صفحة الكاتب : بشرى مهدي بديره

فإنَّك بأعينهم
بشرى مهدي بديره

  إنّهم غِراس تُزرع في تربة الطّهر، تأخذ بالنموّ، تتجه نحو الشّمس، تسمو وتعلو ولا تعرف الانحناء، هؤلاء هم رجال الله، أبناء الحشد، هؤلاء هم من ناداهم الواجب، فأجابت أرواحهم بالتلبية، لم يلتفتوا إلى الوراء، لم يثنِهم شيء عن الفداء.

 إنّها منظومة حسينيّة، تلك التي كان قوامها فتوى نابعة من منطلق القيادة والرّيادة واستجابة شعب لا يعرف الذل ولا الخنوع، توليفة من أروع ما يكون من تآلف وترابط. نعم، إنّه منبر الحسين (عليه السلام) ذاك الذي انطلقت منه فتوى الوجوب الكفائي، بتوجيه من سماحة آية الله العظمى السيد السيستاني (حفظه الله وأدامه)، انطلاقة عز وفخر، تلك هي النشأة الحسينيّة التي حمّلت كل الشعب بجميع أطيافه مسؤولية البلاد والمقدّسات، فهبّ الشرفاء للتلبية.
 وهنا تجسد قول أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه): "الناس صنفان: إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق"، لقد وحدت الفتوى جميع الفئات، حين حمّلت مسؤولية الأرض والعرض للجميع، الكل أدرك معنى الخطر المحدق، وانضوى كل شريف تحت راية الفتح، إنها راية الحق، لم تقتصر على أبناء الطائفة، بل بثت الوعي في نفوس الجميع.
 نعم، فصوت الحق يعلو كما يعلو الحق، نعم هو درس عظيم، هي مدرسة، مدرسة الحسين (عليه السلام)، آن لها الآن أن تُخرّج الكثير من شبابها برتبة شرف، حان لهم أن يرتقوا إلى عليّين، اليوم يوم الامتحان الذي يجسد فيه كل من حمل فكر الحسين (عليه السلام) يجسد بشكل فعلي معنى التضحية، الحسين (صلوات الله وسلامه عليه) لم يكن نبراساً لفئة من الفئات، بل كان أمّة، كجدّه رسول الله(ص).
 هكذا نشأ (أثير رزاق الزاملي) وتخرّج من مدرسة الأطهار (صلوات الله وسلامه عليهم)، لقد منّ الله تعالى عليه بزوجة صالحة، كانت بالنسبة له كل أحلامه وأمانيه، وأنجبت له علياً وكوثر.
بيت صغير متواضع، قوامه الحب والتفاهم والعطاء، يزينه طفلان صغيران ضحكتهما تساوي الدنيا بما فيها، لم يكن الفقر ليقف حائلاً بينهم وبين السعادة، لطالما عرفوا كيف يجعلون من أيامهم أياماً لا تخلو من الألفة والمحبة والقناعة.
 (أثير) الموظف البسيط الذي لا يملك سوى راتبه الشهري، كان يرى كل أحلامه في عينيّ ولديه، ويقول في نفسه: لن أحرمهما من شيء، سأبذل قصارى جهدي ليعيشا حياة كريمة، ولكن في الحقيقة، لم يكن بيده حيلة، لقد تمنى أن يسجل علي في أفضل المدارس، ولكن ما السبيل..؟!
وفي ذاك اليوم الذي كتبت فيه صحائف المخلَصين، كان لأثير اسم فيها، لقد لبى نداء المرجعيّة المعظّمة بكل ما أوتي من حبّ، كيف لا وهو الذي نشأ وترعرع في أرض المقدّسات، وتخرج من مدرسة الفداء، ترك أثير الوظيفة والتحق بالحشد المبارك، الزوجة المؤمنة قلقت، الخوف يأكل قلبها، خاطبته محاولة أن تثنيه عن قراره، فليس لهم أحد من بعده ليجيبها قائلاً: وهل أترك عصابات الدواعش تتطاول على مقدساتنا وأقف متفرّجاً..؟ لا يا عزيزتي، لا يمكن، أنا مسؤول كغيري عن تحرير كل شبر من أرض الأطهار (ص)، وأيضاً مسؤول أن أؤمّن لكم حياة آمنة، فأنا كالآخرين من الغيارى فأنتم والعراق والمقامات المقدّسة في عهدتي أمام الله، هل أتوانى أو أتقاعس؟
النصر في أرض المعركة يعني نصر للجميع ولأولادنا أيضاً؛ ليعيشوا حقهم في الطفولة والشباب، الأمر لا يقتصر على معركة في ساحة حرب، كيف لا وهو نصر لإعلاء كلمة الحق، وأبناء هذه الأرض الذين تربوا في مدرسة عظيمة، واستقوا نهجها، هم من سيدافعون عنها.
