صفحة الكاتب : سمير بشير النعيمي

أضغاث أحلام المتقاعدين العراقيين \قصة قصيرة
سمير بشير النعيمي

دخل المقهى متقطع الانفاس لايقوى على الكلام  رفع يده بالتحية   وجلس متهالكا على الاريكة بجانبي  فناولته قدح الماء الذي بيدي فاخذ رشفة صغيرة ثم اعاده لي مع حركه بيده تعبيرا عن شكره  كوني فضلته على نفسي في  قدح الماء الذي جلبه  النادل لي ...
  شيخ كهل  كبير بلغ من العمر عتيا... اتعبته مصائب العراق الكثيرة .... قد تجاوز  العقد الخامس  على اقل تقدير ان لم يكن اكثر .... غضون السنين تركت اثارها على تجعدات وجهه وعروق يديه البارزة...وشعرراسه المحترق شيبا     .... يتكي على عصى تعينه على السير ... بعد ان استرد انفاسه ابتسم بوجهي معتذرا عن تاخره بالتحية ..
فقلت له: لاتشغل بالك ياعم ... لقد سلمت بيدك  ونعم السلام لانك  متعبا .
عبر لي عن سروره  بزيادة رواتب المتقاعدين فانه منذ سنوات يتمنى هذه الزيادة و ينتظرها بفارغ الصبر ولكنه عند كل استلام لراتبه التقاعدي  كان يصاب بخيبة امل لعدم تحقيق وعود البرلمان والحكومة بزيادة رواتب المتقاعدين  ....
 صمت قليلا ثم تنفس بعمق لعله يشكو مرض الربو   ثم واصل  حديثه معي :
-    تعرف استاذ   الحكومات التي استلمت السلطة بعد الاحتلال لم تحقق أي امنية من اماني الشعب العراقي الكثيرة و هذا الشعب محروم وايامه كلها حروب وحصار وقهر ومصايب  لم يرى الخير منذ عشرات السنين ....
واضاف الكهل كلامه بعد ان مسح فيه بمنديل ضاعت الوانه لقدمه ..:
-     أنا بحاجة ماسة  لعمل اربعة اسنان صناعية امامية حتى اقدر على لفظ الحروف بصوره صحيحة عند كلامي   ....و سعر السن الواحد يكلف خمسة وسبعون الف دينار فعليه يجب  ان أهيىء ثلاثمائة الف دينار لطبيب الاسنان  ماعدا  مصاريف النقل  وراتبي التقاعدي  لشهرين اربعمائة الف دينار  لايكفي لهذه المصاريف ولهذا كنت أؤجل  قضية الاسنان لوقت اخر ....   واخيرا فرجت.. لان  اعضاء البرلمان العراقي شعروا  اخيرا  بعوز المتقاعدين ...... وصرفوا للمتقاعدين  ستمائة الف دينار شهريا وسأستلم  مليون دينار راتب تقاعدي بعد الزيادة  تكفيني لعمل الاسنان ويبقى منها   ...
سكت برهة ....نظراتي  لاتفارقه وهو يتحدث لي  بلهفة وغبطة تعبر عن سعادته بالزيادة كما يضن  .. ثم وضع يده الضعيفه... على ركبتي حتى لا اقاطعه باحلامه ثم واصل ..
_واذا الله اعطاني عمر اطول  سأدخر ما يتبقى من راتبي  لاعتمر  واحج بيت الله  !!
     عند قوله ان اعضاء البرلمان  قد شعروا بعوز المتقاعدين  انتابني  فاصل من الضحك ولم استطع ان اتمالك اعصابي فما ان انهى كلامه معي  حتى أغرورقت عيناي  بسيل من الدموع لشدة ضحكي   فتفاجأ الرجل بما بدر مني  واخذ ينظر لي باستغراب مشدوها  لانه كان  يتكلم لي عن احلامه ومشاريعه المستقبلية .... وبدل ان اعطي له رايا عما تحدث به كما كان يتوقع  قابلته بالضحك  ... اشاح بوجهه  عني  واطرق مليا وركز نظراته الى الارض ... حتما  تالم لانه اهدر وقته مع شاب نزق مثلي او ربما حادث نفسه باني انسان لاتهمه احاسيس ومشاعر الغير وخاصه كبار السن ... كان يتصور اني لم اعيرله
 اي انتباه  وفكري كان مشغولا بفكرة ما ؟؟؟ او ربما امتعض من تصرفي غير اللائق ؟؟ اطرق كثيرا للارض  ثم رفع عينين متعبتين خبت اشعتهما من كثر ما هدرت من دموع الاحزان ونظر الي نظرة عتاب .... ياله من موقف محرج  ومخجل و شعرت بسخف موقفي منه....امسكت كتفه بحنان وتؤدد واعتذرت له عن تصرفي المفاجىء .....وبررت ضحكي لخاطر مر  بي ...ولكن قسمات وتعابير وجهه تدل على عدم اقتناعه بتبريراتي الصبيانية...فتداركت الامر واعتدلت بجلوسي ومسحت شواربي  وتنحنحت  ورسمت تعابير الجد والرزانة على وجهي...وقلت له :
  _ ياعماه انت غلطان لان النواب لايشعرون بك ولا بالشعب العراقي التعبان وهمهم الكبير هو انفسهم ومصلحتهم  فقد صرفوا لهم  خمسون مليون دولار لسيارات مصفحة تحميهم من الشعب فكيف سيحسون  ويشاهدون  ويشعرون بالام ابناء الشعب  وهم تعج بهم مصفحاتهم ....والقرار الذي اتخذوه  للمتقاعدين  هو صرف  منحة مؤقته مقدارها ست مئة  الف دينار على مدار السنه اي بالشهر خمسون الف دينار فقط ؟؟ بمعني راتبك الشهري سيزداد خمسون الف دينار  فقط  كمنحة مؤقته .
 تغيرت تعابير وجهه وفتح فاه مستغربا من حديثي  ولم يتمالك اعصابه فوقف منزعجا وصاح باعلى صوته  رافعا اصبعه بوجهي
 : ماذا ؟ ماذا تقول حضرتك ؟ خمسون الف في الشهر ومؤقته ؟ انها لا تكفي كشفية دكتور ليوم واحد ؟؟ لا لا لا اصدق ذلك؟؟ لقد قالوا ستمائة الف دينار ...  انت غلطان وليس انا !
  صوته العالي اثار انتباه رواد المقهى فربت على  كتفه  وهدئته واجلسته بهدوء وقلت له:
_ لا ياعم لم اغلط ما ذكرته لك  صحيح  و هذا المبلغ سيصرف لك  على مدار السنه وقد حسب اعضاء مجلس النواب العراقي الاشاوس لكل شيء حساب فبألرغم من انها منحة مؤقته ولكنهم فكروا بخبث وحسبوا حساب وفاة المتقاعد واعدوا نسب تستقطع من مبلغ المنحة المؤقته  عند الوفاة!!
صاح الرجل الكهل ::الله واكبر  اذن هذه المنحة الهزيلة السخيفة لم تصدر عن قناعة وانما لتغطية سرقتهم ستون مليار دينار عراقي سعر المصفحات  من قوت الشعب المحروم لخوفهم من الموت  وهم لايدرون ان الله سبحانه وتعالى قد قال في كتابه العزيز : يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة .
 سكت الكهل ليبلع ريقه وقد فسرت بحدسي  ان سمعه ضعيف كونه كان يتكلم بصوت عال رغم قربي منه وهذه الحالة لاحظتها عند ضعيفي السمع قاطبة ... ارتفاع نبرة  صوته لفتت انتباه الجميع .. فاقترب منا اغلب كبار السن الذين احتواهم مقهى ابو القاسم على نهر دجلة وتحلقوا حولنا....
..عيونهم  الحزينة ترنوا الينا لم استطع مواصلة النظر الى وجوههم ...لان الحزن والكأبة  لف محياهم.. فقلت للكهل الذي بجانبي محاولا اسماعهم عملا بالقول الماثور ... اياك اعني واسمعي ياجارة :
_ ياعم هدىء من روعك ....انت سيد العارفين فان مايسمى بمجلس النواب لم يصوت منذ انشائه لحد اليوم لقرار يخدم مصالح الشعب ابدا !!
 واسترقت النظر الى من حولي متمعنا وقع كلامي على محياهم ... فقرات تايدهم وموافقتهم لقولي بهزة من روؤسهم التي غزاها الشيب بغزارة .
لم يقوي اغلبهم على الوقوف فأتخذوا مجلسهم  متحلقين حولنا  ...فناديت النادل  ليجلب للجميع حامض النومي بصره على حسابي ...فرفعوا ايديهم  شاكرين   هذا الكرم الحاتمي  ثم استجمع احد الكهول قوى جرأته وسالني بصوت جهوري:
_ استاذ بدون زحمة ...صحيح ان مبلغ ال ستمية مؤقت ونستلمه اقساط ؟
ضحك اغلب  الكهول  لكلمة اقساط ومنهم من اكتفى بالتبسم .
_نعم صحيح ان المبلغ منحة مؤقته وتدفع على شكل دفعات  كل شهر خمسين الف دينار  تتوقف بعد ست دفعات ؟
