صفحة الكاتب : د . محمد تقي جون

الخاص والمشترك بين الشعر الأندلسي العباسي
د . محمد تقي جون

قاعدة البحث:
 بدأ الشعر في الشرق في أقل تقدير قبل (150) سنة قبل الهجرة المباركة ، بينما الشعر الأندلسي بدأ بعد عام (92هـ) وهو عام فتح الأندلس. ولا نعتقد ان شعراء مهمين رافقوا الجيش؛ فالشعراء المهمون يأخذون مواقعهم قرب الخلفاء لنيل صلاتهم. وكان الخلفاء الأمويون أحرص من شعرائهم في ذلك، فالخلود الذي ينيله الشعراء إياهم أكبر وأرغب من المال الذي ينيلونه الشعراء. 
يقفز اسم الشاعر أبي الخطار حسام بن ضرار في عام 125هـ حين يُعيَّن أميراً على الأندلس من قبل حنظلة بن صفوان بن نوفل الكلبي والي إفريقية لهشام بن عبد الملك ثم للوليد بن يزيد بن عبد الملك ،  بعد ان افترقت الأندلس على أربعة أمراء، فحسم أبو الخطار الفتنة وجمعهم على الطاعة . ولم يكن أبو الخطار شاعراً بل ناظما يخلو شعره من الفن والجمال والذوق، وألفاظه صعبة وأفكاره جاهلية، كقوله:
فليتَ ابنَ جَوّاسٍ يُخبَّرُ أنني    سَعيْتُ بهِ سعْيَ امرىءٍ غيرِ غافل
قتلتُ به تسعينَ تحسَبُ أنَّهم    جُذوعُ نخيلٍ صُرِّعَتْ بالمسايلِ
فلو كانت الموتى تباعُ اشتريتُه   بكفيِّ وما استثنيْتُ منها أنامِلي 
فالبيت الثاني تقليد لقول عنترة:
بَطَلٍ كَأَنَّ ثِيابَهُ في سَرحَةٍ  يُحذى نِعالَ السِبتِ لَيسَ بِتَوأَمِ 
بتشبيهه الخصوم بالأشجار الطويلة الضخمة. والبيت الثالث تقليد لقول كعب بن سعد الغنوي (ت 5 ق.هـ): (ولو كانَتِ الدُنيا تُباعُ اِشتَرَيتُهُ). وممكن أن نخلص إلى أنه لا يوجد شعر حقيقي في عصر الولاة في الأندلس. كما ان شعر هؤلاء الشعراء ليس له من الأندلسية إلا انه قيل في الأندلس . 
وفرضاً ان بداية الشعر الاندلسي كان عام (125هـ)؛ فبين الشعر المشرقي والاندلسي (275) سنة. وقد يعدّ عبد الرحمن الداخل أول شاعر اندلسي، وله تروى مقطوعات فضلا عن رجز، الا ان شعره شعر أمراء لا شعر شعراء. ومهما حاول النقد المجامل رفع شأن هذا الشعر  فأهمية الداخل سياسية أكثر منها فنية؛ اذ جعل الجزيرة آمنة، وحاضنة للعلم والثقافة والشعر. فمهَّد لظهور شعر وشعراء الأندلس. ونتأكد من استخدامه فن التوقيعات – وهو فن عباسي – بأنه كان على اتصال مع المشرق لمتابعة ما يطرأ ويبتكر هناك في السياسة والأدب. واذا جعلنا بداية الشعر الاندلسي بانتصاره في وقعة المصارة عام (138هـ) يكون بين الشعر المشرقي وبين شعر الاندلس (288) سنة. 
 وهذا يعني أن الشعر الاندلسي ليس له قبل ذلك تراث شعري، وان الشعر العباسي المعاصر له الذي مثله المولدون كبشار وأبي نواس والعباس بن الاحنف  هو التراث للشعر الاندلسي والقاعدة له. ومن ثمَّ ليس غريباً أن يكون الشعر الاندلسي تابعاً ومتابعا ومقلدا للشعر العباسي لأنه وليده وربيبه و(من يشابه أبَه فما ظلم) وتكون مقولة الشعر الاندلسي مقلد للشعر المشرقي تافهة القيمة بل هي مسلمة.
وهذه المقدمة قاعدة صحيحة لبناء أحكام صحيحة عليها في القراءة الاجمالية للشعر الاندلسي في تعيين الخاص والمشترك بينه وبين الشعر العباسي. 

