البراءة لها أكثر من عنوان
فتارةً نطلقها على الطفل الصغير الذي لم تتلوث نفسه بالمعصية ، ولا قلبه بالحقد فنقول تلك ( براءة الأطفال )
وتارةً عندما نرى إنساناً مستقيماً ملتزماً بدينه ، بعيد عن الذنوب والمعاصي نقول إنه إنسان مبرأ من الذنب والعيب كأنه ملك .
لكن ما سمعنا أن إنسان يسجن لأجل برائته في التاريخ إلا إثنين .
الأول : هو ما ذكر القرآن قصته ذلك الغلام العبري ، الذي اشتراه عزيز مصر وأهداه لزوجته لعله ينفعهم أو يتخذونه ولدا ، لكن ذلك الغلام لما بلغ مبلغ الرجال هامت به زوجة العزيز وأحرق وجدانها العشق ، فما كانت تجد راحة عند إبتعاده ، وتملك جمال ذلك الشاب قلبها ، فما عادت تفكر بأحدٍ سواه وقد اختصر القرآن الطريق لما عبر عن خلجات نفسها على لسان نسوة المدينة { قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا } [يوسف : 30]
فهامت به أي هيام ، حتى نست الأعراف والقوانين والدين ، بل حتى وغز الضمير إنها إمرأة متزوجة ولا يجوز لها الضمير الخيانة وأن زوجها صاحب المنصب لم يقصر معها ، لكنه العشق يكسر القوانين ، ويتجاوز الحدود ، ولم يردعها رادع من المضي في مخططها أنها سيدة مصر وكثير من الخدم والحشم تحت إمرتها ، لكنها كانت تريد أن تكون تحت أمر هذا الشاب ، وكانت طيعةٌ لأمر هواها يأمرها وينهاها.
حتى إذا بلغ بها العشق مبلغه راودت هذا الفتى عن نفسه ، لكنها أي نفسٍ ،إنها النفس الطاهرة البريئة التي لم ترتكب معصية ولا ذنب بل لم تفكر فيها ، فما كان منه إلا أن اعتصم بولي نعمته ليصرف عنه لذةٍ عابرة وجريمة كادت أن تقع ليدفع الذنب عن نفسه ولو بالقوة ، وثمَّ كان ما كان واتضحت الصورة لدى العزيز الذي لم يكن عزيزاً لدى زوجته .
وما هو إلا إحتيال الشيطان ومكر النساء فقلبت الأمور وتغيرت الإفادات ، وأصبح المتجرأ على المعصية بريئاً ، والبرئ هو المجرم .
فما كان من العزيز إلا أن أصدر حكماً عرفياً ومحاكمة صورية وصدر القرار سريعاً أن يسجن الفتى .
سبب السجن هو البراءة والعفة ، الذنب الذي ارتكبه هو امتناعه عن مقارفة الرذيلة
فدخل السجن وهو صادق ، وعاش مع السجناء وهو صديّق ، وخرج من السجن وهو محسن .
وقد ارادوا أن يذلوه فاعزه الله ، وارادوا أن يفضحوه ففضحهم الله ، وارادوا أن يغيبوه فاظهره الله ، وارادوا أن يستضغره فعظّمه الله ، وارادوا أن يحكموه فحكّمه الله .
ودخل السجن بريئاً وخرج منه ببراءة ، وكشف الله الحقيقة ، وبرأته تلك المرأة بلسانها بعد أن ظلمته حيث قالت {قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [يوسف : 51]
الثاني : ما ذكره التاريخ في زمن العباسيين وبالخصوص أيام حكم الرشيد الذي ليس برشيد ، أنه كذلك سجن سيداً علوياً فاطمياً ، لا لذنب لكن لحقدٍ منه عليه .
وكذلك اودعه السجن لأحكام عرفية وبلا محاكمة صورية ، وصدرمنه الأمر أن يسجن .
فدخل السجن وهو صادق وعاش فيه صديقاً وخرج منه وهو من المحسنين .
لم يكن سجنه بسبب أمرأة قد شغفها حباً ، لكن بسبب حب الرشيد للمنصب والملك قد شغفه حباً .
سجنه لا منازعةً له في سلطانه ، لكنه كان للسيد سلطان له في القلوب .
نعم البرئ الأول الذي دخل السجن هو النبي يوسف عليه السلام
والبرئ الثاني هو الإمام موسى بن جعفر عليه السلام .
يوسف دخل السجن بذنب العفة
وموسى دخل السجن بلا ذنب
يوسف كان أُودع في سجن واحد
وموسى أُودع في أكثر من سجن
يوسف عاش في السجن معززا ويرى الشمس والقمر والنجوم ويشم النسيم
وموسى عاش في السجن مقيداً بقيود من الحديد ، لا يعرف الليل من النهار ، في طامورة لا يدخلها الهواء العليل .
يوسف خرج من السجن وأصبح حاكماً، والتقى بأهله والعبيد ، وسجد له الشمس والقمر وأحد عشر كوكباً.
وموسى خرج من السجن مسموماً ، ملقىً على الجسر وهو شهيد ، ودفن في بغداد فكان كوكباً يُستدفع به البلاء وباب الحوائج .
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat