى اللفظ وإظهاره،مأخوذ من الفسر،وهو مقلوب السفر،يقال أسفرت المرأة عن وجهها : إذا كشفته  وأسفر الصبح: إذا ظهر، وفي الاصطلاح علم يُبحث فيه عن كلام الله تعالى المنزل للإعجاز من حيث الدلالة على مراده تعالى،فقوله المنزل للإعجاز لإخراج البحث عن الحديث القدسي، فانه ليس كذلك،والفرق بين التفسير والتأويل هو أن التفسير كشف المراد من اللفظ المشكل،والتأويل رد أحد المحتملات إلى ما يطابق الظاهر.والفسر:البيان يقال فسّرت الشيء من باب ضرب بيّنته وأوضحته،والتشديد مبالغة...»( [7]). 
وقال السيّد إسماعيل الصدر:«التفسير:هو بيان معاني الآيات القرآنية والكشف عن مقاصدها ومدلولها »( [8]) . 
قلت :ويحسن بنا توضيحاً لهذا المطلب أن نقتطف مما جاء في كتاب(البيان) : «لا شكَّ أن النبي – صلى الله عليه وآله وسلّم- لم يخترع لنفسه طريقة خاصّة لإفهام مقاصده، وانه كلّم قومه بما ألفوه من طرائق التفهيم والتكلم  ليفهموا معانيه، وليتدبروا آياته  فيأتمروا بأوامره، ويزدجروا بزواجره...»( [9]) .            
أما معنى التفسير عند أهل هذا الفن، فحسبي ما أورده صاحب البيان أيضاً : «إن التفسير هو كشف القناع كما قلنا، فلا يكون منه حمل اللفظ على ظاهره،لأنه ليس بمستور حتى يكشف،ولو فرضنا أنه تفسير فليس تفسيراً بالرأي، لتشمله الروايات الناهية المتواترة،وإنما هو تفسير يفهمه العُرف من اللفظ، فالذي يترجم خطبة من خطب نهج البلاغة- مثلاً- بحسب ما يفهمه العرف من ألفاظها ،وبحسب ما تدلّ القرائن المتصلة والمنفصلة، لا يعدّ عمله هذا من التفسير بالرأي..»( [10]) .ولمزيد من البيان، يقول السيد إسماعيل الصدر :«ولقد اختلفت طرق المفسّرين في التوصّل إلى تلك المعاني وكيفية الكشف عن مقاصد الآيات ومعانيها:فاقتصر بعضهم في تفسيره على ما ذكر في الأخبار والروايات ،ولم يعتمد على عرف ولا لغة ،حتى في تفسير الآيات الظاهرة في معناها عرفاً ،كما لم يعتمد على دليل العقل ولا على الإستحسانات الذوقية في شيء . 
وفي النقطة المعاكسة لهؤلاء المفسّرين النصوصيين طائفة أخرى فسّرت القرآن برأيها ،وحملت الآيات المتشابهة على ما يقتضيه ذوقها وإن لم يعيّن العرف واللغة معناها،ولم تعتمد في تفسيرها على أهل بيت العصمة.والطائفتان معاً أخطأتا سبيل الصواب، فإن الآيات القرآنية قسمان :-
القسم الأول: ما يكون لها معنى ظاهر عُرفي كقوله تعالى : (اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [البقرة : 257] . سواءٌ أمكن تحديد ذلك المعنى الظاهر لها بالنظرة الأولى،أم توقّف على التأمّل والتدبّر.وهذا القسم يُؤخذ بمعناه الظاهر المنكشف بالنظرة الأولى أو بالنظرة التأمليّة .