أولا- الخاص
سلاسل الشعراء 
  كوّن الشعراء الجاهليون سلاسل من أساتذة وطلاب، يشكلون حلقات متصلة غير منقطعة؛ فزهير بن أبي سلمى تلميذ أوس بن حجر، وكعب بن زهير والحطيئة تلميذا زهير  وهكذا. وهذه السلاسل تمثل مدارس شعرية لها سمات مشتركة مع تميز كل شاعر بتجربته الشعرية الاصيلة وطابعه الشعري الخاص.
وفي العصر الاسلامي يمثل حسان بن ثابت في ليونة شعره بتخليه عن الجزالة واللفظية الجاهلية وتبني المعاني الاسلامية مدرسة شعرية كبير أثرت في شعراء صدر الاسلام المتدينين، فجاءت اشعارهم اسلامية في الفاظها ومعانيها وتبنيها القضية الاسلامية والمنهج الحق الذي أرادته آية الشعراء. كما نجد مدارس شعرية ذات طوابع متميزة أخرى في صدر الاسلام والعصر الاموي مثل شعراء الخوارج والشعراء العذريين .
 وحين جاء العصر العباسي لم تنقطع سلاسل الشعراء وسلاسل تأثرهم وتأثيرهم ببعضهم، مع حرصهم على أن تكون لهم أساليبهم وتجاربهم الشعرية الخاصة بهم؛ فقد كان هذا العصر عصر اكتشاف تجارب جديدة في كل مناحي الشعر الفنية، وهو ما حققه الشعراء العباسيون بالفعل. وعد بشار أبا الشعراء المحدثين  لأنه وضع أسسا شعرية مشى عليها من تلاه فيما عرف بـ(مدرسة المولدين) . فسلسلة البديع مثلا تبدأ به فهو "أول من فتقه من المحدثين" ، وتوسع فيه مسلم بن الوليد، ثم بلغ الغاية فيه أبو تمام. ولكل منهما أسلوبه وطابعه الخاص، فبديع أبي تمام يختلف عن بديع مسلم بن الوليد (صريع الغواني)، فبديع مسلم يلائم بين المعاني والألفاظ ويجعل بينهما علاقة موسيقية جميلة. بينما بديع أبي تمام يتجاوز هذه العناية إلى عناية أخرى بالمعنى . ويعد المتنبي مدرسة ومؤثرا بالفاظه ومعانيه وطريقته في أغلب من جاء بعده. وحين كتب المعري اللزوميات وجدنا له مقلدين في الشرق والغرب.
من ناحية سلاسل الشعراء، لا نجد في شعراء الاندلسيين سلاسل شعراء أو مدارس كالتي في المشرق، بل شكلوا حلقات متناثرة. فلم يروَ قبل عام 125هـ غير أبيات نسبت إلى طارق بن زياد، وهي مصنوعة صنعاً سمجاً. وفي هذا العام يقفز اسم الشاعر أبي الخطار حسام بن ضرار. وبعده يقفز اسم جَعْوَنَة بن الصمة شاعراً اختص بمدح الصميل بن حاتم الكلابي وزير آخر الولاة يوسف الفهري، وقد توفي قبل وقعة المصارة عام (138هـ). ويذكر ابن الأبار أسماء أمراء أمويين قالوا الشعر في وقت عبد الرحمن الداخل وهم: عبد الملك بن عمر بن مروان بن الحكم، وعبد الملك بن بشر بن عبد الملك بن بشر بن مروان بن الحكم، وحبيب بن عبد الملك بن عمر بن الوليد بن عبد الملك بن مروان. وإذ كان أبو الحسام أميراً، وشعر الأمراء لا يعول عليه فنياً إلا ما ندر، وما روي لمن عددناهم من الأمراء شعر لا أهمية فنية له، فيبقى من الشعراء جعونة بن الصمة الذي يشبه بجرير والفرزدق وهو معاصر لهما زمناً . ولا نقول كالباحثين إن شعره ضاع من يد الزمن، بل نقول لعدم قيمته تخلص منه الزمن بأول فرصة أمكنت، 
واذا عددنا عبد الرحمن الداخل (138- 172هـ) أول شاعر اندلسي (وليس بشاعر مهم) فبعده يظهر يحيى الغزال بعد فراغ شعري. ويتوفى الغزال عام 250هـ، ليظهر بعده ابن عبد ربه (328هـ) المولود قبل وفاته بأربع سنوات. وتلمذ الشاعر الرمادي (305- 403هـ) ليحيى بن هذيل القرطبي (305- 389هـ) الا انه لم يأخذ طريقته أو يكمل سلسلته، بل أراد أن يستنسخ المتنبي " فقد دعا أدباء الاندلس لينيلوه شرف التلقيب  بـ(متنبي الغرب) لكن وعلى مكانته للأسف لم يجيبوه لمطلبه" . ثم ظهر ابن شهيد (323- 393هـ) وابن دراج القسطلي (347- 456هـ) في قرطبة، وابن هانئ الأندلسي (325- 362هـ) في اشبيلية. وابن خفاجة (450- 533هـ) والرصافي البلنسي (572هـ). إلا أنهم لم يكوّنوا سلاسل بأي حال. وتأتي حقب التداعي وسقوط المدن الاندلسية الواحدة تلو الاخرى وتشرذم الشعراء وتشتتهم في البقاع طلبا للسلامة والحياة، ثم انحسار العرب في غرناطة. وآخر شعراء الاندلس المهمين لسان الدين بن الخطيب (713- 776هـ) لم تذكر المصادر له تلاميذ متأثرين، وتلميذه ابن زمرك الذي لم يتأثر به وبأسلوبه بل سعى به وقتله أخيراً.

