صفحة الكاتب : عادل الجبوري

الموازنة بين غياب الرؤى الاستراتيجية وحضور المزايدات الاستهلاكية
عادل الجبوري

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

سواء كان توقيت سلسلة العمليات الارهابية التي وقعت في العاصمة العراقية بغداد ومدن اخرى في الثاني والعشرين من الشهر الماضي، مع جلسة مجلس النواب العراقي التي خصصت للتصويت على مشروع قانون الموازنة المالية للعام الجاري، سواء كان ذلك التوقيت مقصودا او غير مقصود، فأنه القى بظلاله على اجواء البرلمان، ووسع باب المزايدات، ورفع مؤشر المساومات بين اعضاء البرلمان والكتل السياسية، وزاد من حدة الانتقادات الشعبية للمؤسستين التشريعية والتنفيذية على السواء.
ورغم ان مشروع الموازنة وضع على طاولة البرلمان منذ وقت مبكر، وتحديدا منذ بداية شهر تشرين الاول-اكتوبر الماضي، اي قبل خمسة شهور، لكنه لم يكن متوقعا ان يحسمه البرلمان خلال وقت قصير، وبالتالي فأن مشاهد الاعوام السابقة تكررت مع اختلافات وفوارق بسيطة في طبيعة الاطروحات والمطاليب والشروط.
وطيلة خمسة شهور كانت الموازنة من اكثر الملفات عرضة للمزايدات والمساومات السياسية البعيدة في جانب كبير منها عن هموم واحتياجات ومشاكل المواطن العراقي، وان بدت في ظاهرها تتمحور حول تلك الهموم والاحتياجات والمشاكل وتسعى الى حلها ومعالجتها، وتقليل الفجوة بين قلة من الاشخاص وهم الذين يمثلون الطبقة السياسية وكبار موظفي الدولة، يتمتعون بأمتيازات مالية عالية من قبيل الرواتب والمخصصات والسلطة والنفوذ، وكثرة من الاشخاص، يمثلون الغالبية المطلقة من ابناء الشعب العراقي، فيهم موظفي الدولة الصغار من ذوي الرواتب المتواضعة، والكسبة في القطاع الخاص، والمتقاعدون، والطلبة والارامل والايتام وذوي الاحتياجات الخاصة، فضلا عن اعداد هائلة من العاطلين واغلبهم من ذوي التحصيل الجامعي. وكل هذه الفئات تعاني بشكل عام ضغوطا حياتية كبيرة بسبب قلة –او انعدام-مدخولاتها، وغلاء الاسعار، وارتفاع معدلات التضخم، وغياب الخدمات الاساسية لاسيما الكهرباء بصورة شبه كاملة.
وكما هو الحال في الاعوام السابقة تلقت تلك الفئات وعودا من مختلف الكتل السياسية بتحسين اوضاعها وظروفها الحياتية، من قبيل اعادة النظر برواتب موظفي الدولة بما يحقق اكبر قدر من العدالة والمساواة، وزيادة رواتب المتقاعدين والمشمولين بشبكة الحماية الاجتماعية، وتخصيص منح مالية شهرية لطلبة الجامعات، فضلا عن شمول كل مواطن عراقي بمبالغ مالية من واردات النفط.
في ذات الوقت برز توجه واضح لالغاء المنافع الاجتماعية للرئاسات الثلاث (رئاسة الجمهورية والحكومة والبرلمان) التي قد تصل الى خمسة مليارات دولار، وتخفيض رواتب وامتيازات اعضاء البرلمان وذوي الدرجات الخاصة من وزراء وممن هم بدرجة وزير ووكيل ووزير.
وكما يقولون فأن الجبل تمخض فولد فأرا، فالبرلمان العراقي لم يقر اية زيادة حقيقية وفق الوعود التي اطلقها الكثير من اعضائه في اطار حملة المزايدات والمساومات، وما حصل، والذي من غير الواضح ان يصار الى ترجمته على ارض الواقع هو توزيع فوائض الوارادات النفطية على المواطنين، علما ان الموازنة بوبت واقرت على اساس 85 دولارا لبرميل النفط، وبتصدير مليونين وستمائة الف برميل يوميا، وكذلك توزيع منحة مالية قيمتها ستمائة الف دينار عراقي(خمسمائة دولار) على ست دفعات للمتقاعدين الذين تقل رواتبهم الشهرية عن اربعمائة الف دينار، ولم تتضمن الموازنة الغاء المنافع الاجتماعية للرئاسات الثلاث ولا اي تخفيض في رواتب وامتيازات الدرجات الخاصة، ناهيك عن كونها اقرت شراء سيارات مصفحة لاعضاء البرلمان بقيمة ستين مليار دينار.
وهذه النقطة الاخيرة هي التي فجرت الموقف-وكانت بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير-وفتحت الباب واسعا لموجة من الانتقادات الحادة واللاذعة التي وجهها بعض اعضاء البرلمان لزملاء لهم واكثر منها الحملات التي انطلقت من مختلف اوساط الشارع العراقي.
وبينما يؤكد اعضاء كتلة المواطن التابعة للمجلس الاعلى الاسلامي العراقي انهم فقط الذي صوتوا ضد فقرة شراء السيارات المصفحة، ويطالبون عرض التسجيل الخاص بالتصويت على الرأي العام، تقول بعض الكتل ان اعضائها عارضوا التصويت على تلك الفقرة، كما هو الحال مع كتلة الاحرار التابعة للتيار الصدري.
ومع اتساع نطاق السجالات والجدالات حول الموازنة، راح بعض الذين صوتوا على بعض فقراتها المثيرة للجدل، لاسيما شراء السيارات المصفحة، ينتقدونها في سياق المحاولات لامتصاص ردود الفعل الشعبية الغاضبة، وبالتالي دخلت الموازانة ضمن اوراق التنافس والصراع السياسي بين الفرقاء.
وفي الوقت الذي رأت فيه كتلة ائتلاف دولة القانون التي يتزعمها رئيس الوزراء نوري المالكي ان شراء سيارات مصفحة تخصص للبرلمانيين خلال فترة نيابتهم امر طبيعي، كما عبر عن ذلك النائب عباس البياتي، وجدت كتلة العراقية بزعامة رئيس الوزراء الاسبق اياد علاوي في تلك التوجهات فرصة لتوجيه المزيد من النقد لدولة القانون، علما ان اعضاء العراقية صوتوا على فقرة شراء السيارات المصفحة!.
وربما كان من سوء حظ البرلمان ان يقترن تصويت اعضائه على سيارات مصفحة تخصص لتوفير المزيد من الاجراءات لحمايتهم، مع انفجار عدد من السيارات المفخخة وسقوط مئات الضحايا من المدنيين في بغداد ومدن اخرى بين شهيد وجريح.
ولاشك ان اتساع دائرة الانتقادات يحتم اعادة نظر ومراجعة لبعض فقرات وبنود الموازنة، وهذا ما التفتت اليه الحكومة مبكرا، وراحت تحاول امتصاص ردود الفعل الغاضبة حيالها وتركز اللوم والانتقاد على البرلمان فقط، لذلك اتجهت الى الطعن بقرار البرلمان بالتصويت على مشروع الموازنة.
وفي هذا السياق اوعز مجلس الوزراء خلال جلسته يوم الثلاثاء الماضي لوزير العدل بالإسراع في نشر قانون الموازنة والقيام بإعداد المخالفات الواردة فيه من الناحية الدستورية أو الطعن أمام المحكمة الإتحادية بشأن تلك المخالفات وتكليف الدائرة القانونية في الأمانة العامة لمجلس الوزراء بإعداد لائحة الطعن بالمخالفات.
وقد اعتبر النائب الكردي محمود عثمان انه \"من حق الحكومة ان تطعن في قرار مجلس النواب، لكن كان من المفروض إن يسبق هذا الطعن وجود تنسيق بين الحكومة ومجلس النواب لان الامر يخص قوت الشعب وعمل الوزارات ومؤسسات الدولة\"، مشيرا الى \"انه عادة ما تدخل الصراعات السياسية في كل جوانب عمل مؤسسات الدولة من بينها قرار طعن الحكومة بالموازنة وحتى على قوت الشعب ودمائهم\"، داعيا الى \"عدم أخذ قرار الطعن الكثير من الوقت من اجل عدم اعاقة عمل الوزارات وتنفيذ مشاريعها\".
من جانب اخر، وحتى لايكون البرلمان في دائرة الاستهداف لوحده دعا رئيسه اسامة النجيفي النواب الى التخلي عن شراء السيارات المصفحة، وتأجيل تنفيذ هذا القرار إلى وقت يكون الشعب فيه أكثر تفهماً لعمل البرلمانيين الشاق\".
ومن المستبعد ان تنتهي دوامة المزايدات والمساومات السياسية حول الموازنة التي يبدو انها ستبقى حاضرة بقوة في مقابل غياب الرؤى الاستراتيجية الواضحة والمنطقية فيها، ومثلما وصف بعض البرلمانيين والمتخصصين في شؤون المال والاقتصاد مشروع الموازنة بأنه اشبه ما يكون بعملية توزيع مبلغ من المال على مجموعة من المفاصل والابواب عبر مبدأ الترضيات السياسية لا الاستحقاقات والمتطلبات والضرورات الواقعية، لاسيما وان كفة الاستهلاك رجحت كثيرا جدا على كفة الانتاج والاستثمار.



 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


عادل الجبوري
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2012/03/09



كتابة تعليق لموضوع : الموازنة بين غياب الرؤى الاستراتيجية وحضور المزايدات الاستهلاكية
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net