صفحة الكاتب : السيد عبد الستار الجابري

قراءة في سورة يوسف (عليه السلام) (3)
السيد عبد الستار الجابري

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

 صراع القيم
﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا ۚ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ، وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ ۚ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ ۖ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ، وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ ۖ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَىٰ بُرْهَانَ رَبِّهِ ۚ كَذَٰلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ ۚ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ﴾ 
في الوقوف عند هذا النص القراني الكريم نجد جملة من الامور التي تتعلق بالشخصية البشرية ونقطة الضعف عند الانسان ودور اللطف الالهي والملكات الفاضلة في خروج الانسان منتصرا في ساحة الصراع، ويمكن اجمال بعض ما يستفاد من هذا النص الشريف في عدة نقاط:
1.  ان مسيرة يوسف (عليه السلام) في حياته في كنعان ثم في مصر كانت مليئة بالعطاء والكرم والافاضة الروحية والمعنوية على كل ما يحيط به، وهذه الاثار الكريمة ليوسف الصديق (عليه السلام) كانت نتيجة ملكاته الروحية ومقامه السامي الذي استحق به منذ البداية ان يكون محلا لتقبل الفيض الالهي، وان الكم المعرفي النازل من ساحة الفيض تتناسب مع الظروف التي تحيط بمستحقه وهو ما عبر عنه القران الكريم في قوله تعالى: 
﴿ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا ۚ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾
2.  ان اللطف الالهي اقتضى ان يمن الله تعالى على من يكون من المحسنين من عباده بنحو مميز من انحاء عطائه، وان العطاء الذي حباه ليوسف (عليه السلام) تجلي لمظهر المنهج الالهي في جزاء المحسنين في دار الدنيا، وان السنة الالهية جارية على افاضة الخير لمواضع الاستحقاق، وان كرم الاخلاق له اثر كبير في زيادة تلقي فيوضات الرب الكريم الجواد ﴿ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ ولذا فهذه المسالة لا تختص بيوسف (عليه السلام) بل هو اوضح واكمل واطهر مصاديقها.
3.  ان من اخطر الامور على حياة الانسان هو مرحلة الضعف التي يمر بها الانسان، هذا الضعف الذي يدفعه الى تناسي قيمه واخلاقياته وما ينبغي عليه ان يفعله وما يجب عليه ان يتركه، الضعف الذي قد يجر اخطاء تلو الاخطاء ومواقف سلبية تلو مواقف سلبية، وقد يدفعه الضعف الى الاستمرار في طريق الغواية والوقوف ضد عوامل الانطلاق نحو الكمال، وتختلف اسباب الضعف وموارده باختلاف الظروف التي يعيشها الانسان، فيمر به الامير والرعية والغني والفقير،وهذا الامر لا ينجو منه الا من رحم ربي لانه احد موارد ابتلاء الانسان في دينه وقيمه، وان الانسان في حالة ضعفه وانهياره امام رغباته وشهواته واتباعه للنفس الامارة بالسوء قد يسخر كل طاقاته وجل امكانياته لارتكاب نزوة لا تكون عواقبها الا الخسران والندم، وحديث امراة العزيز عنوان من عناوين الضعف البشري الذي تخطت فيه زليخة ما يتقتضيه موقعها في المجتمع المصري ـ كونها زوجة عزيز مصر ثاني شخصية بعد الملك ـ كان موقع امراة العزيز يقتضي منها احترامها لمقامها ولشخصيتها ورعاية مجد زوجها وسمعته، كما ان يوسف (عليه السلام) ربي في بيتها كما يربى البنون في بيوت ابائهم وامهاتهم، فالمفروض ان يتصف تعاملها معه بصفة تضفي عليها قدسية الامومة وحرمة البيت، الا ان لحظة ضعف بشري كادت ان تودي بزليخة ومجدها لولا ان الذي على الطرف الاخر كان مشعل القدس على ارض مصر 
﴿ وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ﴾
4.  ان رعاية القيم الاخلاقية الفاضلة من الامور التي تكون سببا في نجاة الانسان من الاخطار التي تحدق به، وان الخيانة من اقبح الخصال التي تودي باصحابها الى المهاوي السحيقة وتسلب منهم العزة والكرامة والرفعة بينما الوفاء والاخلاص من الاسباب التي ترفع ذكر الانسان وقيمته ومقامه، وفي هذا المقطع من الابتلاء الذي تعرض له كل من يوسف (عليه السلام) وزليخة امراة العزيز يتجلي الفرق بين موقف الشخصية ذات المبادئ والقيم الراسخة والتي وقفت صامدة امام اقسى المغريات وبين الشخصية التي ادى بها الضعف البشري الى تجاوز كل ما تقتضيه اللياقة، وهنا يظهر مدى تأثير القيمة الاخلاقية في رد الجميل وحفظ حرمة ذي الفضل مهما كان قدره ودينه وتوجهه والتاكيد على ان الخيانة ونكران الجميل ومجازات الاحسان بالاساءة سبب الخسران المبين: 
﴿ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ ۖ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾
5.  في المقطع القراني  نجد ان القران الكريم يصرح ان هناك صنف من العباد قد استخلصهم الله تعالى فهم عباده المخلَصون، والعباد المخصلَون لهم ملكات وكمالات وميزات يختلفون بها عن بقية البشر، واحد ابرز هذه الصفات ان الشيطان يعجز عن غوايتهم:
﴿ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ، إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾
فالاية الشريفة نص صريح في عجز ابليس عن اغواء العباد المخلَصين ـ فهي من الايات المحكمة التي يرجع اليها في فهم المتشابه من القران ـ ومن مصاديق العباد المخلصين يوسف (عليه السلام) وهو ما صرحت به سورة يوسف (عليه السلام) حيث قال تبارك وتعالى:

﴿ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ﴾
فعباد الله المخلَصون هم صنف من بني ادم (عليه السلام) اختارهم الله تعالى ليكونوا حملة رسالته الى بني الانسان، وصرح تبارك وتعالى في اصطفائهم واختيارهم في قوله عز من قائل:
﴿ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ، ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ، إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي ۖ إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ، فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَىٰ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَىٰ ۖ وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ، فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا ۖ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا ۖ قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَا ۖ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ۖ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ 
هذه الايات الكريمة صريحة ان الاصطفاء لا يختص بالرجال بل يعم النساء ايضا وان الله اصطفى من النساء مريم (عليها السلام).
وكذلك فمحمد واله صلوات الله عليهم اجمعين ممن اصطفاهم الله تعالى حيث قال عز اسمه:
﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾ 
وانزل تبارك وتعالى سورة الانسان تتلى اناء الليل واطراف النهار في مدح النبي واله (صلوات الله عليهم) وجعل مودتهم اجر رسالة النبي (صلى الله عليه واله)
﴿ ذَٰلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ۗ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ ۗ وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ﴾ 
واية المباهلة دليل اخر على الاصطفاء والاستخلاص
﴿ فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾ 
6.  من النقطة المتقدمة علينا ان نعي طبيعة الهم قوله تعالى :
﴿ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ ۖ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَىٰ بُرْهَانَ رَبِّهِ﴾
فمما لا شك فيه ان الهم من جهة زليخة هو الهم بالمعصية، واكراه يوسف (عليه السلام) على ارتكابها، وهذا ما يدل عليه النص القراني بلا ادنى ريب، اما المسالة المهمة هي في الهم الذي ورد في الاية الكريمة موجها ليوسف (عليه السلام)، الاية الكريمة تدل على ان يوسف (عليه السلام) صرف الله تعالى عنه امرين هما السوء والفحشاء، ومن خلال سياق الاية الشريفة يتضح ان الفحشاء هو ما دعته اليه امراة العزيز والسوء هو اثبات التهمة ضده (صلوات الله عليه) وتوجيه العقوبة له على اساس ثبوت الجناية عليه، سواء ارتكاب الفاحشة او الاتهام ارادته السوء بزليخة.
ومن هنا يتبين لنا ان يوسف (عليه السلام) لم يهم بالفاحشة ـ وحاشاه من ذلك ـ لانه من عباد الله المخلَصين الذين لا سبيل للشيطان عليهم لاغوائهم، وكذلك لا دلالة في الاية الكريمة انه (عليه السلام) هم بضربها فان ضرب النساء ليس من شيم الكرام، ولذا اختار (عليه السلام) الخروج فحاولت منعه.
ومن هنا يتبين لنا ان رؤية برهان الرب لم تكن انية في لحظة وقوع الحدث كما تشير الى ذلك بعض الروايات، بل تشير الاية الى ان يوسف (عليه السلام) لم يهم بها لانه كان قد راى برهان ربه، فلولا في لسان العرب هي اداة امتناع لوجود فالممتنع هو الهم بكل صنوفه من يوسف (عليه السلام) والسبب هو رؤية يوسف (عليه السلام) لبرهان الرب تبارك وتعالى، وهذا الذي يقتضيه استخلاص يوسف (عليه السلام) من قبل الله تعالى ومن اثار ذلك الاستخلاص ان يكون تصرفه بالنحو الذي يصرف عنه فيه السوء والفحشاء.
7.  فخلاصة ما في هذه الاية المباركة العديد من الامور التي منها ان البشر على صنفين صنف مستخلص من قبل الله تعالى وهؤلاء ليس لشياطين الجن والانس عليهم سبيل، وان هؤلاء العباد المخلَصين تؤهلهم ملكاتهم التي جعلها الله تعالى فيهم من اتخاذ الموقف الصحيح وعدم الوقوع في الاخطاء وان الله تعالى يلحظهم بعناية خاصة بحسب ما يقتضيه طبيعة المهمة التي كلفوا بها، الثاني ان رد الجميل ومعرفة الحق لاهله من الخصال الكريمة التي يمتدح عليها المحسنون، وان كفران الجميل وخيانة صاحب الفضل له اثار سلبية على مرتكب الخيانة تودي به في مهاوي الضلالة والامتهان، الثالث ان البشر معرض للابتلاء والامتحان مهما على مقامه وعظم شأنه وان الانسان الحافظ لكريم الخصال يجوز تلك الاختبارات بنجاح اذا احسن التصرف ولم يتبع نفسه الامارة بالسوء، كما ان من يتبع هوى نفسه سوف يتسافل ويفقد ماله من مقام وقيمة.                                                            


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


السيد عبد الستار الجابري
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2021/03/07



كتابة تعليق لموضوع : قراءة في سورة يوسف (عليه السلام) (3)
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net