التجارب الشعرية
تميز الشعراء المشارقة ولاسيما الكبار بأن لهم اساليبهم وتجاربهم الشعرية المميزة، وأنفتهم أن يكونوا نسخا مكررة من غيرهم. وما سمعنا أن شاعرا لقب نفسه باسم شاعر غيره، فلم يقل البحتري أنا زهير زمني، ولا قال المتنبي أنا عنترة عصري على الرغم من تأثرهما بهؤلاء. وشكل بعضهم مدارس؛ فبشار مثّل مدرسة المولدين، وأبو تمام مدرسة البديع، والبحتري مدرسة عمود الشعر، والمتنبي مدرسة القوة والحماسة وتصوير الحروب وهكذا.   
أما الشعراء الاندلسيون فلا يكمل أحدهم الآخر ولا يمتلكون طابعا أسلوبيا خاصاً، ويحلمون احلام يقظة بأنَّ يبلغوا منازل شعراء المشارقة أو يتفوقوا عليهم، فابن شُهيد في (التوابع والزوابع) ترك واقع بلاده الشعري وراح إلى عام فنتازي هو عالم الجن يقارع الشعراء المشارقة جاعلا إياهم مقياساً للتفوق، وهو اذا تفوق عليهم في الرسالة لم يستطع أن يتفوق عليهم في الواقع فبقوا مقياساً وبوصلة له ولأصحابه الاندلسيين. ومثلها سفر الغزال المزعوم للاتصال بأبي نواس وتفوقه عليه، ولقاء المتنبي بابن عبد ربه واعترافه بالتفوق قائلا له "يا ابن عبد ربه لقد يأتيك العراق حبواً" . وهذه الرحلات أساطير كتبها الأندلسيون لتسجيل شهادة اعتراف من شعراء المشرق بعظمة شعرائهم.  فعموم الشعراء في الاندلس تلامذة جمعيين للمشارقة، يقلدونهم ويتشبهون بهم ويتسمَّون بهم؛ فهذا عنترة الأندلس، وهذا بحتري الأندلس وهذا متنبي الأندلس. والحقيقة إن الأندلس كانت تعاني (عقدة تفوق المشرق) التي ولدت شعورين: الدونية والتحدي معا، وقد استمر الشعوران إلى زمن انتهاء العرب وانطفاء الأندلس. 
 في بداية القرن الرابع بدأ يتكون الشعر الأندلسي ويستقل طابعه المستمد من جمال البيئة الاندلسية، ورقة طباع المجتمع الأندلسي. ويمثل ابن عبد ربه جوهر الشاعر الاندلسي في عصور الاندلس كلها، وهو التميز بالرشاقة والرقة في التعبير وعدا ذلك ليس هناك تميز في الألفاظ والمعاني مثل المشارقة. ففي ابياته الشهيرة:
يا لؤلؤاً يسبي العقول أنيقا         ورشاً بتقطيع القلوب رفيقا
ما إن رأيت ولا سمعت بمثله         ورداً يعود من الحياء عقيقا
وإذا نظرت إلى محاسن وجهه         أبصرت وجهك في سناه غريقا
يا من تقطع خصره من رقةٍ         ما بال قلبك لا يكون رقيقا 
لا يوجد جديد في الخيال واللفظ والمعنى، فكله استهلكه الشعراء المشارقة قبله، فتشبيه المرأة باللؤلؤ نجده عند كثير من شعراء المشارقة، قال أبو نواس:
يا لُؤلُؤً يَتَلالا       في حُمرَةِ العِقيانِ 
وتشبيه المرأة بالرشأ قتله الشعراء استخداماً. وصدر البيت الثالث (ما إن رأيت ولا سمعت بمثله) استخدام عربي معروف، قال دريد بن الصمة:
ما إن رأيتُ ولا سمعتُ بمثله     حامي الحقيقة فارساً لم يقتلِ 
وذكر ان الحياء يصبغ لون الوجه مذكور مشهور، قال أبو نواس:
نَضَت عَنها القَميصَ لِصَبِّ ماءِ       فَوَرَّدَ وَجهَها فُرطُ الحَياءِ 
ونقل البيت الثالث من العين الى الوجه، وانطباع صورة الشخص في وجه الاخر ذكره الشعراء ومنه قول المتنبي وذكر انطباع صورة المحبوب في عين المحب العاشق عن تقاربهما:
                 شامية طالما خلوتُ بها       تبصر في ناظري محياها 