قرات الحنق والوجوم بوجوه الجميع  وقال احد الكهول: طبعا المهم هم يستفادون لانهم جاءؤا لخدمة انفسهم وليس لخدمة الشعب !!
وقال كهل اخر: لم اسمع ولم ارى بحياتي اعضاء برلمان بكل العالم يحبون انفسهم ومصالحهم مثل هؤلاء الذين يسمون انفسهم عراقيين  مع الاسف وهم ضد الشعب العراقي !!
وقال شيخ كبير يرتدي العقال : كأن مجيئهم للنواب فرصة للنهب والسلب واخذ كل شيء لهم.
وقال الكهل الذي بجانبي : لماذا نسكت ؟؟ لماذا لا نتظاهر؟؟ نحن اغنى دولة في العالم ولكننا افقر شعب بالعالم !!
رد عليه شخص اخر- وحتى اذا تظاهرنا لايفيد شيء ...ثم حتى هذه المنحة التي لا تعجبكم ربما هي كذبة وتخدير اعصاب لان هؤلاء لا يفيدون الشعب بقدر مايفيدون انفسهم .
 ايده اغلب كبار السن بهزة من روؤسهم وقال الكهل الذي يجلس امامي - فعلا صحيح ...ربما حتى هذه المنحة حبر على ورق ...منذ خمس سنوات يواعدونا بالزيادة وكل شهرين نذهب لاستلام التقاعد ونستلم نفس الفليسات ...بس كلام  وتصريحات بدون فعل .
 كانت وجوههم تتغير الوانها بين الاصفر والاحمر لغضبهم وعيونهم يتقادح منها شرر الغضب ...لم استطيع ان اعلق على كلامهم لانهم تكلموا عما يشعرون به من احباط من حكومة لم تحقق لهم سبل العيش الكريم بعد ان افنوا عمرهم لسنين طوال ذاقوا شظف العيش ومرارة سنين الحصار وأكتو بنار الحروب وذل الدكتاتورية وقساوة وظلم الاحتلال وكانوا يأملون بتغيير اوضاعهم  وتحقيق  شيء من احلامهم الضائعة بين خضم قهر ووجع السنين  التي سرقت  اعمارهم  ... مرت عليهم سنوات عجاف طويلة بسواد لياليها و غدر بهم زمنهم فطالت سنوات الحرب والحصار ومصائبه  فدفنوا احلامهم  في طي
 النسيان وسنين  الجزع لان شبابهم قد ولى وبقيت اماني صغيرة بالعيش الكريم لما تبقى من سنوات قصار من عمرهم الفاني ولكن الحكومات التي  استلمت  الحكم من المحتل لم تحقق اعشار اعشار طموحاتهم وامانيهم  وزادتهم غما وحزنا فوق  هموم  امراضهم وضعفهم  وهزالهم .
اني اعرف ان مطاليبهم تستحق ان يسمعها كل المسؤولين ولكن ليست بيدي حيلة غير ان اكتب قصة قصيرة عن مجموعة صغيرة منهم لعل الاخيار يقراؤنها فلملمت اوراقي ونهضت بخلسة وانا امسح دمعة ساخنة على احوال رجال افنوا عمرهم بخدمة العراق ولم يحصدوا غير الالام والحسرات  وعيونهم تحدق في تصرفي تسالني الى اين ؟
 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


سمير بشير النعيمي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2012/03/18



كتابة تعليق لموضوع : أضغاث أحلام المتقاعدين العراقيين \قصة قصيرة
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 

أحدث التعليقات إضافة (عدد : 2)


• (1) - كتب : سميربشيرمحمود النعيمي ، في 2012/03/21 .

الدكتورة ايمان غانم

تحية طيبة

الشكر الجزيل لاطرائك الرائع نحو قصتي ولمروركي الجميل في صفحتي

الكاتب سميربشيرمحمودالنعيمي

• (2) - كتب : الدكتورة ايمان غانم ، في 2012/03/21 .

السادة المسؤولين عن كتابات الميزان المحترمين

الاستاذ الكاتب المحترم

لقد استمتعت اي استمتاع بقصة تحكي وتشكو صوت شريحة عريضة كبيرة اخذ يخبو من انقطاع الامل فهذه القصة تكلمت عن احوال ومشاكل المتقاعدين باسلوب قصصي شفاف وحزين فشكرا للجميع




حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net