صفحة الكاتب : مرتضى شرف الدين

التعدّدية: أمان من الدمار في غياب الخيار الإلهي.
مرتضى شرف الدين

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

خلق الله الإنسان وجعله خليفةً في الأرض، بعد أن ركّبه تركيباً جسدياً دقيقاً مترابطاً تتفاعل فيه أجهزة جسمه بصورة معقّدة، وتركيباً نفسياً لا يقل تعقيداً وترابطاً.
وبما أنّ الإنسان غائب عن هذا الخلق والتركيب، فإنّه مهما تقدّم في البحث عن أسرار خلقته فإن الكثير سيبقى غائباً عن علمه، وأكبر دليل على ذلك الجديد الذي تتحفنا به مراكز الأبحاث يوماً بعد يوم، والذي يتضمّن الكثير من الاكتشافات إلى جانب الكثير من التراجع عن الفرضيّات.
هذا بالنسبة إلى الإنسان وحده، فكيف بتفاعل البشر فيما بينهم بحركةٍ لا تقلّ تعقيداً .
وكما حال كل مصنوع من الآلات والأدوات ، وضع الخالق دليلاً للاستعمال السليم لهذا المخلوق ، يقيه من سوء الاستخدام  الذي يؤدي إلى فساده ، الذي هو فساد للعالم.
"ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ" ( الروم: ٤١).
هذا الدليل هو شريعة إلهية، ألقاها الصانع الخبير إلى شخصية عدّلت في كيانها فخرجت من دائرة التفاعلات النفسية، وصراعات الشهوة والغضب لتكون أمينة على التبليغ والإشراف والرقابة.
"وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (٣)إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى" ( النجم : ٣/٤).
ولذلك ألزم الناس بطاعته والقبول منه :" وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا " ( الحشر :٧).
بل جعل طاعته طاعةً له: "مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ". ( النساء: ٨٠).
لكنّ سوء اختيار البشريّة حال بينها وبين استمرار وجود المرجعية / الدليل الذي يمثل الخالق في إدارة شؤون الخلق، فحُرِمَت البشرية بسوء تصرفها من دليل استعمالها وما ينتج عنه من خيرات.
" وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ " ( المائدة :٦٦).
ورغم ذلك، فإنّ الله تعالى -بلطفه ورحمته- قد وضع خطّة طوارئ تقلّل من مفاسد ترك زمام الإدارة للبشر، وتحدُّ من مخاطر إمساكهم بدفة السفينة، ألا وهي التعدّدية، التي تجعل من الإنسان ناقداً لأخيه الإنسان، وكاشفاً لنقاط الخلل في خططه ومساراته، فيفتح للمنصف مجال إعادة النظر في خياراته، ويأخذ طرفاً من السفينة من يد المعاند فيودعه في زورق آخر فينجو بعضٌ إن غَرِقَ بعض.
"وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ " ( البقرة: ٢٥١).
ذلك أن الوحدة لا تكون عامل نجاة إلا في حال كان محورها منزّهاً عن الاشتباهات فضلاً عن النوازع والمآرب.
" وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا" ( آل عمران: ١٠٣).
أما الوحدة تحت ظلٍّ غير مأمونِ النوازع فهو مقامرة بمصير الجماعة مهما كان حجمها.
هذا هو الخطر الذي نعيشه في العقود الثلاثة الأخيرة مع هيمنة الأحادية على العالم في شتّى مجالاته: في نظام سياسي أحادي، ونظام اقتصادي أحادي، وسلطةٍ صحّية عليا، وصولاً إلى العولمة وما فيها من توحيد للثقافة والسلوك الاجتماعي.
فصارت التدابير تُعمَّم على العالم بالفرض وبلا مساءلة ملحوظةٍ ولا حتى نقد مسموع ، وصارت المناهج تُرسَم دون سماح لظهور مناهج مقابلة، وسار الإنسان في ركاب منظومة مترابطة ذات توجه ماديٍّ مصلحيٍّ أعمى ، تديره نُخب نظامها القِيَمي الوحيد هو زيادة الربح بأي ثمن، وصار عباقرة المجالات العلمية المختلفة إما خدماً لتأمين هذا الهدف، أو مغمورين لا يكاد يُسمَع لهم صوت. 
فصار الإنسان يعيش ولا يدري متى يأتي الأمر بإبادته، ويعمل ويدّخر ولا يدري متى يُصادَر أو يُتلَف جنى عمره، ويلد الأولاد ولا يدري إلى أين مسارهم في الحياة، ويعاني الداء ثم يتناول الدواء وهو لا يدري سبب الأول ولا أثر الثاني، ومؤسسات الإحصاء ترفده بأرقام الرخاء وتخدّره بها عن ملاحظة الخطر الداهم حوله.
في ظل كل هذه الغمرة ، وفي ظل عدم لياقة البشرية للتنعم بالظلِّ الإلهي، تبقى التعددية ضمانة تخفف من خطر انزلاق المركب إلى منحدر الشلال.
فهل من سبيل إليها؟
 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


مرتضى شرف الدين
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2021/03/15



كتابة تعليق لموضوع : التعدّدية: أمان من الدمار في غياب الخيار الإلهي.
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net