والتحق اثير بالحشد، كانت الأيام تمرّ عصيبة على العائلة بغيابه، وكان يبلي بلاءً حسناً، ويقاتل بكل بسالة وشجاعة، ويستحضر كربلاء في كل وقفة له أمام جيش العدو، والحشد يتقدّم ويحقق الانتصار تلو الآخر.
وكان يعود ليقضي بينهم أياماً قليلة، بين حين وآخر.
في الثامن والعشرين من شهر شعبان/ تموز 2015 عاد أثير من إجازته، واتجه نحو المدرسة الابتدائيةّ، ليسجّل عليّاً -فلذة كبده- في الصف الأوّل، والفرحة لا تتسع لها الدنيا بأكملها.
 شعر بأنّ ولده قد كبر، عليّ الآن طالب في مدارس العميد، الأمر الذي جعل أبا عليّ يفخر ويعتز ويعاهد نفسه بأن يبقيه فيها، ليكمل تعليمه، ويسجل كوثر أيضاً عندما تصبح في السن المطلوبة.
عاد إلى البيت والسعادة تغمره، وأخبر أمّ عليّ، الأمر الذي جعلها تقلق وتسأله: من اين لنا ان نؤمّن له قسط المدرسة؟ لا قدرة لنا على ذلك..!
ليجيبها قائلاً: لا تقلقي، لقد دفعت له القسط الاوّل، وكنت قد ادّخرته منذ فترة طويلة، أما القسط الثاني في حال كتبت عليّ الشهادة (يجي انسان لا عالبال ولا عالخاطر يدفعه)..!
 هكذا أجاب اثير زوجته، وعلامات الدهشة ترتسم على وجهها، وطلب منها أن تجهز الاطفال بسرعة ليذهبوا إلى السوق لشراء ملابس العيد، ذُهلت أم علي، ليس من عادة زوجها أن يشتري لهم الملابس في وقت مبكّر، فحالته الماديّة لا تسمح بذلك، وكان من عادته أن يدّخر لوقت طويل يتزامن مع العيد مباشرة ليشتري لهم، كان سعيداً جداً وهو يرى الفرحة على وجوه العائلة، وهم يشعرون باقتراب العيد.
في صباح الأول من شهر رمضان، وفي ثالث يوم من إجازته، كان عليه أن يلتحق بالفرقة، نادى أبناءه، بكى وهو يودع عائلته على غير العادة، وخاطب زوجته قائلاً: البارحة حققت أولى أمنياتي، أما الأمنيتان فعليك أنت تحقيقهما، أتمنى ان تصبحي محاميّة، وتعملي بشهادتك، وهكذا نصبح عائلة ناجحة مميّزة.
 اهتمي بدراستك، ها قد أصبحتِ في مرحلة متقدمة، أكملي أرجوكِ، واعتني بالصغار وأجهش الجميع بالبكاء، الوداع كان مؤلماً جداً تقول زينب (أم علي): وكان مختلفاً، لقد ادركت في هذه اللحظة بأن أثير لن يعود، وهو كان يعرف ذلك، ودّعنا بعضنا الوداع الأخير، وفي القلب غصّة، وفي العين دمعة، وتأسيت بأصحاب العزاء ليكونوا عوناً لي. 
في شهر رمضان المبارك في الثالث من تموز 2015 ارتقى أثير في كرمة الفلوجة بعد قتال عنيف، وتصدٍّ شديد لعصابات داعش، مسطّراً بشهادته صفحةً بيضاء ناصعة في تاريخ الفداء، وتاركاً لعائلته تاج عز وفخر يتوّجون به.
ضاقت الدنيا بعينيّ زينب بعد استشهاده، تركت الدراسة، فالحزن قد أظلم كل دنياها، وفراقه قد عزّ عليها، لتصحو بعد حين مخاطبة نفسها: ماذا افعل أنا؟!.
لقد أوصاني، وترك أمانة في عنقي، وأنا الآن في موقع مسؤوليّة، لن ادع الحزن يدمر أحلامه، لابد لأحلامه ان تتحقق وهذا عهد عليَّ.
عادت إلى كتبها ودراستها، قدمت الامتحان وحصلت على درجة عالية أهّلتها للقبول في قسم القانون، كان دوامها في الجامعة في الفترة المسائية؛ ذلك لأنّ الأطفال بحاجة إلى رعايتها، وها قد مرَّ الوقت وسوف تتخرج في العام المقبل، وكان هذا انجازاً كبيراً لسيدة واعية تحملت موقعها كزوجة شهيد، وأدّت رسالتها على اكمل وجه، ولم يقتصر دورها على عائلتها فحسب، بل كان لها صدىً في تحفيز زوجات الشهداء على الحفاظ على الأمانة، وتقديم النجاح في تحمل المسؤولية كعربون وفاء لمن ضحّوا بأرواحهم ودمائهم في سبيل إعلاء المثل العليا، وكلمة الحق.

 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


بشرى مهدي بديره
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2021/03/21



كتابة تعليق لموضوع : فإنَّك بأعينهم
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net