صفحة الكاتب : محمد جعفر الكيشوان الموسوي

مجالس الذكر والعبادة.. "ًواجعل لساني بذكرك لهجا"
محمد جعفر الكيشوان الموسوي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

من الأهمية بمكان أن نذكِّر أنفسنا بأننا نعيش في مملكة الله تعالى الذي مدّ الأرض وجعل فيها الجبال والأنهار وأنبت فيها شجرها وجعل من ثمراتها رزقا لنا "وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا ۖ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ۖ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ" ثم أنزل الماء وصبه صباً من اعلى السماء ليلتقي مع الماء الذي فجره سبحانه من عيون الأرض لعيون من يسكن في مملكته " فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ* وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَىٰ أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ". ثم مدَّ سفرته السرمدية على طول الأرض وعرضها وتكفل بالرزق فأجلسنا على سفرته نأكل من رزقه الحلال الطيب، لكننا في المقابل نشكر غيره ونحمد سواه بل وقبل ذلك لا نذكر اسمه عندما نشرع بالأكل من رزقه، ولا نستعين به رغم تكرارنا لهذه الآية المباركة "إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ" في صلواتنا اليومية، الواجبة منها والمستحبة وكلما قرأنا سورة الفاتحة، فلا نحن أخلصنا العبادة وذكرنا نعم الله التي لا يحصيها إلاّ هو تعالى، ولا إستعنا به عمن سواه لينتقم لنا ممن ظلمنا وآذانا وينصرنا على عدوه وعدونا، آنى لنا بالنصر على الظالمين أيها السادة الافاضل! فالمعادلة الإلهية واضحة "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ". وعدنا الحق بأننا إن نصرنا رسالته ودينه وسرنا وفق المنهج الرباني القويم فسينصرنا ويقوينا، مهما كان عددنا قليل وعدتنا متواضعة، بتسديد منه ومدد "قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا ۖ فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَىٰ كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ ۚ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُولِي الْأَبْصَارِ". مثليهم أيها السادة وكذلك رأي العين وليس في المنام أو في الخيال. نقرأ الآيات أو نسمع تلاوتها ولا نتدبرها، ركنا إلى الدنيا فأصبحت دار أنسنا وهي في الواقع دار وحشة ودار إبتلاء وإمتحان. أكاد أجزم بأننا جميعا نعرف ذلك ولكن بعضنا يعرف من أجل أن يعرف وحسب وأنا أول الغافلين وفي مقدمتهم وسياتي توضيح ذلك لا حقا هنا في هذا لبحث المتواضع إن شاء الله تعالى. نعم نتعلم ونحفظ للتفاخر والتباهي والرياء ومن أجل أن نجلس في الصف الأول وكما قال لي أحد هؤلاء المهوسين بمزاحمة العلماء: "كنت جالساَ مع المرجع الفلاني جلوس الركبة بالركبة". أجل

عودا على بدء..

نجلس على سفرة الله المنعم لكن شكرنا الجزيل وإمتناننا الكثير لغير الله تعالى، حالنا في التقصير مع خالقنا يشبه حال من يتفضل علينا بدعوة إلى وليمة  أولمها لنا، فندخل حدود بيته ونجلس على مائدته ونأكل من طيب طعامه لكننا نعرض عنه ونشكر غيره على الدعوة وحسن الإستقبال. أقلُّ ما يُقال عن تصرفنا ذلك هو أنه مخجل ومعيب ومنافي للخلق الرفيع. الذي أريد ان اصل إليه من خلال هذه المقدمة الموجزة أنك أيها الإنسان ـ وأنا أول المخاطَبين ـ إن شكرتَ الله فإنما تشكره على نعم متقدمة سابقة قد إبتدأها الحق سبحانه قبل إستحقاقها وأعطاها لمن لم يسأله جودا منه وكرما، فأنت بشكرك لله  إنما تؤدي واجبا عليك. فلا تحمّل الله جميلا بشكرك على نعم الله التي اسبغها عليك ظاهرة وباطنة، هذا إن شكرت فعلا، فكيف يكون الحال إن أنكرت وجحدت وتمردت واستكبرت وطغيت فظلمت وتماديت. وهناك ملاحظة أرى مكانها الآن وهي أن الحق سبحانه يجزي الشا كرين مع ان الشكر حقه ويستحقه، كرم رباني عظيم " وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ" وفي آية مباركة أخرى " وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ" ومهما إختلف المفسرون حول تفسير أزيدنكم فيكفينا أنها من لدن المولى الكبير المتعال فخيره إلينا نازل دائما أبدا. أجل سيدي الكريم نحن نعيش في مملكة الله ونأكل من زاده ونعصية، نحتاج الوقوف طويلا هنا وليس التوقف لبعض الوقت، وعمل جردة حساب قبل يوم الحساب.

الرجل العاصي والإمام الصادق عليه السلام..

قال رجل للإمام الصادق (ع): (يا ابن رسول الله اعتدت على فعل المعاصي فماذا افعل)؟

قال له الإمام (ع): (ارتكب الذنب ولكن في مكان لا يراك الله فيه، وان لا تخالف من انعم عليك وسوّاك). فقال له الرجل: (ان هذا غير ممكن لأن الله في كل مكان). فقال له الإمام (ع): (إذن اذا حاولت فعل المعصية فلا تمد يدك إلى نعمة خلقها الله). فقال الرجل: (هذا أيضا لا يمكن لأن كل شيء آكله هو من عند الله). فقال الإمام: (إذن اخرج من الأماكن الخاضعة لسيطرة الله). فقال الرجل: (لا أستطيع). فقال له الإمام: (إذا جاء عزرائيل لقبض روحك فلا تمكنه من نفسك، وإذا أرادوا إرسالك إلى جهنم فلا تذهب معهم)! فأجاب الرجل بعدم قدرته على ذلك. فقال له الإمام (ع):

(إذا كان الأمر كذلك فلماذا تعصي الله)؟

 الخلاصة ان مجالس الذكر هي مجالس شكر الله وحمده وتمجيده والتقرب إليه بذكره، وهي واقعا مجالس "لساني بذكرك لهجا". ذكرنا في مناسبات سابقة أن النية محلها القلب الذي يصدر الأوامر للجوارح أن تتحرك سلبا أو إيجابا طاعة أو معصية، فاليد تأتمر بأمر القلب فتارة تأتيها الأوامر لتسرق وتارة تأتيها الأوامر لتتصدق وهكذا بقية الجوارح والأعضاء وموضوعنا هنا هو اللسان وما أدراك ما اللسان. سوف لن يكون اللسان لهجا بذكر الله تعالى والقلب متيم بحب الظهور وأكل أالسحت والحرام وظلم الناس وبخسهم حقوهم "وَاجْعَلْ لِساني بِذِكْرِكَ لَهِجَاً، وَقَلْبي بِحُبِّكَ مُتَيَّماً". ما قيمة اللسان إن لم يكن ترجمانا حقيقيا لما في السرائر وعما يدور في القلب وربما يستوطنه، فإن كان القلب أعمى ومعصوب بطبقات من الرين والصدأ المتراكم وليس هناك من فعل خير يجلوه ولا من قول حق يعيد النور إليه فيبصر، قلب أسود وصدأ ماذا يكون لسان حاله؟ واجعل لساني بذكرك لهجا وقلبي بحبك متيما، فهنيئا لصاحب ذلك اللسان اللهج بذكر الله مسبحا ومهللا وشكرا وحامدا ومستغفرا "الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّار"، وهنيئا لصاحب ذلك القلب المتيم بذكر الله في الأحوال كلها جميعا، في السرّاء والضرّاء، في الشدة والرخاء، شعاره في ذلك:

(فلو قطعتني في الحب إربا   ***   لما مال الفؤاد إلى سواكا) وكما يقال عندنا في العامية: (شما هوا المحبوب محبوب). لكن هل يبقى هذا وغيره من التوفيقات مجرد أمنية نذكرها، نكتبها، نقرأها، نسمعها من السادة الأكارم المتحدثين والمتكلمين، نحفظها كما نحفظ غيرها عن ظهر قلب، لكن العبرة ليس في الحفظ انما في المحافظة وبين اللسان والقلب لنا كلام ان شاء الله تعالى. لقد وعدت القاريء الكريم قبل قليل بأني سأتوقف قليلا عند: أنا أول الغافلين، وقد حان وقت الإيفاء بما وعدت:

لا أخفيكم سِرّاً..

قبل عدة أيام وفي مثل هذا الوقت من السحر بعثت بأبيات متواضعة  إلى الموقع المبارك كتابات في الميزان بعنوان: إنه وقت السحر. كانت زوجتي في تلك الأثناء  مستيقظة وتطالع كتاب "قصة كربلاء"، أطفأت النور وإستأذنتها للإنصراف لأني كنت أشعر بالتعب والإرهاق، فإستوقفتني وسألتني: هل بعث مادة للنشر يا سيدي؟

أجبتها: نعم سيدتي.

قالت: تقبل الله منك ونفعك بما كتبت. نبهتني عبارتها هذه إلى شيء مهم فأسررته في نفسي ولم إبده لها. وقلت: جزاكِ الله خيرا، إنما يتقبل الله من المتقين.

نهضت من مكانها وسألتني مرة أخرى: هل لي أن اعرف ماذا كتبت يا سيدي؟

قلت: في خدمتكم سيدتي. وأسمعتها الأبيات المتواضعة، فدعت لي الله وسألته القبول، فشكرتها.

ثم عادت وسألتني: الآن هو وقت السحر، أليس كذلك يا سيدي؟

قلت: بلا بلا سيدتي إنه هو.

قالت: كم من الوقت يلزمنا لـ "أذكر الله كثيرا"؟

قلت: الآن وقت السحر وأقل الذكر هو حتى شروق الشمس يا سيدتي.

قالت ( وهنا الموعظة): تكتب في ذكر الله وقت السحر وترسله للنشر وتسأتذنني للنوم!

أجبتها: معك حق فهذا مصداق قولي دوما بأني أول الغافلين وأكثر المقصرين وأني أنا قبل غيري المخاطَب حينما تكون هناك رائحة وعظ وتذكير. أسبغت الوضوء ودعوت لكم بما وفقني الله له.

لما إنتهيت إستأذنتني زوجتي للإنصراف فإستوقفتها أنا هذه المرّة وقلت لها:

هل تعلمين سيدتي حينما قلتِ لي: نفعك الله بما تكتب فقد نبهتني عبارتك لأمر مهم طلبته من الحق سبحانه وقلت في نفسي: لو أن واحدا فقط من القرّاء الكرام قرأ تلك الأبيات المتواضعة وقام وتوظأ فصلى ركعتين لله تعالى سأكون حينها قد نلت مرادي وبلغت مقصودي، وبينما أنا على تلك الحالة وإذا بك تطلبين مني أن أصلي ركعتين لله فيها رضا ولنا فيها ثواب لا يُعد. العبرة بذكر هذه القصة هي أنه ليس بالضرورة أن يكون الكاتب محصنا من الغفلة مسددا في العمل وقد قلنا فيما مضى: كَثُرَ الواعظون وقلَّ المتعظون. كل الكلام المتقدم إن كان في ذمٍ أو استهجان فعل وقول فأعني به نفسي ثم نفسي وبعد ذلك أعني به نفسي، وإن كان فيه المدح والإعجاب والتكريم فهو ما ليس فيَّ ولا أدعيه يوما، وما ذكر قصتي مع زوجتي، وهو شأن عائلي وخاص، إلاّ ليكون القاريء الكريم على علم وبينة بأني ذلك المحتاج قبل غيري الى الدعاء بالتوفيق والهداية والصلاح والرشاد. وعليَّ لا على غيري تنطبق أبيات أبي الأسود الدؤلي:
يا أيها الرجل المعلم غيره
هلا لنفسك كان ذا التعليم
نصف الدواء لذى السقام وذى الضنى
كيما يصح به وأنت سقيم
ابدأ بنفسك فانهها عن غيها
فإذا انتهت عنه ,فأنت حكيم
فهناك تعذر إن وعظت ويقتدى
بالقول منك , ويقبل التعليم
لا تنه عن خلق وتأتى مثله
عار عليك إذا فعلت عظيم

الإعرابي وإستدبار المصلين القبلة..

