صفحة الكاتب : ادريس هاني

في أي حدود للعقل جرى نقد العقل العربي؟
ادريس هاني

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

 في أكثر من إحالة أحاول إرسال حكم استفزازي يكون الغرض منه لفت القارئ إلى ذلك الجانب اللاّمفكّر فيه، وأحيانا يتحقق الأمر وأصبح في مقام من وجب عليه الإسهاب أكثر في التوضيح، وهذه هي قيمة التفاعل في الفكر ومع الفكر لمزيد من الفكر، ومن ذلك ما يسأل عنه أحد الفضلاء حول عبارة كتبتها على عجل من أمري حول مشروع المرحوم محمد عابد الجابري وهي ليست المرة الأولى التي أسأل عنها ولكن آن الأوان لتسليط الضوء على حدود العقل والمعقول في مشروع محمد عابد الجابري لمزيد من رفع الإلتباس، يتساءل الأخ الفاضل (شهيد) قائلا:

"أستاذي العزيز ، كيف يكون تصور الجابري للعقل، لا يخرج عن إطار النص المؤسس ؟ هذا شيء أثار استغرابي صراحة ، صحيح أنه في دراساته القرآنية الأخيرة من حياته بدا كتابه وكأنه صوت للاأقدمين ، إلا أن الأمر مع ذلك مثير للاستغراب حول مشروعه النقدي ، مع علمي طبعا بالإشكالات العلمية عليه التي وصلت لحد الأرقام".
كنت بصدد تمييز الموقف العقلي بين الجابري وكانط ودفعا للعبارة غير الدقيقة التي تقول بأنّه إذا كان كانط قد فكك العقل الأوربي أو الغربي فإنّ الجابري فكك العقل العربي.
حين يتعلق الأمر بالجابري فنحن أمام مشروع وسياق وتجربة ثم نصوص، وأمام هذا التضخم في نقد التراث وعقلنة الموقف كيف يستقيم اتهام الجابري بأنه ينطلق من النص التأسسي؟
لقد ذكرت حينئذ بأنّ الجابري لم يكن بصدد نقد العقل الخالص ولا كانط كان بصدد نقد العقل الغربي، فالجابري انتقد العقل المنتظم أو المنشأ بتعبير أندري لالاند(A. Lalande)  بينما كانط انتقد العقل الكوني في تجلياته على مستوى الوعي الظاهراتي أو على مستوى العقل العملي. عند لالاند فالعقل كوني أيضا لكنه يشتغل في سياقات وعصور وضمن ثقافات، فالمتغير هو هذه المؤثرات والأطر الثقافية والاجتماعية والتاريخية، وبالتالي فإنّ الجابري لم يحلل السياقات الاجتماعية والثقافية والتاريخية لفعل العقل بل أصدر أحكام قيمة في سياق تصنيف الكثير من تلك الأطر والسياقات ثم سرعان ما حاول أن ينتصر لثقافة ضد أخرى مانحا إياها مشروعية العقل بينما نسب حكم العقل المستقيل إلى أخرى، وهذا ما أسميه عدم الوفاء بالمنهجية واستعمال التقسيم اللالاندي لأهداف أرثذكسية، أي البحث عن إطار خاص لدعم النص التأسيسي أو التفسير الأرثذكسي للتراث، وهو ما يطلق عليه من باب التغليب: العقل، بينما يسمو بالنص التأسيسي أو التفسير الأرتذكسي إلى مرتبة التفسير المعقول.
بالعودة إلى العقل المنتظم أو الناشيء أو المكوًّن(Raison constituée ) فهو لالانديا يفيد معنى الأطر السوسيو- تاريخية والثقافية للممارسة العقلية، وعليه سنكون أمام أكثر من عقل بلحاظ مخرجاته وليس أمام حكم عقلي وغير عقلي. وسوف تتطور الفكرة بشكل أوضح لو عالجناها في سياق النموذج الإرشادي المؤثر بالمعنى التوماس-كوني، أو السياق الاجتماعي أو الطبقة الاجتماعية وعلاقتها بالنمط العقلاني كما يعالجها فيرآباند، هو هذا العقل المتكون الذي سيعاقره من منافذ أخرى طه عبد الرحمن وسيسميه بالمجال التداولي وهو في نهاية المطاف المجال الذي يتحقق فيه فعل الوعي والعقل ويمنح للعقل المتكون صفة تتقوم بالسياق السوسيو-ثقافي والتاريخي نفسه، أليس مقومات المجال إياه في ترسيمة طه عبد الرحمن : هو اللغة والمعرفة والعقيدة؟
وكان يفترض أنه وبناء على كل هذه المفاهيم: العقل المكون أو المجال التداولي أو النموذج الإرشادي أن نتجاوز الموقف الثنوي: معقول ولامعقول، بل اللامعقول هنا هو خروج عن مقتضى المجال والعقل المنتظم، فهو لا معقول بلحاظ العقل المنتظم لا العقل المحض، هنا نصبح أمام مفارقة: عقلاني(في حكم العقل المحض)ولكنه غير معقول(بلحاظ العقل المنتظم).
يبني الجابري على التعريف نفسه للعقل في تقسيمة لالاند، حيث يعتبر العقل العربي هو جماع الثقافة والأفكار والتجارب التي أنتجتها الثقافة العربية في مجالات عدة وعلوم كثيرة، ويزعم أن نقده يستهدف هذه الثقافة بالنقد والتحليل ولكنه صار إلى الحكم والتصنيف وميز بين المعقول واللامعقول. وكأنه كان يبحث عن العقل الخالص وراء هذا العقل المنتظم ليعيد بناء العقلانية العربية ولكنه لم يفعل سوى الانتصار للتفسير الأرتذكسي بوصفه تأسيسيا بينما لم يف لابن خلدون الذي كان أوضح حين اعتبر الأرتذكسية ولو في بعدها السياسي هي عصبية وغلب، وكان من المفترض بالنسبة لمؤرخ واجتماعي أدرك هذا الوصل بين السياسة والمعرفة أن يقف عند دور العصبية والغلبة في موضوع تكريس الأرتذكسيات، لا ابن خلدون فعل ولا الجابري.