وليس هذا من التفسير بالرأي المنهي عنه شرعاً ؛لأن التفسير بالرأي عبارة عن الاعتماد على الإستحسانات العقلية والأذواق الشخصيّة،ومن يحمل الآية على معناها العُرفي لا يُقال عنه انه فسّرها برأيه، بل يُقال: فسّرها بمعناها اللغوي والعرفي؛ لأن التفسير بالرأي لابدّ أن يكون للرأي مدخلية في معناه،وليس في حمل الآيات على معناها العرفي واللغوي أي مدخلية للرأي. بل ليس الحمل من التفسير في شيء ؛ لأن التفسير– كما عرفتَ – اِنما هو الكشف عن مقاصد الآية ومدلولها، والآيات الظاهرة في معانيها لا تحتاج اِلى كشف؛ فإن المفسّر لا يكشف– حين بيانه لمعاني هذه الآيات– عن معاني خفيّة ومقاصد مستورة؛ ليكون من التفسير اللغوي والاصطلاحي .ولو فرضنا جدلاً : أن عملية حمل الآية على معناها الظاهرتفسيراً لها بالرأي، فلا شكّ في جوازه وعدم شمول الأخبار الناهية عن التفسير بالرأي ،لذلك؛ إذ لو كانت جميع الآيات القرآنيّة بما فيها الآيات الظاهرة في معانيها ممّا لم يمكن فهم معانيها اِلاّ بواسطة الأخبار لم يكن معنى لقوله- صلى الله عليه وآله- :-[ إني مخلّف فيكم الثقلين:كتاب الله وعترتي أهل بيتي،لن تضلّوا ما اِن تمسّكتم بهما] ،ومن المعلوم أن المراد من التمسّك بهما العمل بما يأمران به والانتهاء عمّا ينهيان عنه، وإذا لم يمكن الاعتماد على ظواهر الكتاب اِلاّ بمعونة الأخبار، فمعنى ذلك أن القرآن وحده لا يمكن التمسّك به .وكيف يتوقّف فهم القرآن على الأخبار،مع أن الشارع جعله ميزاناً لصدق الرواية وكذبها،فقد روي عن ائمّة أهل البيت أنهم قالوا:[ أعرضوا حديثنا على كتاب الله، فما خالفه لم نقله]، وجعله-أيضا-ميزاناً لترجيح رواية على أُخرى،فإذا تعارضت روايتان إحداهما موافقة للكتاب وأخرى مخالفة،وجب ترجيح ما وافق الكتاب،وجعله الشارع- أيضاً- مناطاً لصحّة الشرط وفساده،فما وافق الكتاب من الشروط صحيح، وما خالفه فاسد..»( [11]) 
ممّا تقدّم يمكن لنا أن نُؤسس:إن حقيقة معنى التفسير تنصرف إلى إفراغ الطاقة في استنباط الحكم الشرعي من النص القرآني،أو من الحديث الشريف بمعونة العقل آو الإجماع،وبالاستعانة بما يلزم الفقيه من الأدوات العلمية الّتي أشرنا إليها في هذه الوجيزة ،كما ينصرف معناه إلى البحث عن معنى( باطني) يتعذر تحصيله من ظاهر النص باستخدام أدوات النحو والبلاغة وما إلى ذلك ممّا اعتاد عليه الشُرّاح والُكتّاب،وفي كلتا الحالتين فانه لا مناص من مراجعة عِدل الكتاب،والتمسّك بما هم عليه ،اِمتثالاً وتسليماً للرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله .  
أمّا النظر في القرآن بقصد تفهّمه، والتمعّن في معانيه، من غير آيات الأحكام ،بالاستعانة بما يتيسّر من الأدوات في النحو والصرف والبلاغة والأدب والتاريخ والحديث والرواية وغير ذلك ،فهو ليس من التفسير بشيء ،واِن تسالم الناس على تسميته تفسيراً،لغلبة إطلاق مصطلح(التفسير)على كلّ مجهود بشري يتعلّق ببيان النصوص الشريفة من القرآن ومن الحديث ،وهو لا شكّ تسالم غير معتبر؛فافهم ذلك  .
وتطبيقاً لنظريتنا هذه، فأنني شرعتُ بالتأمّل والتدبّر في كتاب الله في زمن غير مبكّر،لأضع قدمي على درجةٍ من درجات سُلَّم تفهّم كلام الله تعالى،حتى لا أُوسم بثقافة الاستهانة بالقرآن العظيم التي شاعت في المسلمين منذ زمن بعيد،تلك الثقافة التي غرسها الأمويون في أذهان الملايين من المسلمين عبر تاريخهم الطويل، فصار عامّة المسلمين يخافون ويتهيّبون من الاقتراب من القرآن ؛إلاّ في مطالب رخيصة معروفة،أما خواصُّهم فلا يكاد يسلم أحدٌ منهم من بطش السلطان الجائر وإملاءاته،فسار الكثير منهم على وفق إرادته، وارتضوا لأنفسهم أن يكونوا عمّالاً عنده!
 أجل.. لقد شرعتُ بذلك ،بعدما استقرَّ  حبُّ القرآن في شغاف قلبي، فهو واللهِ الجَنَّة التي أرى فيها آثارَ ربِّي ذي الجَلال والإكرام،وأرى فيها الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وأهل بيته الكرام صلوات الله عليهم والصلحاء والمؤمنين مُنَعَّمينَ سُعداء ،بعدما كانوا مظلومين مقهورين مشرَّدين في الآفاق،كما أرى في هذا القرآن مكَّة التي هُجِّرَ من أرضها رسول الله  صلى الله عليه وآله مُكرهاً، ثُم المدينة المنوَّرة حيث تظاهرات الأصحاب ومؤامراتهم تقويضاً لدعائم الأمر الإلهي،ورأيتُ فيه أرض فدك و كربلاء والحَرَّة والكُناسة وبغداد وطوس وسرّ من رأى،وكل أرض انتهكت فيها المحارم، وأُريق على أديمها دمٌ زاكٍ .. 
فبدأتُ بالكتابة في بعض السوَر والآيات المباركات، ومنها هذه السورة،و قد كتبتُ هذه المباحث لأولّ مرّة ٍ في سنة 1417هجريّة أي في حدود العام 1994من القرن الميلادي المنصرم ،بعدما ألقت الأرزاءُ في العراق ظلالها الثقيلة على الإسلام وأهله ،فكاد أنْ يكون النُّطقُ بالشهادتين تعبيراً عن الانتماء إلى دين الله، ممنوعاً ! وانحسرت ثقافة القرآن انحساراً مازلنا نتلمَّسُه، وحلَّت محلّها ثقافة: [خذوا ما أخذت العرب]ولكن بثوبٍ جديدٍ يتستّرُ بالقرآن على أنه من تراث العروبة فيأخذ حظّه من الدراسات النحوية واللغوية والبلاغية والتفسيرية وغيرها ،كما تأخذ(المعلَّقات السبع) حظّها منها !
 هذا ما عند الخواص، أما عامّة المسلمين فلا يحقّ لهم غير التعرف على أحكام التلاوة وإعراب الجمل( [12])،وقراءة ما يتيسّر لهم قراءته في مجالس التأبين والمناسبات الإسلامية المختلفة ابتغاء التيمن والتفأّل بالقرآن فصدق قول الرسول صلى الله عليه وآله فينا: (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً) [الفرقان : 30] .
فآليتُ على نفسي، مع ما بي من قصورٍ وانغلاقٍ وخوفٍ من أجواء الترهيب الصَّدّامي وقلَّة ذات اليد ،أن أدخل هذا العالَم الواسع ممسكاً قلمي ومرتقياً أعواد المنابر في النجف والكوفة والحلة وكربلاء والديوانية وبغداد  ،ظنّاً منّي بجدوى ما أقوم به إشاعةً للثقافة القرآنية. وفي سنة1420أعدتُّ النظر بما حررته، وتكرر ذلك منّي في سنة 1426،ثم في سنة 1428.
 وبعد أن منَّ الله علينا بالإطلاع على ما حرره الأعلام من أهل الفن في هذا المجال قمت وقي هذه السنة 1429 بإعادة النظر في المطالب التي حررتُها في ذلك الزمان. وفي طريقي لإنهاء العمل وقع تحت يدي كتاب(الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل) لآية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي فتصفحته مليّاً وعرفت ما فيه من دقّة النظر، والاقتراب منَ المراد، وبُعد الغَور، وحلاوة العبارة ،وسلاسة العريكة ؛ فراقَت لي مباحثه، وعظمت في خاطري التفاتاته ، مع ما كان في نفسي من تسميته بـ(الأمثل) شيءٌ .ومع ذلك فإنه لم  يكن في وسعي إعادة النظر- مرّة أخرى- في المباحث منذ بدايتها؛ إلاّ عند الحديث عن النموذج التاريخي السّادس من نماذج سورة الشعراء وما بعده منَ المباحث ،وكان هذا الكتاب الذي  أسميته : (معاً إلى القرآن/ منهجٌ تدبريٌّ لكتاب الله من خلال قراءة واعية لسورة الشعراء المباركة)، منوّهاً أنني اعتمدتُ منهجاً مُفاده : إن لكل سورة من سور القرآن غرضاً خاصّاً تتميّز به عن غيرها، هذا الغرض هو رسالة السورة التي جاءت بها إلينا .على هذا فأنني أعتقد أن آيات كل سورة ترتبط ارتباطاً ملحوظاً بغرضها مما يشكّل نظاماً إلهياً عُلويّاً تتحيّرُ في آفاقه العقول، وتدمع لروعته العيون، إذعاناً لصانعٍ مدبِّرٍ خبير قال تعالى: (الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِير)ٍ [هود : 1]