تقول القصة أن أعرابيا قدم إلى إحدى المدن للتجارة فحان وقت صلاة الظهر فقصد مسجدا ليصلي فيه. دخل المسجد فوجد الناس يصلون جماعة فهّم أن يلتحق بالصف لكنه تفاجأ وهو يرى إمام الجماعة الشيخ الكبير مستقبل القبلة لكن الناس خلفه قد إستدبروها. تراجع ووقف جانبا ينظر بدهشة وحيرة إلى بشاعة المنظر وسوء المظهر. إنتظر إلى أن فرغ الشيخ إمام الجماعة من الصلاة فتقدم نحوه وهو ـ أي الشيخ ـ يتوسط جمع غفير من المصلين الذين كانوا قبل لحظات يستدبرون القبلة في صلاتهم خلفه، يسألونه ما بدا لهم. وقف صاحبنا الإعرابي أمام الشيخ وسأله متعجبا: أيها الشيخ الفاضل الكريم، أنا غريب من البادية وقد جئت إلى مدينتكم لغرض التجارة وطلب الرزق وهذه المرة الأولى التي اغادر فيها البادية للتجارة، لقد صادف وصولي عند صلاة الظهر فدخلت مسجدكم للصلاة لكني رأيت ما رأيت من العجب العجاب، رأيتك مستقبل القبلة والناس خلفك قد أداروا لك ظهورهم وإستدبروا القبلة، فصرت في حيرة من أمري لا أعرف كيف اصلي وأولّي وجهي؟! ما إن سمعه أولئك الناس حتى همّوا بضربه واخراجه من المسجد، فمنعهم الشيخ وحال بينهم وبينه وقال لهم أتركوه إنه يرى ما لا ترون، ثم إستدناه وسأله: قلت لي أنك من البادية يا أخا العرب، أليس كذلك؟

أجاب الإعرابي: أجل أيها الشيخ الكريم.

 ثم سأله الشيخ ثانية: هل ذهبت إلى السوق وتناولت شيئا من الطعام؟

أجاب الإعرابي بالنفي. فطلب منه الشيخ أن يذهب للسوق ويقضي حوائجه ويأكل ما تيسر من الطعام، ثم يعود للمسجد ثانية للصلاة حينما يحين وقت صلاة المغرب. إستجاب الأعرابي لطلب الشيخ بعد ان استحسنه، ففعل ما طُلب منه وحضر المسجد وقت صلاة المغرب، فوجد الشيخ قد شرع في الصلاة يأم الناس جماعة وكل المأمومين مستقبلين القبلة هذه المرة، إلتحق بهم وكبّر تكبيرة الإحرام ودخل معهم في صلاة الجماعة. عند إنتهاء الصلاة تقدم نحو الشيخ مسرعا متعجبا مستفسرا عما رآه في الحالتين من إستقبال الناس القبلة في صلاة المغرب واستدبارهم لها في صلاة الظهر، وما علاقة ذلك بقبل الأكل وبعده وبالذهاب إلى السوق من عدمه!!!