الاصالة والتقليد
الاصالة للمشارقة والتقليد للأندلسيين، وهذا واضح من قول ابن بسام يذكر أن الأندلسيين يقلدون المشارقة بشكل أعمى: " إلا أن أهل هذا الأفق أبوا إلا متابعة أهل الشرق، يرجعون إلى أخبارهم المعتادة، رجوع الحديث إلى قتادة، حتى لو نعق بتلك الآفاق غراب، أو طنّ بأقصى الشام والعراق ذباب، لجثوا على هذا صنماً، وتلوا ذلك كتاباً محكماً" . 
ومع هذا الصوت المستسلم نجد صوتاً قوياً ينافس ويتحدى بشكل واضح. وهو في قول ابن بسام أيضاً: " ومازال في أفقنا هذا الأندلسي القصيّ إلى وقتنا هذا من فرسان الفنّين، وأئمة النوعين، قوم هم ما هم طيب مكاسر، وصفاء جواهر، وعذوبة موارد ومصادر، لعبوا بأطراف الكلام المشقّق، لعب الدّجى بجفون المؤرقّ، وحدوا بفنون السحر المنمّق، حداء الأعشى ببنات المحلّق، فصبّوا على قوالب النجوم، غرائب المنثور والمنظوم، وباهوا غرر الضحى والأصائل، بعجائب الأشعار والرسائل، نثر لو رآه البديع لنسي اسمه، أو اجتلاه ابن هلال لولاّه حكمه، ونظم لو سمعه كثير ما نسب ولا مدح، أو تتبعه جرول ما عوى ولا نبح" . 
وثمة صوت آخر لا يخفى هو (ندب الحظ) والقول بأن الأندلس مغبونة لبعدها، واهل الشرق يتعمدون تجاهلها. وهو ما يوضحه قول ابن دحية الذي قطع حديثه عن تبجيل الغزال (الشاعر المتهافت) ليقول:  " وهذا الشعر لو روي لعمر بن أبي ربيعة، أو لبشار بن برد، أو لعباس بن الأحنف، ومن سلك هذا المسلك من الشعراء المحسنين لاستغرب له. وإنما أوجب أن يكون ذكره منسياً، أن كان أندلسياً؛ وإلا فما له أخمل، وما حق مثله أن يهمل. وهل رأيت أحسن من قوله: (تأبى لشمس الحسن أن تغربا)، أو كالبيت الأول من هذه القطعة، أو كصفته لما جرى من الدعابة؟ هل وصفته إلا الدر لمنتظم، وهل إلا نظلم في حقنا ونهتضم! يالله لأهل المشرق! قولة غاصٌّ بها شَرِق. ألا نظروا إلى الإحسان بعين الاستحسان، وأقصروا عن استهجان الكريم الهجان عن استهجان الكريم الهجان؛ ولم يخرجهم الإزراء بالمكان عن حد الإمكان؛ لئن أرهفت بصائرهم البصرة وأرقتها الرقتان؛ فقد درجنا نحن بحيث مرج البحرين يلتقيان، فإن منهما مخرج اللؤلؤ والمرجان. وينشد ما قاله بعض شعرائنا:
نَراحُ لفضل أن يكون لَديكُم         فما لكُم تأبَون أن كان عندناَ
فلا تَحسدونا أن تَلُوح بأفقكم         لنا طالعاتٌ مِن هناكَ ومن هنا
وإن كنتُم في العدّ أكثَر مفخراً         فلا تَظلموناَ في القليل الذي لنا 
ويقول ابن بسام في هذا المعنى: " وأخبارهم الباهرة، وأشعارهم السائرة، مرمى القصيّة، ومناخ الرّذيّة ، لا يعمر بها جنان ولا خلد، ولا يصرف فيها لسان ولا يد. فغاظني منهم ذلك، وأنفت ممّا هنالك، وأخذت نفسي بجمع ما وجدت من حسنات دهري، وتتبّع محاسن أهل بلدي وعصري، غيرة لهذا الأفق الغريب أن تعود بدوره أهلة، وتصبح بحوره ثماداً مضمحلة، مع كثرة أدبائه، ووفور علمائه، وقديماً ضيّعوا العلم وأهله، وربّ محسن مات إحسانه قبله، وليت شعري من قصر العلم على بعض الزمان، وخص أهل المشرق بالإحسان" . ومع ذلك فهو يعترف صراحة بأنه في كتابه متأثر بكتاب اليتيمة للثعالبي . ويفهم من كلام ابن بسام في تقييم حالة الشعر الأندلسي أنه عاش عزلة كبيرة لم يجد معها سوقاً له في المشرق فعانى الكساد.
ويذكر الدكتور منجد مصطفى افكارا وامثلة كثيرة تقنع المتلقي بأن الاندلسيين يحتذون المشارقة بشكل كبير. فابن عبد ربه في أمثلته العروضية يذيل اشعاره بأبيات مشرقية مشهورة . ويقول د. سعد اسماعيل شلبي "ان نزعة التقليد التي اشار اليها ابن بسام وصلت بهم الى حد الشعور بالحرج من تقليدهم المشارقة" . وشعر الطبيعة تميز به الاندلسيون وان لم يكونوا مبتدعيه فمبتدعه الصنوبري. وعلى الرغم من تقدمهم واكثارهم من شعر الطبيعة بسبب بيئتهم الجميلة " لكن الشعر المشرقي بقي يرفد الاندلسيين حتى في مثل هذه الموضوعات" . بل يذهب الصفدي الى أن نونية ابن زيدون تقليد لقصيدة للبحتري . ونخلص الى أن العباسيين كانوا يصنّعون الموضوعات الشعرية والافكار والاخيلة والالفاظ والمعاني، والاندلسيون يقلدونهم في الغالب، مع الاعتراف بأن الاندلسيين جاروا المشارقة في ذلك وكان لهم ابداع معين، الا ان نزعة التقليد للعباسيين كانت الاشهر والاوفر. فكان العباسيون في مخاضات تجاريب شعرية مستمرة ومتنوعة، وهو ما لا نجده لدى الاندلسيين.
ونتيجة لذلك لم ينشأ نقد في الاندلس. ولوجود النقد علتان: بروز ظاهرة شعرية. وظهور شاعر كبير، لذا لم يظهر نقد جاهلي لانَّ الشعراء تسابقوا بحلبة واحدة. ولا في العصر الأموي بسبب تقليد الشعراء للجاهليين. وللسببين السابقين لم يظهر نقد في الأندلس، فالأندلسيون قلدوا المشارقة تقليدا صنمياً فلم ينتجوا ظاهرة جديدة، ولا برز منهم شاعر كبير بمستوى ابي تمام أو المتنبي. وما ظهر من نقود فبسيط الأهمية وغير أصيل؛ فـ(العِقد الفريد) لابن عبد ربه نقل البضاعة الشعرية والنقدية المشرقية بل أساء اليها. ومثله (العمدة في محاسن الشعر ونقده) اذ ضمَّنه ابن رشيق القيرواني كل شاردة وواردة تخص الشعر ويحتاجها الشاعر، وكله عن المشارقة ومنهم، فهو جامع لما ألفه المشرقيون في الشعر والنقد متفرقاً، هذا اذا عددنا ابن رشيق أندلسياً وهو مغربي. وحازم القرطاجني لم يجعل كتابه (منهاج البلغاء وسراج الأدباء) في شعراء الأندلس، بل كتاباً يتناول قضايا الشعر بشكل عام مثل: أهمية الشعر، بواعثه ، أقسامه، المحاكاة في الشعر، الصدق والكذب، اللفظ والمعنى، بناء القصيدة، المطالع، المخلصات في القصيدة، الأسلوب . ولم يتناول المنهاج كالموازنة والوساطة شاعراً أو ظاهرة . 

الضفاف الثلاث
للشعر ثلاث ضفاف: الالفاظ والمعاني والموسيقى. تفرد الشعر الجاهلي بضفة الالفاظ؛ فالألفاظ تتحكم بالنص وتديره مهيمنة على المعنى وعلى الموسيقى. أي ان الشاعر يقتدر على اختيار وتركيب الفاظه التي تعبر بشكل كامل وتحقق العملية الفنية والشعرية باستيفاء وتفرد. كقول زهير بن أبي سلمى:
فشدَّ فلم يفزع بيوتاً كثيرة     لدى حيث ألقت رحلها أمُّ قشعمِ 
    
