صفحة الكاتب : هشام بن الحكم

نماذج من تحريف الكتاب  (4) :   آية تعدد الزوجات بين شحرور والحيدري
هشام بن الحكم

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

في هذه الحلقة نحاول مناقشة (الدليل) الذي ساقه محمد شحرور وتابعه عليه الحيدري، وهو كون الجزاء لا يتناسب مع الشرط، وأنه أجنبي عنه، إذ إن الشرط يتناول (أموال اليتامى) بينما يتناول الجزاء (نكاح ما طاب من النساء). وقد مثّل الحيدري لذلك بقوله: هذا أشبه بقولي مثلاً: إنْ لم آتِ للدرس، فاشرب الماء البارد. مع أن هذا المثال نفسه لم يكن موفقاً أيضاً، ولسنا بحاجة لمناقشته بالتفصيل، ولكن لا بد من بالقول: إن الكثير من القرائن الحالية تربط بين الشرط والجواب، وليس بالضرورة أن تكون مقالية أو غيرها، فقولي مثلاً لزيد من الناس: إذا رأيت الأسد، فارفع يدك إلى الأعلى، كلام غير مترابط في نظر الحيدري، لكنه مترابط وسليم فيما إذا كان هنالك اتفاق مسبق بيني وبين المخاطب، بأن وضع اليد على الرأس إشارة لمجموعة من الناس أن يهربوا، أو لأحد الرماة أن يتهيأ لرمي الأسد، وهو ما يسمى بكلمة السر مثلاً. فادعاؤه مسبقاً عدم وجود الرابط بين الشرط والجزاء بناء على القول بالنكاح من غير اليتيمات، مجازفة وتحكّم.

على أن جواب الشرط في الآية ليس من هذا الصنف كما سيأتي، ولا  وجود لما هو أجنبي.         

 وسوف نقف هنا عند حدود الآية الشريفة كما أراد الحيدري ونترك الاحتجاج بالسنة أو السيرة أو الإجماع أو الضرورة أو غير ذلك، لا لأننا نريد التفكيك بين الأدلة كما يريد الحيدري وشيوخه من القرآنيين،  إنما لتنقيحها والتحقق منها منفردةً قبل إصدار النتيجة.  

ونلاحظ هنا ما يلي:

 1 ـ ادعى الحيدري أن هذه الآية هي الوحيدة التي استُدل بها على تعدد الزوجات في القرآن الكريم، وهذا جهلٌ ووهم، فهنالك آية أخرى دلت بالاقتضاء على التعدد أيضاً وهي قوله تعالى: {ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة) فالعدل بين النساء يقتضي وجود أكثر من واحدة كما هو واضح.

وهذا ما تنبّه إليه الطاعنون في القرآن، كالزنادقة وغيرهم، فادَّعوا التناقض بين هذه الآية وسابقتها، باعتبار وحدة الموضوع بينهما، فكيف يقول هناك {فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة} ويقول هنا: {ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم}؟ فكان جواب الإمام الصادق (ع): أن العدل الأول يعني النفقة، والعدل الثاني يعني المودة، وكلاهما في موضوع واحد، هو وجود أكثر من زوجة واحدة.   

 2. أهمل صاحب الدعوى الفرق بين القسط والعدل في الآية وكأنّ التغاير بينهما وقع اعتباطاً لغير قصد.
فالعلاقة بين العدل والقسط ليست التساوي كما ظن شحرور والحيدري، إنما هي العموم والخصوص من وجه.

فهذان اللفظان وإن وردا بمعنى واحد أيضاً، لكنهما استُعملا لغوياً وقرآنياً بمعاني يختلف أحدها عن الآخر.
ولذلك قال تعالى في آية أخرى: {فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين}. مما يعني أن العدل يأتي بمعنى مغاير للقسط. والملاحظ أن القرآن الكريم لم يستخدم لفظ «العدل» مطلقاً مع اليتامى، إنما استخدم القسط، الإحسان، الرزق، وأمثالها. قال تعالى: {وأن تقوموا لليتامى بالقسط}.  