بالنسبة إلى لالاند فهو وضع تعريفا للعقل، لا سيما في العقل والمعايير يكاد يشبه العقل خلال تفاعله في شروط تاريخية وسياقات اجتماعية وثقافية في لحظة معينة، فهو لا يقف عند وصفه فعالية عقلية في عصرنا بل هو فعالية في مهنتنا. لقد تجاوز الجابري حدود هذا التقسيم من الناحية الوصفية إلى الحكم والتصنيف وصولا إلى ترتيب آثار جيو-عقلية من خلال إعلان القطيعة بين الشرق والغرب وكأنّ ابن رشد ليس وليد الثقافة العربية الشرقية نفسها وامتدادها في المغرب والأندلس، في تقديري أنّ التصنيف الجابري لم يقف عند العقل المنتظم بل أصبح له معنى التصنيف في حدود العقل المحض، وهنا خرج فورا وعبر هذه المفارقة من النقد العقلي في حدود العقل الكوني.
العقل المنتظم الذي اشتغل عليه الجابري هو جماع هذا التراث الذي يحتوي التفسير التأسيسي وحواشيه وتأويلاته، فالعقل المعني بالنقد هنا ليس العقل المحض بل العقل المنتظم أي ما أنتجه الوعي العربي من تراث فكري وهذا هو تعريف الجابري للتراث وللعقل المنتظم، أما التفسير الذي سينتصر له الجابري ومنه سينطلق هو التفسير التأسيسي والتأويل السكولاستيكي لهذا التفسير، وهذا ما سيعبّر عنه في مفارق طرق عديدة حين يعلن أنّه ينطلق من مواقف إجماعية وأرتذكسية أوضحنا عيّنات كثيرة منها بما فيه الكفاية من خلال كتابينا: العرب والغرب وكتاب محنة التراث الآخر، فهو لم ينتج أفكارا بل كان يصف ما سماه بالمعقول الديني، ومرجعية المعقول الديني في مقاربة الجابري على مستوى السياسة الشرعية هو ابن تيمية كما أن مرجعية المعقول العقلي في هذا المشروع هو ابن رشد من حيث تقيده بالنص الأرسطي المرجعي في التراث العقلي. هنا تكمن النزعة السلفية حيث باشر الجابري نقده على ثلاثة مستويات: تخليص المعرفة من التأويل الغنوصي ، وهو وصف يحمل أحكام قيمة مسبقة على مناهج التأويل المخالفة لمنهج الأرتذكسية، وتخليص الأخلاق من العرفان وتخليص السياسة من الميثولوجيا، أي الانتصار بحسب تصنيفه الأرتذكسي للبرهان والتقوى والسياسة الشرعية، ومرجعياته في المعقول الديني: ابن تيمية وفي المعقول العقلي: ابن رشد وفي المعقول السياسي: ابن خلدون. النزعة السلفية تحضر هنا كمحاولة للبحث عن البنيات النقية للسلف الفكري الصالح: أرسطو وتنقيته من الآثار الأفلوطينية، المهمة التي اضطلع بها ابن رشد في نظره واعتبار السياسة غلبا وعصبية، وإن لم يلتزم بمفهوم العصبية حتى في إرساء الأرتذكسيات المعرفية والنقاد الديني في الظاهرية الحنبلية والتيمية، إنّها محاولة للانتصار للعقل السلفي ومواقفه وأحكامه وأوصافه والبحث عن النقاء، ذلك النقاء الظاهري الذي يناقض البنيات الظاهراتية بوصفها تركيبا معقدا يحضر فيه كل هذا حيث يصعب الانتقاء والفصل التعسفي، فالمطلب الرشدي هو ضرب من سلفية النقاء الأرسطي باعتبار الرشدية هي وجه عربي للسكولاستيك الفلسفي القروسطوي، وكذلك سائر المرجعيات باعتبارها تمثل السلفية النقية المطبقة على الفلسفة والعلم والدين وكل شيء، استراتيجيا لتسليف العقل العربي وكأنّ الحداثة تستدعي سلفيتنا ومهمّة اختزال كل هذا التعقيد التراثي في مقاربة تعسفية لا تاريخية يحضر فيه التخييل أو البنيات البسيطة المتخيلة، حيث لا يوجد في الواقع تقطيع تبسيطي للبنى.
فكك كانط العقل المحض فبلغ حدسه الخالص في إطاريه الزمكانيين، وفكك العملي وصولا إلى الإرادة الخيرة وفكك ملكة الحكم وصولا إلى الذوق لكن الجابري فكك العقل المنتظم العربي ليصل إلى التأويل الأرتذكسي بوصفه أصلا، لم يبلغ النقاء في الأصل الأول بل بلغ التأويل الظاهري للنقاء وتلك هي ذروة المفارقة في مشروع نقد العقل العربي.
 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


ادريس هاني
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2019/08/16



كتابة تعليق لموضوع : في أي حدود للعقل جرى نقد العقل العربي؟
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net