فالالفاظ (شدّ) (يفزع) (ألقت رحلها) (أمّ قشعم) تدير دفة التعبير وحدها، وهي بترتيبها تحقق الايقاع المؤثر في تسويق النص. وهذه الهيمنة للألفاظ جعلتها غير قابلة لتبديلها بغيرها، لان النص قائم عليها وتحريكها يعني سقوط النص وتكسره.
وتفرد الشعر العباسي بضفة المعنى، فترى الالفاظ ثانية في الاهمية لصالح المعاني التي ادار من خلالها الشاعر عملية التعبير الشعري. وبنتيجة ذلك أمكن ابدال الالفاظ بغيرها دون سقوط النص وتكسره. ولكن استدعى ذلك الغموض والعمق الذي على المتلقي الغوص فيه لاصطياد قصد الشاعر. ومن ذلك قول الشاعر. 
أَآلِفَةَ النَحيبِ كَمِ اِفتِراقٍ       أَظَلَّ فَكانَ داعِيَةَ اِجتِماعِ
فقد فسره المبرد بـ" إن المتحابين العاشقين قد يتصارمان ويتهاجران إذلالا، لا عزما على القطيعة، فإذا حان الرحيل وأحسا بالفراق، تراجعا إلى الود، وتلاقيا خوف الفراق، وأن يطول العهد بالالتقاء بعده، فيكون الفراق حينئذ سبباً للاجتماع". وفسره ثعلب بـ" أن الإنسانقد يفارق محبوبه، رجاء أن يغنم في سفره، فيعود الى محبوبه مستغنيا عن التصرف، فيطول اجتماعه معه" . وهما من أكابر العلماء فلم يوفقا لمعنى البيت الذي أراده الشاعر.
 أما الضفة الثالثة (الموسيقى) فقد تفرد بها بامتياز الشعر الاندلسي، وتفوق بها على شعر المشارقة تفوقا ساحقاً. وهذه الضفة ليس قوامها الثقافة أو التفكير الشعري، بل الطبع والذوق والاحساس الموسيقي المرهف، وهو أمر ساعد عليه طبيعة الاندلس وتراثها الموسيقي والنغمي. وهذه الموسيقى الطاغية نلمسها في الاشكال الشعرية الاندلسية كافة.
وممكن تلمسها من خلال تقطيع البيت عروضيا بتحديد موسيقى الالفاظ موزعة في البيت. وسنجد ان الشاعر يوزع الفاظه ويقطعها موسيقيا بشكل متناظر يضيف على البيت ايقاعات جديدة مضافة على ايقاع البحر الشعري، أشبه ما تكون بموسيقى داخلية، فضلا عن الطقس الموسيقي الداخلي الذي تصنعه آليات نغمية داخلية كجرس الالفاظ والبيان والبديع، فاذا بالقصيدة او القطعة سبيكة موسيقية رائعة.
فمثلا قول ابن زيدونً:
ودَّع الصبرَ محبّ ودَّعكْ     ذائعٌ من سرِّه ما استودعكْ 

ودّع الـ/ ـصبر/ محبٌّ / ودّعكْ
فاعلن  /  فاعِ/ فعولن / فاعلن
ذائعٌ/  من/ سرّه / ما سـْ/ ـتودعكْ
فاعلن/ فا / فاعلن/ فا / فاعلن
فايقاع الصدر تهيمن عليه (فاعلن = تم تتم)، والعجز تهيمن عليه (فاعلن) (فا) وهذا ايقاع يضاف الى ايقاع بحر الرمل (فاعلاتن فاعلاتن فاعلن). ولهذا السبب نحن نحس بالأبيات شديدة التطريب راقصة. ومثله في الموشح، كقول لسان الدين بن الخطيب:
جادك الغيثُ اذا الغيثُ همى     يا زمان الوصل بالأندلس
لم يكن وصلك الا حلما         في الكرى أو خلسة المختلس 

جادكَ الـ/ غيثُ / اذا الـ / غيثُ / همى
فاعلن / فاع  /  فعو / فاع / فعو
يا/ زمان الـ/ وصل/ بالـ/ أندلس
فع/ فعولن/ فاع/ فع/ مستعلن
لم / يكن / وصلك / الا / حلما
فع/ فعو/ فاعل/ فعلن/ فعِلن
في الـ/ كرى/ أو/ خلسة الـ/ مختلس 
فع/ فعو/ فع/ فاعلن/ مستعلن
فايقاع الصدر ارتكز على (فاع) (فعو) (فاع) (فعو). والصدر ارتكز على (فع) (فع)، ووضع (مستعلن = أندلس) المطوية لتضرب على وتر القافية نفسها في البيت الثاني (مستعلن = مختلس). وصدر البيت الثاني ضرب على (فعْل/ فعِلن) كما اشترك مع العجز بـ(فع = لم) (فعو = يكن) (فع = في الـ) (فعو = كرى). 
 وهذه الموسيقى المصنوعة بدقة ايقاعية متناهية نجدها عند أغلب الشعراء الأندلسيين. ولكننا لا نجدها في شعر العباسيين ، أو في مستوى أقل 
وهذه الحالة تقترب من الغنائية كثيراً، فيها عذوبة خاصة مفعمة بالطبيعة الأندلسية، ومعبرة عن الشخصية الأندلسية التي بدأت تعلن عن استقلالها. وهذه الموسيقى واضحة في شعر ابن عبد ربه (الشاعر الرقيق) الذي لم يقدم للشعر الأندلسي غير هذه الموسيقى العذبة. وقد تطورت هذه الموسيقى من التميز الى التفرد فأنتجت الموشح والزجل، وهما نمطان خالصان للموسيقى. 
فالموشحات التي أصبحت اليوم خرساء تتلقاها العيون قراءة دون الآذان سماعاً، جاء عليها حين من الدهر لا تقرأ بل تسمع فقط من الجوقات الموسيقية والآلات الكثيرة والمتعددة ، والمغنون الحذاق بما يضعه لهم الملحنون عباقرة الموسيقى الاندلسية. وقد نظر الباحثون المتأخرون بعد أن انقطعت الاسباب بين عصرنا وذلك العصر المتميز بحذق هذه الموشحات، فدرسوها على أنها (شكل شعري) جديد حاله حال القصائد العربية، وراحوا يقيسون التفاوت والتميز بينها وبين القصيدة. ولهذا خرجوا بنتائج متضاربة وخاطئة. وسمي الزجل زجلا لانه "يغنَّى به ويصوَّت" . وسنقف عندهما في الكلام على فقرة الشعر العاميّ.
والى جنب هذه الموسيقى العذبة تخصصوا بالشعر الرقيق الذي يعتمد على الحس والذوق  ومن ذلك قول ابن بقي:
بتنا ونحن من الدّجى في لجّة       ومن النجوم الزّهر تحت سرادق
عاطيته والليل يسحب ذيله       صهباء كالمسك الفتيق لناشق
وضممته ضمّ الكميّ لسيفه       وذؤابتاه حمائل في عاتقي
حتى إذا أخذت به سِنة الكرى      زحزحته عني وكان معانقي
أبعدته عن أضلع تشتاقه       كيلا ينام على وساد خافق 
وان تأثر الاندلسيين بأجواء الحب والموسيقى والطبيعة ألهمت الشعراء  النغمية المبهرة ورقة الشعر وهما ما تخصص به الشعر الاندلس فضلا عن (العامية) وهي أهم وأوضح ما اختص به الشعر الاندلسي الذي اصبح طابعه الباقي في الاذهان، وانتقل عدواه الى المشرق والى زماننا هذا فالشعر العامي صار يتغلب وليس ينافس الشعر الفصح.  