فمما ذكروه من الفرق بين العدل والقسط:

أ. أن القسط هو العدل  الظاهر البين، وهو ما ذكره أبو هلال العسكري صاحب الفروق اللغوية. فإن كان من العدل ما يخفى، فالقسط عدلٌ غير خفي.

 
فقد يكون العدل في القول: {وإذا قلتم فاعدلوا} أو النظر واللحظ والشدة والغضب وغيرها، وهي لا تدل على العدل بشكل ظاهر كما هو الحال في العدل في الميزان، ولذلك سمي الميزان قسطاً وقسطاساً لأنه يدل على عدل ظاهر.

ب. أن القسط كثيراً ما يستعمل في الحكم القضائي: {فاحكم بينهم بالقسط}.

ج. أن القسط يكون بينك وبين طرف آخر، أما العدل فيقتضي وجود طرفين أو أكثر غيرك.

فيقال: قسطتُ إليه، وفيه. وعدلت بينهما أو بينهم.

قال تعالى: {أن تبرُّوهم وتُقسطوا إليهم}. وقال: {وأن تقوموا لليتامى بالقسط}. فهنا طرفان فقط: أحدهما المكلف بالقسط. أما العدل فلا بد من وجود أكثر من طرف في مقابل الطرف المكلف. قال تعالى: {وأمرت لأعدل بينكم} وقال: {وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل} وقال: {ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء}. 

د. أن القسط فيه معنى السهم والحصة، أما العدل فقد يكون فيه ذلك أو  لا.  قال الخليل: (القِسْطُ: الحصة التي تنوبه، وتَقسَّطوا بينهم الشيء: أي اقتسموه بالتسوية، فكل مقدار قسط في كل شيء.

من هنا يتبين جلياً أن استعمال القسط مع أموال اليتامى يختلف عن استعمال العدل في قوله تعالى: (فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة) فالقسط يناسب الأموال والحصص وحسن التصرف في الأموال والماديات، وهو فعلٌ بين طرفين، المكلف من جهة، واليتيم من جهة، واحداً كان أو أكثر.  والعدل يناسب وجود عدة أطراف غير الطرف المعني بالعدل.

 بعبارة أخرى: أن القسط في الآية يناسب أموال اليتامى، والعدل يناسب الزوجات.

3.  خصّص المدّعي لفظ العموم (وهو النساء) بلا مخصِّص قطعي، والتخصيص بلا مخصص باطل. فبينما تذكر الآية
لفظ (النساء)، وهو عام، جعلها المدّعي في قسم خاص من النساء وهن (أمهات اليتامى) على فرض وجودهن على قيد الحياة، وصلاحيتهن للزواج.

فلو كان المشرّع يريد هذا القسم فقط لما عبّر عنه بلفظ العموم، ولذكره بلفظه الخاص بقوله: (أمهات اليتامى)، وإلا كيف يمكن القول: إن النساء تعني أمهات الأيتام، مع عدم وجود المخصص؟

ويجدر بنا هنا ملاحظة قوله تعالى في آية أخرى: {ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم في يتامى النساء} فلما أراد الكلام عن صنف خاص من النساء، وهن يتامى النساء انتقل من التعبير بلفظ العموم إلى المركب الإضافي. وهذا ما لا نراه في الآية السابقة.  

4 . ادعى الحيدري أن السياق هو في (أموال اليتامى) لكن المفسرين جعلوه في النكاح! ولذلك جاء الجزاء أجنبياً عن الشرط.

وفيه:

أ ـ لا منافاة بين الحديث عن أموال اليتامى وعن نكاحهن، للترابط الشديد بين الأمرين، فهنالك من يريد الزواج باليتيمة من أجل مالها وجمالها، فلا يصدقها مهر أمثالها، أو أنه يقصر معها في النفقة، أو يستحوذ على أموالها بحجة الزواج، وهكذا، وهو ما ذكرته أسباب النزول أيضاً، فالحديث عن الجانب المالي في النكاح موضوع واحد وليس موضوعين متنافيين كما ادعى الحيدري وكرره مراراً في محاضراته.

