صفحة الكاتب : هشام بن الحكم

نماذج من تحريف الكتاب (2): مفردة الضرب بين شحرور والحيدري 
هشام بن الحكم

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

 النتيجة الثانية التي استنتجها شحرور استناداً لتسويقه معنىً جديداً للضرب، هو أن الضرب في قوله تعالى: {واضربوهن}، لا يعني (الضرب المعروف) إنما يعني «اتخاذ موقف حازم علني من الرجل تجاه المرأة، أو من المرأة تجاه الرجل، بحيث يمنع أحدهما الآخر من النشوز الاجتماعي.. والضرب هو موقف علني حازم، لا الضرب باليد أو العصا كما فهمه البعض».  إلا أنه في بعض محاضراته المتأخرة عن صدور الكتاب، بين أن الموقف العلني الحازم هو «سلب القوامة من المرأة» باعتبار أن القوامة عنده قد تكون للرجل وقد تكون للمرأة، وهذه الآية مختصة فيما إذا كانت القوامة للمرأة، وخشي زوجها أن تتكبر عليه، وهو ما أسماها بالنشوز الاجتماعي.  

أما السيد الحيدري فوافق محمد شحرور في كل شيء، ولم يزد عليه شيئاً، سوى أنه بيّن أن معنى «الموقف الحازم العلني» هو المباعدة بالخروج من البيت.

إلا أن كلاً منهما لم يتطرق إلى صيغة التأنيث الواردة في الآية في قوله تعالى: {واضْرِبُوْهُنّ} مع أن النشوز ـ كما صرح شحرور ـ يقع من الرجل كما يقع من المرأة، قال: « اتخاذ موقف حازم علني من الرجل تجاه المرأة، أو من المرأة تجاه الرجل».  فكيف صحّ شمول الذكر والأنثى بخطاب واحد تأنيثاً؟  كما أن الإجراءات الثلاثة السابقة، بل سياق الآية كله كان بصيغة المؤنث: {تخافون نشوزهن فعظوهنّ واهجروهنَّ في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهم سبيلاً}.      

ما هو المنهج المتبع لدى شحرور والحيدري؟

لا بد هنا أن نسأل عن (المنهج) أو (الاتجاه) أو الطريقة التي سلكها كلٌّ منهما في الوصول إلى هذه النتائج وغيرها، وكيف أصبح الضرب يعني الموقف الحازم بسلب القوامة، أو المباعدة والخروج من البيت؟ وكيف صار معنى الضرب في الأرجل هو السعي والطلب في ممارسة مهنة التعرّي والبغاء؟! وكيف أصبح معنى {ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع} يعني الأرامل من أمهات اليتامى فقط دون غيرهنّ كما سيأتي في بحث لاحق؟

إن هؤلاء الذين أطلقوا على أنفسهم صفة (القرآنيين) سلكوا طريقاً خاصاً في فهم القرآن الكريم، تأثر إلى حدّ كبير بالإبستمولوجيا وبعض نظريات الألسنية المعاصرة، وسوف نوجز مرتكزات ذلك في نقاط رئيسة:

1 ـ إلغاء السنّة بالمطلق، ورفع اليد عنها بالكامل، اللهم إلا بما وافق النتائج التي يصلون إليها، فيكون دور السنة هو (الاستشهاد والتعضيد) وليس (الاستنباط) وهو ما أطلق عليه السيد الحيدري (محورية القرآن ومدارية السنة).  ومن هنا لا نستغرب الموقف المتشدد لدى هؤلاء من قبول السنة في الجملة، وشنهم حرباً شعواء على ما أسموه بالتراث، وإثارتهم الشبهات والتشكيكات حوله.       

2 ـ رفع اليد عن التراث العلمي للأمة، وتجريد القرآن تماماً من جميع آراء المفسرين واللغويين والفقهاء وغيرهم، بحيث لا يبقى من القرآن الكريم سوى النص والمفسّر الجديد (المفسّر القرآني) يوجّهه كيف يشاء وكما يريد.

3 ـ من الطبيعي أن تنشأ لدى هؤلاء نزعة متطرفة في معاداة المفسرين والفقهاء واللغويين ووصفهم بكل قبيح من الجهل والتخلف والبعد عن الفهم والإدراك، بل حتى إسقاطهم في أعين الناس بشتى الطرق والحط من شأنهم، وهو ظاهر جليّ في سلوك السيد الحيدري بالخصوص، بدعوى أنه (مجتهد) غير ملزم بآراء غيره.

4 ـ يعتمد هذا (المنهج) على (الفوضى والمزاجية) في التعامل مع اللغة العربية، ولغة القرآن الكريم، وقواعد التفسير، باعتبار أنه إفرازات وأسس سابقة لا ترقى لمستوى العصر، ولا تلبي الحاجة الفعلية للتفسير. بل إن أهم ما يميز هؤلاء هو الضعف الفاحش والابتعاد الشديد عن اللغة بجميع أنحائها، نحواً وصرفاً وبياناً واشتقاقاً وغير ذلك. لكنهم مضطرّون لاستخدامها إذ لم يبقوا لأنفسهم ما يستندون إليه.

5 ـ يعتقد هذا (المنهج) أن الثابت هو النص القرآني فقط، أما المعنى فهو (متحرك) وأن القرآن عبارة عن ركنين أساسيين: الأول هو النص الإلهي، والثاني (معنى النص) وهذا الأخير لا يمكن أن يكون فهمه ثابتاً وموحّداً. وهو ما أطلق عليه شحرور: «ثبات الصيغة وحركة المحتوى» وما أسماه الحيدري: «كل ظهور في كل زمان حدة» ثم أتبعه بمبنىً آخر ذي صلة أسماه: «توقيفية المفهوم القرآني واجتهادية مصاديقه» ومبنىً آخر مشابه ذي صلة أيضاً أسماه: «وحدة المفهوم وتعدد المصداق». وقال في بعض محاضراته ما معناه: «لن يستطيع أحدٌ أن يفهم المراد الإلهي».  