الشعر العامي
 أدخل الشعراء العباسيون في أشعارهم كلمات وأقيسة عامية وأجنبية حتى الكبار منهم؛ فاستعمل المتنبي (المخشلب) وهو تسمية عامية لنوع من الخرز، وقال (أسود من) على قول العامة، والصحيح (أشد سواداً من). الا انهم لم يتعدوا الكلمات القليلة. 
وأختص الاندلسيون بنمط الشعر العامي، فكانوا أول من كتبه وأذاعه ليصل مكاناً الشرق العربي، وزماناً الى يومنا هذا. ولم يكتفِ الاندلسيون بكلمات عامية يدسونها في أشعارهم. ويكفي النظر في فهرس الكتب التي اعتمدها (دوزي) في معجمه للغة العربية غير الفصحى للتأكد من أن الأندلسيين روجوا العامية ورسخوها. وقد كان (بعض مشهوري النحاة في الأندلس يعلّمون اللغة الفصحى بعامية البلد) . بل اخترعوا شكلين شعريين عاميين هما: الموشح والزجل، وروجوا بحرا ايقاعه عامي هو الخبب من خلال قصيدة الحصري القيرواني (يا ليل الصبّ) ويعود الفضل في اشتهار هذا البحر قرب ايقاعه من يقاع الحيث العامي اليومي الرتيب. وما كانت هذه القصيدة تشتهر ولا يروج بحر الخبب لو تراجع الفصحى وسيادة العامية. وكان الخليل قد حار فيه ثم تركه. ولم يشتهر على الرغم من تكراره في كتب العروض باسم المتدارك؛ على اساس تدارك الاخفش عليه، وأنكر مهدي المخزومي ذلك . ويفرق أستاذي العروضي الكبير صاحب منظومة (العروض الرقمي) بين المتدارك والخبب.
الموشح طفرة وراثية شعرية منذ امرئ القيس. وهي ثاني طفرة وراثية كبيرة، وكانت الثالثة (قصيدة البند) في العصر الوسيط، والطفرة الرابعة قصيدة الحر أو التفعيلة على يد السياب ونازك. وقد أكد ذلك الشاعر محمد مهدي الجواهري بقوله " الموشحات أكبر مدرسة ظهرت للتطور في الشعر العربي" . وتطور الشعر العربي بالموشحات تطور نغمي له استقلاليته الواضحة عن اللفظ والمعنى، وهذا لم تستطع القصيدة موحدة القافية الإشعار به. ومن رحم الغناء والعاميات نشأ الموشح وصنوه الزجل. وأكثر اوزان الموشح خارج العروض، وأكثر الاكثر غير موزون وانما يتحقق وزنه في تلحينه، يقول ابن سناء الملك "ليس لها عروض إلا التلحين، ولا ضرب إلا الضرب، ولا أوتاد إلا الملاوي، ولا أسباب إلا الأوتار" . 
والموشحات الاولى لم تكتب للفن الشعري بل كان الملحن يصنع اللحن ويخامره خوف من ضياعه فيكلف شاعرا ينظم له بعض الأبيات ليفرغ فيها لحنه حتى لا يضيع، على نقيض ما يصنعه شعراء المشرق الأمويون ينظمون قصيدة ثم يطلبون من مغن أن يصوغها في قالب لحني. ويؤكد هذا طبيعة نظم الموشح التي قصد من ابتكارها كسر القيود الشعرية العروضية المتداولة، وإخضاع الشعر للنغم بعد أن كان البحر يتحكم في صوغ اللحن . وهذا يحسم أن الموشحات الأولى كانت (شكلا غنائياً) صرفاً، وكل موشحة سليمة العروض هي (شكل شعري).
ودليل تخصص الاندلسيون بهذا النمط أن الموشح حين انتقل من الأندلس إلى المشرق ابتعد عن أسلوبه اللحني والإيقاعي . ومن الموشحات التي تؤشر المنحى النغمي العامي قول لابن نزار ، وتروى لابن حزمون:

اشْرَبْ عَلَى نَغْمَةِ المَثَانِي         ثَانِ
وَلا تَكُنْ في هَوَى الغَوَانِي         وَانِ
وَقُلْ لِمَنْ لامَ في مَعَانِ             عَانِ
مَاذَا مِنَ الحُسْنِ في بُرُودِ         يرُودِ
يَهِيجُ وَجْدِي إذَا الأَنَامُ             نَامُوا
قَوْمٌ إذَا عَسْعَسَ الظَّلامُ             لامُوا
وَمَا بِهِ هَامَ مُسْتَهَامُ             هَامُوا
فَقُلْ لِعَيْنٍ بِلا هُجُودِ             جُودِي 