ب ـ أن الحيدري لم يراجع أقوال المفسرين في ذلك، إذ لم يقل أحدٌ منهم بخلاف السياق، ولم يقولوا إن القسط مختص بالنكاح، ولم يقدروا محذوفاً كما زعم، لسبب بسيط خفي على الحيدري وأستاذه شحرور، وهو: أن من أبرز مقتضيات العدل في نكاح اليتيمة ـ كما مر ـ هو القضايا المالية ذات العلاقة بملكيتها الخاصة قبل النكاح أولاً، والصداق ثانياً، والنفقة ثالثاً، فهذه كلها قضايا مالية يجمعها موضوع واحد هو: أموال اليتامى، وذات علاقة مباشرة بنكاح اليتيمة.

ومن هنا لا يقال: إن الجزاء أجنبي عن الشرط، فموضوع الشرط هو الأموال المتعلقة بنكاح اليتيمة، والجزاء تناول النكاح في مفهومه العام.

فيكون حاصل المعنى: إن خفتم أن لا تفوا لليتيمة بحقها المالي عند النكاح (تقسطوا)، من الصداق والنفقة وأموالها التي بين أيديكم سلفاً، فاتركوا نكاحها إلى نكاح غيرها من النساء، ولكم أن تنكحوا الحلال الطيب من سائر النساء على أن لا تزيدوا على الأربع. ثم انتقلت لحكم آخر يتناسب مع التعدد المذكور وهو خوف عدم (العدل) فقالت: فإن خفتم أن لا تعدلوا بين أكثر من واحدة، فواحدة.

وهو كلام سليم مترابط ليس فيه ما هو أجنبي، تؤيده اللغة والاستعمالات القرآنية، وأسباب النزول التي ذكرها المفسرون.

وسوف يتبين فيما يأتي من الحلقات كيف أن الحيدري تجنى على المفسرين ونقل خلاف ما ذكروه في تفاسيرهم في هذا الشأن، ليلقي في ذهن المتلقي أن الآية ليست في تعدد الزوجات، إنما  كان ذلك من فهم المفسرين فقط.

بين قوسين مرة أخرى:

مما أثاره الحيدري في آية تعدد الزوجات أن توقف الجزاء على الشرط يدل بالمفهوم الشرطي على المنع من الزواج عند عدم الخوف من القسط في أموال اليتامى.
بعبارة أخرى: إن خفتم عدم القسط فانكحوا، وإن لم تخافوا فلا تنكحوا.
وحجته في ذلك: أن مفهوم الجملة الشرطية ثابت، فلا بد ان يكون ظاهراً في المنع من الزواج.
أقول:
كون الجمل الشرطية لها ظهور في المفهوم بشكل مطلق لا يقول به إلا جاهل. فربما كان المفهوم منتفياً بانتفاء الموضوع.
فإن قيل: إذا رُزقتَ ولداً فاختنه، فهذه لا ظهور لها في المفهوم، فلا يقال: إن لم ترزق ولداً فلا تختنه، لأنها سالبة بانتفاء وجود الولد.
كما أن المفهوم إذا كان تحصيلاً للحاصل فهو تكرار لا أثر له.

وبالعودة للآية نجد أن النكاح من العقود الاختيارية، فللإنسان أن يتزوج أو لا يتزوج، ودلالة قوله تعالى: (فانكحوا) هو الإباحة وليس الوجوب. 
بمعنى أوضح: إن خفتم أن لا تقسطوا في أموالهم، فالنكاح مباح لكم. وإن لم تخافوا عدم القسط فهو مباح لكم أيضاً.
فما أفاده القرطبي من كون الشرط هنا لا مفهوم له ليس سببه الإجماع، إنما سببه دلالة لفظ الأمر هنا ليست على الوجوب، فيكون المفهوم من تحصيل الحاصل.

بل حتى على فرض ما أراده الحيدري لا يكون للمفهوم ظهوراً في عدم التعدد، غايته أن يقال: إن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فتزوجوا أمهاتهم، وإن لم تخافوا فلا تتزوجوا أمهاتهم، فمن أين جاء الحيدري بالمنع من زواج غير أمهاتهم؟ 

هل فهمها الحيدري؟؟ 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


هشام بن الحكم
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2020/06/02



كتابة تعليق لموضوع : نماذج من تحريف الكتاب  (4) :   آية تعدد الزوجات بين شحرور والحيدري
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net