ولو أردنا الاقتراب من المعنى المراد عن طريق فك ارتباط الآيات عن هذا النظام الإلهي؛ فإن المعنى المتحصّل يبتعد حينئذٍ عن المراد . محاولاً أن يكون القرآن نفسه هو المصدر الأول للتدبّر، وفق القاعدة المعروفة أن القرآن  يُفسّر بعضه بعضاً ، مخاطباً القارئ المسلم المتدبّر أن يدخل إلى هذا العالَم الواسع الجميل ليسمع كلامَ اللهِ بقلبٍ كلّه شوقٍ منصتاً له عملاً بقول الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله : «..فَإذَا الْتَبَسَتْ عَلَيْكُمُ الْفِتَنُ كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ فَعَلَيْكُمْ بِالْقُرْآنِ فَإنَّهُ شافِعٌ مُشَفَّعٌ وَماحِلٌ مُصَدَّقٌ،وَمَنْ جَعَلَهُ أَمامَهُ قادَهُ إلَى الْجَنَّةِ وَمَنْ جَعَلَهُ خَلْفَهُ ساقَهُ إلَى النّارِ،وَهوَ الدَّليلُ يَدُلُّ عَلى خَيْرِ سَبِيلٍ وَهُوَ كِتابٌ فِيهِ تَفْصِيلٌ وَبَيانٌ وَتَحْصِيلٌ،وَهُوَ الْفَصْلُ لَيْسَ بِالْهَزَلِ، وَلَهُ ظَهْرٌ وَبَطْنٌ فَظاهِرُهُ حُكْمٌ وَباطِنُهُ عِلْمٌ ،ظاهِرُهُ أَنِيقٌ وَباطِنُهُ عَمِيقٌ،لَهُ نُجُومٌ،وَعَلى نُجُومِهِ نُجُومٌ لا تُحْصى عَجائِبُهُ وَلا تُبْلى غَرائِبُهُ،فِيهِ مَصابِيحُ الْهُدى وَمَنارُ الْحِكْمَةِ وَدَلِيلٌ عَلَى الْمَعْرِفَةِ لِمَنْ عَرَفَ الصِّفَةَ فَلْيَجْلُ جالٍ بَصَـرَهُ وَلْيُبْلِغِ الْصِّفَــةَ نَظَــرَهُ،يَنْجُ مِنْ عَطَبٍ وَيَتَخَلَّصْ مِنْ  نَشَبٍ ...»( [13]). 
ثم ليخضْ تجربتي هذه، وليثق بأني لم أتتلمذ في هذا الفن عند أحدٍ منَ البشر،وهو ليس من باب المفاخرة ؛وإنما أقول ذلك نادباً حظي لأنني أسأتُ التقدير باقتصاري على الدراسة في مدارس الحكومة ،على الرغم من أنني لم أدَّعِ إتياني بشيءٍ ذي بال؛ إلاّ الإدّعاء بحبّي لكتاب الله العظيم- كما قدمت -.
هذا . .
ولا أحسب أن صورة هذا الكتاب غامضة، حتى أتعب القارئ المحترم بتعداد تفاصيل أبوابه وفصوله وأقسامه وموادّه،وعلى النحو الذي يدأبُ عليه المؤلفون والكُتّاب في هذا الفنّ أو غيره ؛فهو لا يعدو كونه محاولة لقراءة واعية لكتاب الله،أو قل هو منهجٌ تدبُّري للقرآن كانت مباحثنا في سورة الشعراء، على هذا النحو، تطبيقاً لهذا المنهج . 
وأخيراً ؛ وليس هذا آخرا ً:
إنّ سَقَطاتي كثيرة، وهناتي متكاثرة ،وعثراتي متواترة،في هذا وفي غيره ،آمل من القرّاء الأعزّاء التوجّه إلى المولى جلَّ ثناؤه بالدُّعاء لي أن يُقيل عثرتي ويغفر زلَّتي ويعفو عن خطيئتي، عسى أن لا أُفتضح على رؤوس الأشهاد قي ذلك اليوم الذي لا ينفع فيه مالٌ ولا بنون إلاّ مَن أتى اللهَ بقلب سليم، فقد أخلقت الذنوبُ والخطايا وجهي فجعلته بالياً خَرِقاُ لا يساوي عند الله شيئاً، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العلي العظيم .
(لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) [البقرة : 286] .
 
                       النجف الأشرف/   كاظم السيد مهدي الحسيني الذَّبحاوي
15 شعبان المعظّم 1428
sayed_kadom@yahoo.com
هاتف   07808260002
 

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


كاظم الحسيني الذبحاوي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2011/12/30



كتابة تعليق لموضوع : كتاب (معاً إلى القرآن ـ منهج تدبري لكتاب الله من خلال قراءة واعية في سورة الشعراء) المجلد الأول ـ خطاب وتعريف
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net