صفحة الكاتب : ادريس هاني

لقاء الفاتيكان-النّجف، أي مستقبل للديبلوماسية الروحية؟
ادريس هاني

تحمل زيارة البابا فرنسيس قبل أيّام للنجف ولقاؤه بالمرجع الأعلى بالعراق السيد علي السيستاني، دلالة تاريخية يتعذّر مقاربتها خارج الرؤية الشمولية لدور السلطة الروحية التي عادة ما تعمل في صمت، حيث تنحصر مهمّتها في التأثير في العلاقات الدّولية وكذلك التّدخّل لمعالجة الأزمات التي تعجز عن حلّها السياسات. 
تنقلنا الزيارة إلى نمط آخر من حوار الشرق والغرب على قاعدة روحية وعلى أطلال خرائب الشّرق. يستقل البابا طائرته متوجّها نحو النجف، حيث بيت السيد السيستاني القابع في حيّ شعبي يعكس حالة زهد قصوى. يقطع بابا الفاتيكان كل هذه الأحياء الشعبية الضيقة، ليلتقي بمرجعية روحية تمسك بناصية القرار الروحي في العراق، ويبلغ تأثيرها الخافقين، بينما تسكن أفقر أحياء النجف وفي أجواء يغلب عليها الاستثناء في الشكل والمضمون، انقلاب في ماهية الأشياء وقواعد البروتوكول، هناك فصل آخر من الفعل الروحي العبر-سياسي . كان درسا روحيا سيعبر عنه البابا، بأنّ الأمر يتعلّق بزيارة مفيدة له شخصيا من الناحية الروحية. فالدهشة بالنسبة لأعلى سلطة روحية مسيحية في العالم، ظلت ماثلة في تقاسيم البابا وهو يتفقد ملامح مرجعية استطاعت أن تحدث من موقعها الروحي وصمتها المثير، ما لم تحققه السياسات وضوضاؤها. لا شكّ أنّ البابا هو أعلى سلطة في الفاتيكان، ولا يقابله سوى حاكم فعلي، وهو أدرك في نهاية المطاف من يحكم العراق في زمن انهيار قواعد اللّعب السياسي. بالنسبة لمدرسة النجف وقناعة المرجعية فيها، فإنّ السياسة ليست ممارسة أو حرفة، بل هي مجال نسبي، فيه ما هو ممكن أن يوكّل للسياسيين، وهناك الحدّ الذي لا يمكن تجاهله، حينما يتعلّق الأمر بحفظ النّظام العام. أدرك الغرب بزعامتيه السياسية والروحية ، أنّ المرجعية قلبت كلّ حسابات ومحاولات تصفية القضية العراقية على قاعدة الاحتواء والاحتلال. كانت مواجهة تذكّر بالعصيان السياسي والروحي للمهاتما غاندي، مع فارق كبير في التفاصيل، فالسيد السيستاني لم يتدخّل في تفاصيل السياسات، لكنها ظلّ منذ بداية الاحتلال يمارس شكلا آخر منها، عبر التوجيه والتأطير الروحي لحالة انعتاق العراق من آثار الاحتلال، وحماية المجتمع من معارك السّلطة وتداعيات بناء الدولة العراقية. منح صمته الطويل وزنا للكلمة، فكانت الفتوى تحمل سلطة القول الثقيل، وهو تقليد ناذر، حيث كان من المتوقع أنّ بلدا يعيش وسط هذا المعمعان السياسي والاجتماعي والعسكري، لا تكون له إلاّ خرجات قليلة ومحدودة، لكن آثارها بالغة الأثر. والحق ، أن السيد السيستاني يبلغ موقفه السياسي من خلال النشاط التبليغي لممثليه في خطبة الجمعة في النجف وكربلاء اللتين تمثّلات مركزا روحيا في العراق والعالم الإسلامي، وكذلك من خلال فتاوى وبيانات مكتبه الحريص على عدم السقوط في تفاصيل الحراك السياسي دون تجاهل ما يمكن أن تقدمه المرجعية الروحية من دور في حفظ النّظام العام، وهو أمر يشكّل الحدّ الأدنى من دور الفقيه في السياسات طبقا للفقه الإسلامي عند الإمامية.
كان المركزان السياسي والروحي الغربيان يرى كلّ منهما في هجمة داعش التي أظهرت فائق عنفها في مجزة سبايكر الشهيرة، بأنّهم أمام نهاية تاريخ العراق. غير أنّ الأمر كان مختلفا، حيث كان السيد السيستاني يدخر فتواه الاستراتيجية لهذا الوقت العصيب تحديدا، حيث بات النظام العام في خطر. كانت فتوى النفير حدثا لا يقاس إلاّ بالأحداث التاريخية الكبرى في العراق، تذكرنا بثورة العشرين ودور القيادة الروحية في مقاومة الاحتلال، وقد أسفرت عن تعبئة شاملة وحدث سبق أن وصفته بكونه أعظم حدث ملحمي بعد غيغامش. استطاعت فتوى النفير أن تعبّئ شعبا كاملا لمواجهة أكبر مؤامرة تعرّض لها العراق، وأظهرت الثقل الروحي للمرجعية في مواجهة التعبيرات الأكثر عنفا في الأديان. يعود الفضل للسيد السيستاني، وهو ما عبرت عنه زيارة البابا فرنسيس التي تدخل في ردّ الجميل، في إنقاذ المكون المسيحي في العراق، حيث احتضنت المرجعية النازحين المسيحيين وقدمت لهم كلّ العون