والزجل كالموشح عرف في القرن الخامس الهجري. ورجح (Reverea) في سبب نشوئه أن الشعراء الأندلسيين كانوا يتكلمون الى جانب اللغة العربية اللغة الرومانية كذلك. ولهذا فانه مما لا يكاد يتطرق إليه الشك أن يكونوا قد قالوا الشعر بهذه اللهجات العامية كذلك. وورد انهم كانوا يتكلمون العامية الرومانية (الرومانثي) ووارد جداً أنهم كتبوا شعراً عامياً بهذه اللغة تظرفاً أو نظماً ثانوياً. ولكنهم لم يذيعوه في المرحلة الأولى، فلما جاء الجيل الثاني او الثالث جاهروا بمثل هذا النظم وهو ما سمي (الزجل)  .
والموشح والزجل كلاهما عامي النزعة، لذا لم يكتبه كبار شعرائهم. والفرق بينهما ان الموشح معرب والزجل بلا اعراب. وسموا صنفا ثالثا يجمع بينهما (المزنَّم) وهو يجمع بين الاعراب وعدم الاعراب .
ومن أمثلة الزجل:
ثلاثْ اشيا في البساتينْ         لَس تُجد في كل موضع
النسيمْ والخضرهْ والطيرْ         شمْ واتنزه واسمعْ
وملاحْ بحال حورْ العينْ         في رياضْ تشبه الجنَّا
وعسيوهْ قصيره             تّنظروا الخلاَّع تجِنَّا
لَس نطيقْ نفارقوها             وهْيَ تحملْ طاقْ عنَّا 

        

ثانيا – المشترك بين الادبين
ولد الشعر العربي في المشرق، فكانت البيئة العربية حاضنته التي طبّعته بطابعها، ومثلها كما مثل الجبلّة العربية خير تمثيل. ومن ثم فالشعر العباسي وريث شعر العصور السابقة عليه اعتمد على هذه الارضية ومثلها خير تمثيل، وقد أضاف اليها الكثير الا انه لم يخرج منها. ومنها انطلق الشعر الاندلسي ومثلها ايضاً، فهو لا يختلف غي تلك الجذور المشتركة عن الشعر العباسي.
والاندلسيون عاشوا في عزلة ثقافية فوق الجزيرة محتفظين بثقافتهم العربية، فلم يتعاطوا مع الاسبان أعدائهم ثقافياُ، ولا مع أصدقائهم البربر. وقد بقي الاسبان مصدر قلق وحرب للعرب الى حين اخرجهم الاسبان من الجزيرة، كما انهم لم يتعاطوا من الافرنج وكان آخر العهد بهم معركة (بلاط الشهداء). ولا يحملنا بعض الألفاظ المحلية (الرومانثية) والعبارات الأجنبية المنقولة مثل (العالم العلوي) و(العالم السفلي) على تأثر شعراء الأندلس بثقافة أجنبية او أنهم اطلعوا أو وظفوا الميثولوجيا الغربية؛ والعالم العلوي والسفلي نقلوه من كتب الفلاسفة المشرقيين، واستخدمه شعراؤهم أيضاً كابن سينا، ودلالته تختلف عن الميثولوجيا الغربية؛ فالعالم العلوي: عالم السماء، والعالم السفلي: العالم الأرض. 
وقد وجدنا أن الشعر الاندلسي والشعر العباسي يشتركان بأمور جوهرية أهمها:
1- الثقافة العربية:
قام الشعر المشرقي والاندلسي معا على الثقافة والتراث العربي من لغة وتاريخ وميثولوجيا ومعتقدات وعادات وتقاليد وأخبار وكل ما يدور في فلك الثقافة والحضارة العربية. فقد استقى الشعراء الاندلسيون والشعراء العباسيون من هذا المعين في انتاجهم الشعري، ورسموا صورهم وتعابيرهم الشعرية، وهذا يجعل الشعرين ممثلين بالقدر نفسه هذا التراث العربي الكبير.


2- الثقافة الشعرية:
كما يشترك الشعر الاندلسي والشعر العربي في قوانين الشعر ومادته، فكانت دواوين الشعر وكتب الادب والنقد في الاندلس والمشرق العباسي لا فرق بينها في عرضها هذا الشعر، وفي الاحكام التي تطلقها عليه. وقد اعتمد الاندلسيون تلك القوانين والاحكام الشعرية لانهم اخذوها عن اخوانهم المشارقة. وكان الاندلسيون أكثر حرية من المشارقة في التحرر والتصرف بتلك القوانين؛ بسبب تزمت العلماء المشارقة، فكان الشعراء يحاولون التجديد وقلما تمكنوا من ذلك، ولاسيما في عهود الخلفاء الاقوياء. وحرية الاندلسيين مكَّنتهم من التجديد أكثر، والخروج عن تلك القوانين حسب رغبتهم. وبفعل هذا وفضله كتبوا الموشح والزجل وهما خروج كبير عن التأليف الشعري العربي.. 

