صفحة الكاتب : د . اكرم جلال

خِيانَةُ الأمانَة .. نتاجُ الجّهل والأسطورة
د . اكرم جلال

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

 حينَما تَسقطُ القِيَم وَتَتَحوّل المباديء إلى تِجارة، رِبحٍ وَخَسارة، حينما يكون الزَيّ والمَلْبَس هوَ المِعيار، والفكرُ والوعيُ مُحارَبٌ مِن قِبَلِ التُجّار؛ حينَما يكونُ الكَذِب منهج للحياة والغَدر والفجور مفاهيم مرادفة لفنون السياسة والحكم؛ حينما تتحوّل هذه المفاهيم الممقوتة إلى فكرٍ وعلمٍ يُدرّس، وأنَّ على السياسي البارع أنْ يَتَعلّم هذه الفنون وَيَفقَه هذه العلوم، وأنّ عليه أن يَلِجَ هذه المدرسة ليتخرج منها وهو يحملُ شهادةَ الكَذِب والإبتزاز بتفوّق وامتياز، فلعله يستطيع أنْ يَنزِعَ ثَوبَ الأبرياء لِيَحجزَ مَقعداً بَين الأشقياء.

إنّه زَمَنُ الخيانة وَبيعٌ للأمانة، زمنُ الخطابات الرنّانة والتسابق نَحو المَهانة؛ قوالب للتبرير، أَعَدّها وأخرَجَها أبالسة مازالوا خلف السِتار يشرعنون وللباطل يطبّلون، ويصورون الغَدرَ انتصار والخيانة فنُّ الشُطّار، من أجل مقاصد في نفوسهم المريضة واطماعهم المستفيضة، وعُقَدٌ وتَشّوهات وعبادة للذّات، وأهداف يظنّون أنّها أيديولوجية براجماتية.

الخيانة كما يعرفها أبن منظور في لسانه هي "الخَوْن: أن يؤتمن الإنسان فلا ينصح، خانَه يخونه خونًا وخيانة، وخانَةً ومخانة". إنّها غمط الحقوق واغتصابها، قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ﴾ [النساء: 58].
روي عن أحمد بن علي التفليسي، عن أحمد بن محمد الهمداني، عن أبي جعفر الثاني، عن آبائه (عليهم السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنّه قال: " لا تنظروا إلى كَثرَةِ صلاتهم وصومهم وكثرة الحج والمعروف وطنطنتهم بالليل ولكن انظروا إلى صدق الحديث وأداء الأمانة "1.

فلا شكّ ولا رَيب أنَّ للخيانة أثر خطير على حاضر ومستقبل الأفراد والمجتمعات، وأنّ الأعمال أساسها الأمانة، وهي عنوانٌ لا يحمله إلّا أهل النُبل والإستقامة، وأنّ الأمم لا تسمو ولا تتقدّم إلّا حينما تسود الأمانة وتنجلي غبرة الخيانة؛ فعن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن جعفر بن محمد، عن أبيه عن آبائه (عليهم السلام) قال: " قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لا تزال أمتي بخير مالم يتخاونوا، وأدّوا الأمانة، وآتوا الزكاة، وإذا لم يفعلوا ذلك ابتلوا بالقحط والسنين" 2.

فَعَن أيّ أمانةٍ كانَ الحبيب المُصطفى يَتَحَدَّث، وأيُّ أمرٍ عَظيم ذلك الذي يُحذّرنا منه؟

لقد أوضح أمير المؤمنين ومولى المتقين عليّ (عليه السلام) مفهوم الخيانة وبيّن أعظم مراتبها، ففيما روي عنه قوله: "ومَنِ اسْتَهَانَ بِالأَمَانَةِ ورَتَعَ فِي الْخِيَانَةِ، ولَمْ يُنَزِّه نَفْسَه ودِينَه عَنْهَا، فَقَدْ أَحَلَّ بِنَفْسِه الذُّلَّ والْخِزْيَ فِي الدُّنْيَا، وهُوَ فِي الآخِرَةِ أَذَلُّ وأَخْزَى، وإِنَّ أَعْظَمَ الْخِيَانَةِ خِيَانَةُ الأُمَّةِ، وأَفْظَعَ الْغِشِّ غِشُّ الأَئِمَّةِ"3.

نعم، إنَّ للخيانة صُوَرٌ وَأشكالٌ، تَختلِف مِنْ حالٍ إلى حال، وَتَتَباين في الشرّ والأثر، لكنَّ أعظَمَها إثماً وَأَبشَعَها هَدماً هيَ خِيانة الأمة، وإفشاءِ أسرارِ الشعوب وَنَهبِ خيراتها وَجَعْل مصيرها مرهون بيد أعداءها. خيانةٌ تثيرُ الخوف والفزع وتهتك الدين والشَّرع، تمّ الإعداد لها بإتقان لتتحوّل بمرور الأيام والأعوام إلى تجارةٍ مُربحة، وسياسة ناجحة.

إنَّ الخيانةَ ما كان لها أنْ تأخُذَ مَكانها وَسَط الأمة دون تَوضيفٍ أسطوري، حيث يعتقد الكثير من علماء الفلسفة والفكر أنّ الخيانة السياسية لا بد لها من أساطيرَ تَدْعَمها وَتُهيء لها الأرضية من أجل أن يتقبلها عوام الناس، ومن هؤلاء المفكرين الفيلسوف الألماني هانز بلومنبرج، الذي يعتقد أنَّ الأسطورة هي من الأدوات الأكثر تأثيراً في إقناع الجمهور وتمرير الخديعة وتحويل الخيانة إلى عَمَلٍ مُبارك، بل وضروري.

