الانتقال من الأوهام اللذيذة إلى الحياة الحقيقية

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

1

إخراجُ الأنساق الاجتماعية مِن المُسلَّمات الافتراضية والأوهام المُتوارَثة ، يتطلَّب تحديد المفاهيم المركزية في المجتمع ، التي تَتحكَّم بطريقة تفكير الأفراد ، وتُسيطر على بِنية تَكوين الجماعة ، لأن السلوك نتيجة حتمية للفِكر ، والواقع المُعاش انعكاس لمُحتويات الذهن . والإشكاليةُ السائدة في المجتمعات الغارقة في ضجيج الشعارات بلا تطبيق عملي ، تكمن في الاهتمام بالجَعجعة وإهمال الطَّحْن ، لأنَّ الجَعجعة مَجَّانية ،   لا تحتاج إلى تخطيط وجُهد ، أمَّا الطَّحْنُ فعملية صعبة ، تحتاج إلى جُهد وتعب ومُثابرة . وبما أن الناس عُمومًا يَميلون إلى الاستسهال والراحة وتجنُّب صُعود الجِبال، فإنَّهُم يَعشقون الأوهامَ اللذيذة التي تُريحهم وتُسعدهم ، ولو كانت الراحة مُؤقَّتة والسعادة خادعة . وهذا يدل على قِصَر النَّظَر ، والتخندق في اللحظة الآنِيَّة ، والغرق في الحاضر ، دُون التخطيط للمُستقبل . ولا يُمكن اقتحام المُستقبل بثقة إلا بالتَّخطيط ورسم السياسات الشاملة لكل مناحي الحياة ، لأنَّ المُستقبل منطقة عميقة وخطرة ، والسِّباحة في الأعماق تحتاج إلى مهارة وكفاءة وصبر وإصرار . وكما أن السابح في البحر أمام خِيَارَيْن لا ثالث لهما : إمَّا الوُصول إلى بَر الأمان ، وبداية حياة جديدة وسعيدة ، وإمَّا الغرق في الماء ، والتَّحَوُّل إلى جثة منسية تَكون طعامًا للأسماك ، كذلك الإنسان في المجتمع أمام خِيَارَيْن لا ثالث لهما : إمَّا صناعة الحاضر والانطلاق إلى المستقبل بقُوَّة وعزيمة ، وإمَّا الغرق في الماضي ، والبُكاء على الأطلال ، وإضاعة العُمر في محاولة استعادة أشياء لا تَعُود . وإذا أرادَ الإنسانُ أن يكون رَقْمًا صعبًا في مُعادَلة الحضارة ، فَعَليه أن يُحوِّل الذكريات المَيتة إلى ذاكرة للحياة ، والرموز الذهنية إلى وجود اجتماعي ، والعواطف الإنسانية إلى بناء حضاري ، والماضي السحيق إلى شرعية للمُستقبل .

2

     إنَّ الإنسان المسحوق في مجتمعات الاستهلاك المُتوحِّش والمادية المُوحشة والأحلام المَوؤدة ، يتعاطى المُخدِّرات الاجتماعية التي تُشعره بالنَّشوة واللذة ، والتي غالبًا ما تكون على شكل شِعارات رَنَّانة ، وخُطَب عَصماء ، وألقاب فخمة ، واستعادة لأمجاد الماضي لتغطية الحاضر البائس. وعِندما يَفيق الإنسانُ من هذه الغَيبوبة سيشعر بالألم الكبير، والوَحشة العميقة، والمأزق الوجودي الصادم، ويُدرِك أن الحُلْم لَم يكن إلا كابوسًا مُؤجَّلًا . لذلك ، يجب على الإنسان ألا يُجرِّبَ المُجرَّبَ ، ويسيرَ في الطريق الذي يَعلَم أنَّه مَسدود ، ويَشربَ السُّمَّ على سبيل التجربة ، لأنَّ العُمر واحد لا يتكرَّر ، والعاقل لا يُغَامِر بالأشياء التي يَكون فيها الخطأ الأوَّل هو الخطأ الأخير، ولا مجال للتَّعويض، ولا إمكانية لوجود فُرصة ثانية. والمغامرةُ الاجتماعية لاقتحام المستقبل إنما تَكون بالأدوات والوسائل، وليس بالقِيَم والمبادئ ، لأن المَبدأ هو القلب النابض،وإذا غامرَ الإنسانُ بقلبه سيخسر حياته ويموت، دُون وُجود فُرصة للعَودة إلى الحياة. وهكذا يتَّضح الفرقُ بين المُغامَرة التي تعتمد على الاحتمالات المُتنوِّعة والفُرَصِ المُتعدِّدة،وبين المُقامَرة التي تعتمد على احتمال واحد لا يَقبَل أنصافَ الحُلُول .

3

     مَن ارتاحَ في البداية سيتعب في النهاية ، ومَن تَعِبَ في البداية سيرتاح في النهاية . وهذه الحقيقة الوجودية تَدفع الإنسانَ إلى النضال في سبيل حُرِّيته الشخصية في اكتشاف الأحلام، وتحرُّرِ مُجتمعه مِن الكوابيس ، وتَجعل الإنسانَ يَقتنع بأن العَيش اللذيذ والحياة الهانئة يَكمُنان في التَّعب أثناء صُعود الجَبل مِن أجل الوُصول إلى القِمَّة، ومُتعة الوُصول إلى القِمَّة لا تُعادلها مُتعة ، وهذه المُتعة سوف تُنسي الإنسانَ التعبَ الذي بذله ، والمَشَاقَّ التي كابدها ، والصعوبات التي واجهها ، والليالي التي سَهِرَ فيها معَ الحُزن والألم وحيدًا .

4

     الحياةُ الحقيقيةُ عِبارة عن سِباق مسافات طويلة ، والذكيُّ هو الذي يَعرِف كيف يُوزِّع جُهْدَه وطاقته على المراحل بشكل مناسب، بلا زِيادة ولا نُقصان، لأن الطريق طويل ، وسوف يتساقط الكثيرون خلاله ، ولن يَصمُد إلا النُّخبة، الذين نجحوا في المُوازنة بين الصلابة الذهنية والقوة العَضَلية ، واتَّخَذُوا القرارَ الصحيح في الوقت الصحيح ، أي إنَّهُم جَمَعُوا بين الصَّواب والتَّوقيت، بعيدًا عن غُرورِ القُوَّة اللحظية ، والتَّفَوُّقِ الآنيِّ المُؤقَّت ، والمَجدِ الزائل ، فالمجد الحقيقي لا يَزُول ، والانتصار يتجلَّى في الوُصول إلى خَط النهاية ، وكَم مِن جاهل انتصرَ في معركة ، وخسر الحربَ بسبب غروره القاتل ، وانخداعه باللحظة الآنِيَّة ، واحتفاله بالجُزء ، وإهمال الكُل . ومَن يَضحك أخيرًا يَضحك كثيرًا ، والعِبرة بالخواتيم .


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2020/12/11



كتابة تعليق لموضوع : الانتقال من الأوهام اللذيذة إلى الحياة الحقيقية
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net