قال له الشيخ: يا أخا العرب لقد جئت من البادية وأنت على فطرتك وطهارتك وحسن نيتك وصدق إيمانك ولم تدخل إلى جوفك لقمة حرام أو شبهة ولم تحلف بالله باطلا ولم تشهد زورا ولم تغتب مؤمنا ولم تكذب ولم تسرق ولم تسب ولم تشتم ولم تعتدِ ولم تظلم وأخذ الشيخ يعد له الذنوب والموبقات واحدة تلو الأخرى إلى أن قال له: وأنت خلو من تلك كلها عندكم في البادية، فهناك عشت على فطرتك السليمة، تصبح فتذهب للصيد مما تناله رماحك وتعود به رزقا حلالا طيبا مباركا من لدن الله تعالى. وعندك من الماعز والإبل والدواب ما يكفيك للعيش منها، كما أنك تعلفها وتسقيها وترفق بها، فلما حضرت المسجد أول مرّة كنت ترى الناس على حقيقتهم، ومن سوء أعمالهم كنت تراهم يستدبرون القبلة، لكن حينما ذهبت إلى السوق فأكلت من الطعام دون أن تتحق من حليته وهل هو مغتصب او من حلال خالص وكذلك الحال مع البيع والشراء، فأكلت من نفس الزاد وتاجرت بنفس البضاعة فذهبت عنك تلك الكرامة فأصبحت تراهم مستقبلين القبلة وهم لا يزالون يستدبرونها بأعمالهم... إنتهت القصة. لكن بدأت الموعظة وهي التحقق مما يدخل في جوفنا فهو جد خطير. وألفت نظر السادة القرّاء إلى كتاب طالعته أيام الشباب للشهيد السعيد العالم الرباني دست غيب رضوان الله تعالى على روحه الطاهرة والكتاب هو بعنوان "اللقمة الحلال" أو شيء من هذا القبيل على ما أتذكر، ويذكر ذلك العالم الروحاني العارف كيف تؤثر اللقمة الحرام على عدم إستجابة الدعاء لأن خلايا اليد المرفوعة للدعاء قد بينت من حرام وعلاج ذلك هو هدم تلك الخلايا لتحل مكانها خلايا مبنية من حلال خالص، فلا بد من الصوم لهدم تلك الخلايا الفاسدة المانعة لإستجابة الدعاء مهما لهج اللسان، لكن السؤال الصعب هو: كيف السبيل لمعرفة أن الخلايا التي هُدمت هي عينها التي بنيت من حرام لا غيرها؟؟؟ المسالة ليست هينة وعلاجها ليس سهلا كذلك وفعلا وكما قيل: (الوقاية خير من العلاج). فلنحذر لقيمات تدخل جوفنا فتحول دون إستجابة الدعاء وقبول الأعمال. من نافلة القول أني كنت أستمع إلى دعاء كميل في حضرة السيد الشهيد دست غيب، كان يذوب في الدعاء ويعيش فقراته وهو منقطع إلى الله تعالى تمام الانقطاع فتشعر وقتها ان ذلك العالم العارف هو من العاشقين فرفعه الله مكانا عليّاً وألحقه بالصالحين فقد استشهد وهو في محراب صلاته رضوان الله تعالى عليه.

وفي مقابل أهل العرفان..

عند الكعبة المشرفة وفي الطواف حولها، وعند الصفا والمروة وعند السعي بينهما، وفي مزدلفة وعند إلتقاط الجمرات والحصيات، وفي المشعر الحرام وعند الوقوف فيه، في هذه الديار المقدسة وفي غيرها نجتمع لنقرأ الأدعية الشريفة بألسنتنا فقط وقلوبنا مدبرة وعيوننا من مخافة الله جامدة. نقدم أجملنا صوتا لقراءة الدعاء حتى وان لم يكن بأحسننا تدينا فنحن عشّاق الصوتيات والتسجيلات في الأستوديوهات ومسك (المايكرفون) والتمايل معه على طريقة أهل السوء، وا أسفاه!! فالمهم هو حسن الصوت وإن قَبُح العمل، والمهم هو ان نحضر هناك وإن كانت النية هي للسياحة (وتغيير جو). سألت أحد الحجاج: كيف رأيت الحج وما هو شعورك وانت تقف قبالة الكعبة وعلى بُعد أمتار معدودات منها؟

قال: شي حلو يا سيد. ظننت أنه بسيط في التعبير عن مشاعره. فسألته مرة أخرى:

هل ستذهب غدا إلى مسجد التنعيم لعمل عمرة مفردة وتهدي ثوابها لمن تحب؟

أجابني: لا لا فلا طاقة لي بذلك.

قلت: لا يكلفُ الله نفساً إلاّ ما آتاها. لكن:

أنت تتجول كثيرا في الأسواق؟

قال: صراحة سيد آني كان يعجبني اسافر للخليج واشوف الأسواق الجميلة فقلت أحسن شي اروح للحج، هم زيارة وهم تسيارة، يعني بهما:( مرّة لربي ومرّة لگلبي).

أيها السادة الكرام.. أين سنكون جديين في ذكر الله تعالى ومتى "وَهَبْ لِيَ الْجِدَّ في خَشْيَتِكَ، وَالدَّوامَ فِي الاتِّصالِ بِخِدْمَتِكَ"، إذا كنا أمام الكعبة وفي بيت الله المعمور لا نجالس الله تعالى ولا نذكره في تلك الأيام المعلومات، والله جليس من يجالسه. إليكم هذا الخبر:

في أخبار داود عليه السلام أن الله عز وجل قال:

" يا داود أبلغ أهل أرضي أني حبيب لمن أحبني، وجليس لمن جالسني، ومونس لمن أنس ذكري، وصاحب لمن صاحبني، ومختار لمن اختارني، ومطيع لمن أطاعني. ما أحبني عبد أعلم ذلك يقينا من قلبه إلاّ قبلته لنفسي وأحببته حبّاً لا يتقدمه أحدُ من خلقي، مَن طلبني بالحق وجدني، ومَن طلب غيري لم يجدني، فارفضوا يا أهل الأرض ما أنتم عليه مِن غرورها وهلمّوا إلى كرامتي ومصاحبتي ومجالستي. وأنسوا بي أؤنسكم وأسرع إلى محبتكم فإني خلقت قلوب المشتاقين من نوري ونعّمتها بجلالي".

سؤال..

رُبَّ سائل يسأل: وما علاقة كل ما ذكرته هنا بـ"اجعل لساني بذكرك لهجا"؟

الجواب: أجل سيدي الكريم.. الذي ذكرناه وكثير مثله لم نذكره ـ تجنبا للإطالة فهنا ليس مكان بحث معمق أو شرح وتفصيل مطول ـ هو من مقدمات ذكر الله، ذكر الله باللسان الصادق المعبر عن القلب المتيم بحب الله، ومن أحب الله أطاعه، ومن أطاع الله كفر بالجبت والطاغوت واللات والعزى، هذه أسماء اصنام الجاهلية وأوثانها التي كانوا يعبدونها من دون الله، أما أسماء اصنام زماننا فحدّث ولا حرج. قدمنا قبل قليل بأن اللسان إنما يترجم للقلب صادقا كان ذلك أم كاذبا، حسنا كان ذلك أم قبيحا، ولكي تكون ألسنتنا تلهج بذكر الله( صدقا وحقا) لا صوتا ولفظا واستعراضا فقط علينا أن نبدأ بعملية تنظيف شاملة وتطهير لكل أوساخ القلب ليكون قلبا سليما من العلل والأدران معافىً من كل علّة تبعده عن الحق سبحانه بقول أو عمل، حاضرا مع اللسان في كل مناجاة ودعاء وصلاة وورد، منقطعا إلى الله متودد إليه مستجيرا به طالبا رضاه وعفوه وغفره.

تعليق..

مَن كان لسانه لهجا بذكر ربه، وقلبه متيما بحب مولاه، وعينه باكية من خشية جبار السماوات والأرض، وجوارحه تسعى إلى أوطان وأماكن التعبد طائعة، من كان حاله كذلك هل يا ترى لديه الوقت لإضاعته بما لا يليق بمثله، ناهيك عن كونه حراما يعاقب عليه كالغيبة والنميمة والوشاية والهمز واللمز والثرثرة بدل اللهج بذكر الله في مجالس ذكر الله، والتعرض لعورات المؤمنين وايذاء سائر الناس وأكل أموال اليتيم وعدم قول التي هي أحسن وانما يشيع الشحناء بين الناس ويشجعهم على البغض والحقد ودناءة النفس وقذارة الذوق وسوء التأدب وقلة إحترام العلماء وسائر اهل العلم وعامة الناس، هل تجتمع هذه وغيرها من السيئات مع "واجعل لساني بذكرك لهجا وقلبي بحبك متيما"؟! كلا وألف كلا. قالها الشهيد السعيد السيد محمد باقر الصدر(رض) وارتقى إلى جوار ربه: حبان لا يجتمعان في فلب واحد.

 

نسأل الله العافية


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


محمد جعفر الكيشوان الموسوي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2020/09/20



كتابة تعليق لموضوع : مجالس الذكر والعبادة.. "ًواجعل لساني بذكرك لهجا"
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net