والأسطورة لا يمكن لها أنْ تَنْطَلي على شَعبٍ يَمتلك درجة مِنَ الوَعي والثقافة، فالعِلمُ كَنزٌ ثَمين وَحِصنٌ أمين، وَدِرعٌ رَصين، والأمَمُ بِخَيرٍ ما دامت عارِفَةُ عالِمَة، لذلك لابدّ أولاً مِنْ بَرامِجَ في التّجهيل المُمَنْهَج في أنْ تأخُذَ دورها لِسَحق العقول ومحاربة الفكر حتى يَزول، ولِطَمس الثقافة وإشاعة الخُرافة، وَمَحو العِلْمِ والتَعليم، وَتقديم أهل الجَهل والأطماع وإبعاد أهل العلم والإبداع. عندها فقط يكون للإسطورة عنوان، وتكونَ عَصاً بيدِ السلطان، ولتجد لها المكان في النفوس والعقول في كلّ مكان وزمان.

والغريب أنَّ الجهل حينما يتغلغل في العقول، ترى النفوسَ تتعطّش إلى الخرافات والأساطير، لكي يبرروا لأنفسهم أنّهم على الطريق المستقيم، لذلك فصناعة الأسطورة، والتي تُهَيّء فيما بَعد إلى الخيانة، هو أمرٌ يُصنَع مِنَ الأعلى ولكن في الوقت نفسه تُعينه عقولٌ مِنَ الأسفل، أمَمٌ جاهلة، تَعشق الجهل والخُرافة. وهذا ما ذهب اليه أفلاطون في استخدامه لفكرة الأكذوبة النبيلة من أجل قيام دولة كريمة، والغريب أنّها بِحَدّ ذاتها أسطورة فينيقيّة قديمة أراد أفلاطون تمريرها لإقناع العوام أنّ من الطبيعي وجود فوارق طبقيّة بين أفراد المجتمع الواحد لقيام دولة نبيلة.

ولعلّ أكثر الأساطير فَتكاً وَأَشَدّها أثَراً وتأثيراً هي الأساطير والخرافات التي تنطلق مِنْ أُسُسٍ دينية وعقائدية ومذهبية. فالخيانة لدى أهل السياسة لا تتم حتى ينشغل عوامّ الناس بخرافاتٍ ليبرروا لأنفسهم الخيانة، ويكفر بعضهم البعض، ويقتل بعضهم البعض، وليتفرّغ صُنّاع الأساطير لمشاريعهم في والتجويع والترويع ومن ثم النهب والسلب، وتسليم الحاضر والمستقبل وجعله رهناً بيد المجهول.  

وَمَن يُنكِرُ أنَّ المَبنى الفقهيّ للأموال مجهولة المالك، قد حُوِّلَت وَحُرِّفَت لتكون أسطورة تَخدِم مآرِبَ أهل الضلال، حيث أستُغِلّت بطريقة بَشِعَة، فكانت خيانة عظمى، وبابٌ يَتَسابق من خلاله أصحاب النفوس المريضة، من أجل نهب وسلب أموال الشعب بطريقة بشعة، فبدأت ذئاب السياسة وحواشيهم بالسيطرة على أراضٍ وامتلاكِ عِقاراتٍ وتثبيتها بأسماءهم، مُقابل دفع نصف مبلغ العقار أو خُمسه للحاكم الشرعي؛ تزوير وخيانة وسرقة باسم الدين، قال الله تعالى: ﴿ يُخَٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّآ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ﴾ [البقرة: 9]. ولو تتبّعنا حقيقة هذه الأسطورة لوجدنا أنَّ مَرجِعَ الطائفة الأعلى، سماحة آية الله العظمى السيد علي السيستاني قد أفتى بحرمة الإستيلاء على عقارات وأموال الدولة بحجة مجهولية المالك، ففي السؤال 19، من استفتاءات أموال الدولة يسأل سائل:  "ما هو حكم الأموال مجهولة الملكية . وهل هناك اذن من سماحتكم بالأخذ منها ؟"، فكان جواب المرجع: " لا اذن بذلك ".

وفي سؤال آخر:" ما حكم سرقة أموال الدولة التي لا تحكم بالشريعة الاسلامية ولا تعطي الشعب حقه؟" فكان الجواب: "لا يجوز".

روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في خطابه لبعض عمّاله ممّن سرق أموال النّاس: "فَاتَّقِ الله وارْدُدْ إِلَى هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ أَمْوَالَهُمْ - فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ ثُمَّ أَمْكَنَنِي الله مِنْكَ - لأُعْذِرَنَّ إِلَى الله فِيكَ - ولأَضْرِبَنَّكَ بِسَيْفِي الَّذِي مَا ضَرَبْتُ بِه أَحَداً إِلَّا دَخَلَ النَّارَ"4.

المصادر:

1.       أمالي الصدوق، ص 182.

2.       عقاب الاعمال، ج1، ص300.

3.       السيد الرضي، نهج البلاغة خطب الإمام علي عليه السلام، ص 383، الكتاب رقم 26.

4.       السيد الرضي، نهج البلاغة خطب الإمام علي عليه السلام، ص 413، الكتاب 41


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


د . اكرم جلال
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2020/09/20



كتابة تعليق لموضوع : خِيانَةُ الأمانَة .. نتاجُ الجّهل والأسطورة
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net