صفحة الكاتب : يحيى غالي ياسين

السماوة بهويتها الثقافية
يحيى غالي ياسين

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

الثقافة تمثل قاسم مشترك عالمي يشترك به بنو البشر جميعاً ، لأنها نابعة عن مكامن بشرية متأصّلة بأصل النوع ، مصدرها العقل والروح ومردّها إليهما ، غير أن ثمّة اختلافات بالمظهر لا بالجوهر تطرأ على الثقافة هنا ولا نجدها هناك ،حيث تختلف بإختلاف طبيعة ذلك المكان الجغرافية أو موروثاته التاريخية والاجتماعية ... وكذلك تتدخل الحوادث الطارئة والظروف المتغيرة في وضع بصماتها على ذلك المظهر الثقافي كما قلنا ..

الثقافة السماوية - نسبةً الى مدينة السماوة - تشترك مع الثقافات الأخرى بأصل هذا القاسم المشترك ، فصنّاع الأدب ومتذوقوه موجودون على أرضها سواء كان شعراً أم نثرا ، قصةً أم حكمة وأمثالا .. ووَجدَ الفن هواةً ومحترفين له على أرضها منذ أن بسطت أوروك على أرضها أبجديات الحضارة وحروف التمدن الأولى ، ولعل المطر خير منقّب آثاري على أروع البستوكات وأدوات الزراعة في ليشان الرميثة ومدينة هولاكو على أعتاب قضاء الخضر ..

للثقافة مذاق سماوي أو ( سماوتلي ) خاص سنحاول تذّوقه في هذا المقال ، ولقد تركّب هذا المذاق الخاص من عدة عناصر وتدخلت عدد من العوامل في تصميمه وتحضيره وأهمّها عوامل ( الجغرافيا - التاريخ - الإجتماع ) .

امّا العامل الجغرافي : حيث تلتقي في السماوة عدّة ظواهر طبيعية كانت وما زالت ملهمة الأدباء والحكماء والفنانين ، فإطلالتها الصحراوية من جهة وسورها الريفي من جهة أخرى وقلبها الحضري حيث الفرات شريانه الأبهر وأزقتها ( العگود ) المتصلة والملتوية على نفسها والمنتشره في حاراتها الثلاث الكبيرة ( الشرقي والغربي والقشلة ) وهي مكتظة بالبيوتات الدينية والديوانيات ( براني ) والمقاهي التي لا تسأم من الجلَسات الأدبية ، ودكاكين حرفها اليدوية مصطفة في عگد النجاجير وعگد الصفافير وعگد القصابين .. كل ذلك جعل من الثقافة السماوية عاصمة من عواصم الثقافة الشرقية التي بعثت لها سفراء يعرفهم القاصي والداني .. وما عليك الا ان تبحث عن لقب السماوي في محرّك البحث الالكتروني ( گوگل ) لتنظر الى نتائجه .. !

فالثقافة السماوية تنبعث منها سَموُم البادية والتي ستخفف حرارتها نسائم الريف وسهف نخيل بساتينه الشرقية والغربية ، ثم تأتي لتلاعب منائر وأزقّة الصوب الكبير والصغير بأحلى وأذوق ما يُقرأ وما يُسمع ويُرى .. هذا الخليط الصحراوي - الريفي - الحضري له مَذاق لا يُدانية أي مذاق آخر ، ويشعر بوحشةٍ قاتلة كل من فارقه ، وهذا ما نراه - مثلاً - في أبيات الشاعر الكبير العلامة عبد الحميد السماوي والتي نظّمها وهو في طريقهِ من روما الى النمسا في قصيدة حواها ديوانه :

نواقيس روما جلجلي واملأي الفضا
دويا فإنّي مُنصتٌ رغم الآمي
فما نغمة الأجراس تغلي مشاعري
ولا روعة الجلّاس تنعش أحلامي
شتيتان لم نبرح فلا دمهم دمي
ولا خمرهم خمري ولا جامهم جامي


وأمّا العامل التأريخي : فلمّا كان للجغرافيا أثرها البارز في الثقافة السماوية كما ذكرنا آنفاً ، فإن البعد الزماني أبى الا أن يغرس قدميه في أطناب تأريخ هذه الأرض وبالتحديد في مهد الحضارات الإنسانية أوروك قبل 5000 عام ليرفع السماوة شامخة الى عنان السماء ..

ثقافتنا نحن السماويون سومرية بإمتياز ، فالمدينة الحديثة قد تم تصميمها على أرضنا هنا ، وتم تشريع أنظمة الإدارة والحكم والزراعة والري هنا ، وشهدت أرضها أقدم المعابد ومقابر أقدم البشر ..

والإرث الحضاري والتأريخي هذا ليس عقيماً ولا أبتراً وإنما لا زالت أرضه تمد نازليها بأسمى وأأصل الثقافات ، وكإنما اجتمعت مراحل وأحقاب التأريخ كلها في زمن واحد .

فترى السماوي الآن خبيراً بأصول المدنية وبنفس الوقت ملمّاً بآداب الريف وعادات وتقاليد القبائل العربية ، وأمّا البداوة ونواميسها فيمزجها مزجاً متجانساً ومتناغماً مع حياته الريفية - المدنية ليخرج بحصيلة ثقافية غنية ومدعّمة بمنظومة معرفية تستطيع الاطلاع عليها من محضر المواطن السماوي ( السماوتلي ) ، فالحكمة والمَثل والقصة والحكاية والشعر والطرفة والقانون والموروث الشعبي ... الخ كلها تجدها في كلامهِ وكتابتهِ فضلاً عن شعره وسائر أدبه ..

وكأن المتنبي ( الذي له في بادية السماوة ذكريات ) قد حكى لنا هذا المزيج الثقافي المتجانس في بيته المشهور :

الخيل والليل والبيداء تعرفني **** والسيف والرمح والقرطاس و القلمُ

فلا تستغرب أن ترى الضابط والاستاذ الجامعي ورجل الأعمال صباحاً هو نفسه شيخ العشيرة في المساء أو صاحب المَزارع والمراعي بعد أوقات مهامه المدنية الرسمية ..

في السماوة قامات الشعر القريض ، كالعلامة السماوي ( الذي نُقشت أبيات له على باب الذهب لمرقد أمير المؤمنين ع ) وبنفس الوقت ترى للهوسة والشعر الشعبي أعلامه كمحسن الخيّاط ..

سكّانها القليلون جداً نسبة الى أرضها الشاسعة جعل من ثقافتها عنصراً مركّزاً في شخصيات أبنائها ولم يُخفَّف بثقافات مستوردة وإن جاءت فهي طارئة .. وأحسب أن أبيات السموأل الذي وجد في السماوة مدفنا لرفاته ( كما ينقل التأريخ ) قد أشار الى خصوصية السماوة هذه من حيث لا يقصد :

تعيّرنا إنا قليل عديدنا فقلت لها إن الكرام قليل
وما ضرّنا أنا قليل وجارنا عزيز وجار الأكثرين ذليل

وأخيراً العامل الاجتماعي : ويمكننا توزيع مجتمع السماوة على قسمين مهمّين من حيث الهوية الثقافية :

القسم الأول : المجتمع ذو الثقافة العشائرية ، ويشمل الريف وإمتداداتهم في البادية ، تغلب على هذا القسم الأعراف العشائرية وقوانينها المتعلقة بالفرد وبالجماعة ، العقل الجمعي المتشرب بالسنن والنواميس القبلية يقود الفرد أكثر من أي شيء آخر ، وهذا القسم هو الأعظم من حيث نسبة السكان والمساحة التي يشغلها ، وجغرافياً يتخذ شكل الحلقة الخارجية المغلقة التي تحيط بالقسم الآخر والذي يتخذ قلب المدينة ومركزها مقراً له ..

ويحسب لهذه الثقافة بأنها حكومة الظل داخل المجتمع السماوي والتي لمسنا حاجتها في أوقات عصيبة وخاصة عند تخلخل الدولة وغياب القانون أو تراجع هيبته . لهذا القسم الاجتماعي أدبه الخاص ومذاقه الثقافي المميز ، فمجالسهم ومناسباتهم عبارة عن صالونات ثقافية غنية بالطرفة والحكمة والقصة والهوسة والشعر ... الخ

القسم الثاني : المجتمع ذو الثقافة المدنية ، أو أهل الولاية ، هذا القسم كما قلنا يتخذ مركز السماوة مقراً له ، طبيعة عملهم وعلاقاتهم الاجتماعية وإهتماماتهم الاخرى مغايرة بنسبة معينة وواضحة عن القسم الأول ولكن يمكن تصنيفهم أيضا الى صنفين :

الصنف الأول : يتألف من مجموع الأسر والبيوتات والعوائل التي ليس لها ارتباطاً نَسَبياً بإحدى عشائر السماوة ولا تحالفاً معها وإنما تتخذ أُسرها صفة وشخصية العشيرة لأبنائها ، وهم من أبناء المدينة ونزلائها بشكل أصيل ولنسمهم عشائر الولاية في مقابل عشائر الريف ..

الصنف الآخر : الذين جاءوا بسبب حركة الهجرة من الريف الى المدينة في القرن السابق والتي لا زالت مستمرة الى الآن ..

هذه التركيبة الثنائية لمجتمع السماوة أنعكست على ثنائية الثقافة وإزدواجيتها الإيجابية .

هذه نظرة سريعة وبطاقة تعريفية مختصرة بالهوية الثقافية لمدينة السماوة ، نأمل أن نكون قد أعطينا فكرة عامّة عنها ونترك التفصيل الى الكتب والمعاجم التي تحدثت عن هذه المدينة الغنية بتاريخها وأرضها ومجتمعها ..


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


يحيى غالي ياسين
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2020/01/14



كتابة تعليق لموضوع : السماوة بهويتها الثقافية
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 

أحدث التعليقات إضافة (عدد : 1)


• (1) - كتب : جاسم فيصل الزبيدي ، في 2020/08/18 .

اغلب مارود غير موفق ، وكنت اتمنى ان تطالع كتابنا المفصل في تاريخ السماوة وباديتها ، لترى حجم الاخطاء التي نقلتها وبخاصة اسم السماوة ، لاننا نفينا جملة وتفصيلاً وجود شخصية السمؤال.. اتمنى مطالعة كتابا الذي هو موسوعة مكونة من 17 جزء.




حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net