يقول شحرور في وصف لغة القرآن بأنها: «تحتوي (المطلق الإلهي) في المحتوى، و (النسبية الإنسانية) في فهم هذا المحتوى، وهذا ما نعبر عنه بثبات الصيغة اللغوية (النص) وحركة المحتوى».

هذا أهم المرتكزات التي تبناها شحرور وأمثاله وأتباعه ومنهم السيد الحيدري، ولعل هنالك مرتكزات أخرى لا تخفى على المتابع.   

عودة أخرى لمفردة «الضرب»:

بملاحظة الأسس والمرتكزات السابقة نجد أن محمد شحرور والحيدري اتبعوا تلك الأسس في تفسيرهم مفردة الضرب: فقد حذفوا السنة تماماً من معادلة فهم الآية،
وكأن النبي (ص) والأئمة (ع) لم يكن يعنيهم أمر هذه المفردة الخطيرة ذات المساس المباشر بالحياة اليومية للفرد والأسرة،  بل ورد فيها ما هو مخالف تماماً لما ذهب إليه هؤلاء. كما أنهم ـ طبقاً لمنهجهم هذا ـ  لم يعبأوا بكلام المفسر ولا اللغوي ولا الفقيه. فخاضوا في معنى المفردة بلا ضوابط ولا أسس ولا قواعد، وقالوا برأيهم ما شاؤوا.

فنلاحظ أن شحرور قد رجع إلى معجم مقاييس اللغة لابن فارس، ونقل كلامه بالنص، وهو أن مفردة  الضرب  «أصلٌ واحد، ثم يستعار ويحمل عليه» وهذا صحيح لا غبار عليه، وقال في موضع آخر: ««ففعل (ضرب) معناه الضرب! ويحمل عليه... وقد شرحت هذا الفعل في شرح: {ولا يضربن بأرجلهن}»  (ص:621).

وبعد أن استعرض بعض الاستعمالات المجازية الأخرى (ص: 613).  قفز بشكل غير متوقع ليقول: «ومن هنا نفهم {ولا يضربن بأرجلهن} والسبب في ذلك النهي هو لكي لا يُعلم ما يخفين من زينتهن.. فهذا يعني أن الله منع المرأة المؤمنة من العمل والسعي (الضرب) بشكل يظهر جيوبها أو بعضها».

أي أنه بعد استعراض المعاني المجازية اختار ما يقرب من معنى {ضَرب في الأرض} مع أن صيغة الآية هناك مختلفة وهي: {يضربن بأرجلهن}، وقد قال ابن فارس في معنى الآية موضع البحث: «ويستعار منه، ويشبَّه به‏ الضَّرب‏ فى الأرض، تجارةً وغيرها من السّفر. قال اللَّه تعالى: وَ إِذا ضَرَبْتُمْ‏ فِي الْأَرْضِ...». فضرب (الأرض) بالرجل، غير الضرب في الأرض.  

فهو إما أن يكون جاهلاً بلغة العرب وتصريفاتها وتراكيبها، أو أنه استنسب هذا المعنى لأنه قريب من مزاجه، فقول العرب: ضربتُه، يختلف عن قولهم: ضرب فلانٌ في الأرض،  أو ضُربَت عليه الذلة، أو ضَربتُ عنه صفحاً. فلكل صيغة وتركيب من هذه التراكيب استعمال خاص لا يستعمل في غيره.  كما أن هذا الفعل يتعدى بنفسه، أو يتعدى بالحرف، أو يتعدى بنفسه ويتعلق به الحرف، أو يُهمز (أَضْربَ عنه) فيكون بمعنى أعرض، وهكذا. فلا يمكن اختيار أي معنى من المعاني اعتباطاً.

ثم إن هذه اللفظة لا تخلو: إما أنها استخدمت بنحو الحقيقة، أو المجاز، فإن قالوا: إنها على حقيقتها وأصلها فهذا قول جميع المفسرين، ولا خلاف. وإن قالوا: إنه استعمال مجازي في غير معناها الذي وضعت له،  فلا بد من قرينة تصرف اللفظ عن معناه الحقيقي. على أن يكون ظهور القرينة أقوى من ظهور ذي القرينة، وليس العكس، كما هو حاصل في  مفردة الضرب، التي لم ينصبوا عليها في دعواهم المذكورة لا قرينة ظاهرة ولا خفية.

إلا أن هذا النقاش برمته خارج عن دائرة اهتمامهم، ولا يفقهون منه شيئاً، فهم أبعد ما يكونون عن اللغة، والقليل منهم تعلم بعضها وأخفق في الكثير، فيما لا يفقه أكثرهم أبجدياتها، فلا يفرق بين مشترك ومختص، ولا بين أصل واستعمال، ولا بين حقيقة ومجاز، فتراه يخبط عشواء بلا علم ولا هدى.

ومن هنا لا يمكن أن نطلق على طريقة شحرور والحيدري اسم (المنهج) إلا من باب التجوز والتوسع ليس إلا، فما هي إلا الفوضى والتخبط وضرب القرآن بالقرآن، والقول فيه وفق الهوى والقياس والمزاج الشخصي، وهو ما كان يفعله الزنادقة طيلة التاريخ. 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


هشام بن الحكم
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2020/06/02



كتابة تعليق لموضوع : نماذج من تحريف الكتاب (2): مفردة الضرب بين شحرور والحيدري 
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net