المتاح من السكن والمأكل والمشرب والتعليم لأبنائهم، فيما كانت قوات الحشد التي تنسق مع القوات المسلحة العراقية وتعمل تحت غطاء فتوى النفير، تحرر البلدات وتحمي الكنائس. لعلّ هجمة تنظيم الدولة كانت فرصة تاريخية للكشف عن الوجه الحقيقي لدور المرجعية في حفظ النظام العام، الصورة التي أخفاها سيل عارم من صبيب الميديا المناهضة للعراق والمنمّطة لرموزه الروحية، وهو الإعلام الذي ساهم في زعزعت استقرار المنطقة وساهم في تعزيز خطاب الإرهاب ومنظماته. كانت زيارة البابا عنوانا عريضا على أنّ كل محاولة لرسم صورة خاطئة عن العراق، والحملات التشويهية التي قادتها التّطرفات ضدّ المرجعية في العراق، كلّها تهاوت أمام يوميات إدارة الكفاح ضدّ أكبر التنظيمات الإرهابية، فقد ظهر أنّ المرجعية بالعراق هي مرجعية أبوية لكل مكونات العراق، وهي ضامن استقرار روحي وسياسي واجتماعي، حتى قوات التحالف الغربي لم تقدّم للمسيحيي الشّرق، ما قدّمته المرجعية لهذا المكوّن الذي لا زال مستهدفا من قبل السلفيات المتطرّفة، بعد أن قتلت وطاردت آلاف المسيحيين في نينوى.
في هذا السياق يمكن اعتبار زيارة البابا ردّ دين روحي للمرجعية بالعراق، فلقد تمّت التضحية بالمكون المسيحي بالعراق من قبل السياسات الدولية وتحالفاتها غير المعلنة مع تنظيم الدّولة، لم يكن البابا ينظر للمرجعية بالنجف من خلال مقروئيات مسيئة كتلك التي صرفت عنها ميزانيات ضخمة لتشويه المكون الشيعي في العراق، لم يكن البابا ينطلق من الخطاب الطائفي لتيارات التطرف، بل انطلق من موقعيته الروحية والبراغماتية أيضا، حيث أدركوا الثقل الروحي للمرجعية وبأنها قادرة على أن تؤدّي أدوارا كبرى على مستوى إرسال السلام في المنطقة وكذا السلام العالمي.
سياسيا تأكّد فشل الكثير من التدابير السياسية، وبات العراق أمام مصير مجهول. ولقد جاء دور الزعامة الروحية للغرب لإنقاذ أزمة وتداعيات الاحتلال والإرهاب في العراق، وقد طرقت الباب العريض والممكن الوحيد المتبقّي، حيث منه يمكن أن يستأنف العراق مساره نحو بناء الدولة والاستقرار. لقد تبيّن أنّ دور المرجعية كبير على صعيد الديبلوماسية الروحية، وهو ضامن ومحرّك ومنظّم في غياب الدولة العراقية القويّة القادرة على الاستقلال بقرارها في إطار لعبة الأمم. مثّل البابا القوة الروحية للغرب بينما في ذلك اللّقاء كانت القوة الروحية للشرق ممثلة في السيد السيستاني قد وضعت العالم أمام مثال فريد للحوار الحضاري الروحي بين الغرب والشرق على أنقاض عراق ينبعث من تحت الرّماد.
كانت ولا زالت المرجعية صمام أمان العراق بكل مكوّناته، وهذا أمر باتت تدركه كافّة المكونات العراقية، أدار السيد السيستاني سلطته الروحية في نطاق حفظ النّظام العام، وهو مدرك بدقّة للنسق الدلالي لكل قول أو خطاب، لا سيما في سياق محكوم بحرب الدّلالات وفي عراق غرق في المتناقضات، كان الفقيه الذي حرّر مبحثا عاليا حول قاعدة "لاضرر"، قد بلغ ذروة فنّ تدبير الخطاب، لا يقول إلاّ ما يمكن قوله، في سياق مدروس، وواقعي. كان لقاء روحيا يهدف إلى نزع التطرف عن الدّين، الموقف الذي شكّل قاعدة مشتركة بين النجف والفاتيكان وباركها كلّ من يؤمن بسلام عادل في الشرق الأوسط.
سيكون من السهل تحليل دلالة هذا اللّقاء في ضوء مؤشّرات وتنبّؤات سياسية تعكسها الأحداث الجارية في المنطقة والعالم، غير أنّ منح فرصة للديبلوماسية الروحية، من شأنه أن ينقذ ما يمكن إنقاذه في عالم غرق في وحل التّوحّش والكفر بالله والإنسان. لم تعتبر المرجعية في النجف أن الأمر يتعلق بلقاء كاثوليكي-شيعي، بل اعتبرته لقاء روحيا بين قطب مسيحي ومرجعية مسلمة، كان السيد السيستاني يمثّل مسيحيي الشرق أيضا، باعتبار أنّ السنوات الأخيرة لم يكن لمسيحيي العراق أبا أكثر من السيد علي السيستاني.


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


ادريس هاني
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2021/03/10



كتابة تعليق لموضوع : لقاء الفاتيكان-النّجف، أي مستقبل للديبلوماسية الروحية؟
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net