النتائج
 توصل البحث الى وجود خاص ومشترك بين الشعرين المتعاصرين: الشعر الاندلسي والشعر العباسي. الخاص، تميز الشعر العباسي باتصال سلاسل شعرائه وتأثرهم وتأثيرهم الشعري المتبادل. ودوام وجود شعراء كبار ملهمين، وحرص شعرائهم قاطبة على أن تكون لهم طرائقهم وتجاربهم الشعرية الخاصة بهم. بينما لم يكن شعراء الاندلس في اتصال شعرائه وتأثرهم وتأثيرهم في سلاسل متواصلة مستحكمة بالقوة نفسها، بل كثيرا ما كانوا حلقات غير متصلة ببعضها. كما لم تنتج الاندلس ظاهرة شعرية جديدة أو شعراء كبار بما يكفي ليظهر من اجلهم علم نقد وكتب نقدية عامة أو خاصة كما ظهر لدى العباسيين.
كما أن ولادة الشعر الاندلسي في حجر الشعر العباسي جعله ابنا شرعيا له، يتأثر به ويشبهه بقدر كبير، وان ضاقوا احيانا بهذا فانهم لم ينفلتوا منه وظلوا يسيرون على جادته، يتلقفون كل جديد لينسجوا على منواله أو يحاكونه مضيفين اليه طابعهم الخاص الرقيق العذب. 
واذا حقق الشعر العباسي التفرد في الضفة الشعرية الثانية (المعاني) محاولين محاكاة الجاهليين والامويين في امتلاك ضفة الالفاظ، فان الشعر الاندلسي لم يحقق الخصوصية اللفظية والمعنوية؛ فاغلب اشعارهم الفاظها اعتيادية لا تتحكم بالنص، ومعانيهم بسيطة أو عباسية معادة مصبوبة في قوالبهم وممهورة بختمهم المميز. وقد تفردوا بامتياز بضفة الشعر الثالثة وهي (الموسيقى). فأشهروا بحر المتدارك أو الخبب ذا الايقاع العامي. وابتدعوا شكلين شعريين عاميين هما: الموشح ويكتب بالاعراب، والزجل ويكتب بدون عراب. وكلاهما في الفاظه ومعانيه وخياله وصوره عامي. وقد حققوا موسيقى ساحرة خلابة كانت تقود النص وتعطيه امتيازه الاندلسي الذي لم تستطع النصوص العباسية مجاراته، وجاءت نصوصهم التي قلدته شاحبة كأنها بلا روح.
أما المشترك بين الشعرين: الاندلسي والعباسي فهو: (الثقافة العربية الشاملة) بما تضم من تاريخ وميثولوجيا وعادات وتقاليد وفكر وغيرها، و(الثقافة الشعرية) بما تضم من لغة وعروض وموضوعات وبلاغة وقوانين وغيرها.
 
المصادر والمراجع
* الأدب الأندلسي من الفتح وحتى سقوط غرناطة، د. منجد مصطفى بهجت (الموصل، مطبعة جامعة الموصل، 1988).
* أعلام في النحو، مهدي المخزومي (بغداد، دار الشؤون الثقافية، 1990).  
* الأغاني، أبو الفرج الأصفهاني (ت 356هـ)، تحقيق: إحسان عباس وآخران، ط2 (بيروت، دار صادر، 2004).
  * تاريخ الأدب العربي، بروكلمان، نقله الى العربية د. عبد الحليم النجار وآخرون (دار الكتاب الاسلامي، 2005).
* تكملة المعاجم العربية، رينهارت دوزي، ترجمة: د. محمد سليم النعيمي (بغداد، دار الشؤون الثقافية، 1978).
* جذوة المقتبس في ذكر ولاة الأندلس، الحميدي (ت 488هـ) (القاهرة،الدار المصرية للتأليف والترجمة، 1966).
  * الجهود النقدية لحازم القرطاجني في كتابه منهاج البلغاء وسراج الأدباء، د. نجم مجيد علي مهدي، مجلة كلية التربية الأساسية – الجامعة المستنصرية (العدد:70، 2011). 
* الحلة السيراء، ابن الأبار (ت 658هـ)، تحقيق: علي إبراهيم محمود (بيروت، دار الكتب العلمية، 2008).
* حوارات مع الجواهري، محمد صالح عبد الرضا، ضمن (الموسوعة الثقافية)، (دار الشؤون الثقافية، بغداد، 2011).
* الحيوان، عمر بن بحر الجاحظ (ت 255هـ)، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، ط2 (القاهرة، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، 1965).
* خلاصة الادب العباسي أدب الحضارة والحداثة، أ.د محمد تقي جون (بابل، دار الصادق الثقافية، 2017). 
* دار الطراز في عمل الموشحات، ابن سناء الملك (ت )، تحقيق د. جودت الركابي،(دمشق،1949).
* ديوان ابن عبد ربه (328هـ)، تحقيق: محمد رضوان الداية (بيروت، مؤسسة الرسالة، 1979): 120
* ديوان عنترة بن شداد، (بيروت، المركز الثقافي اللبناني).
* ديوان أبي نواس، تحقيق: د. عمر فاروق الطباع (بيروت، شركة دار الارقم بن أبي الارقم، 1998): 574.
  * الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة، ابن بسام الشنتريني (ت 542هـ)، تحقيق: د. إحسان عباس (بيروت، دار الثقافة، 1997).
* العمدة في محاسن الشعر وآدابه، الحسن بن رشيق القيرواني (456هـ)، تحقيق: محمد عبد القادر أحمد عطا (بيروت، دار الكتب العلمية، 2001).
*  معجم الادباء، ياقوت الحموي، ط6 المستشرق د.ت). 
* دراسات ادبية، د. سعد اسماعيل شلبي (القاهرة، دار نهضة مصر، 1993): 68-.
* شرح المعلقات السبع، الحسين بن أحمد الزوزني (486هـ)، تحقيق: عبد الرحمن المصطاوي، ط2 (بيروت، دار المعرفة، 2004).
* سلافة العصر في محاسن شعراء كل مصر، ابن معصوم (قم، المكتبة المرتضوية لا حياء الاثار الجعفرية).
* السماع عند العرب، مجدي العقيلي (دمشق، 1970).
* شرح ديوان المتنبي، شرح البرقوقي  (بيروت، دار الكتاب العربي، 1980).
* شعراء العصر الأندلسي، محمد العريس (بيروت، دار اليوسف، 2005).
  * العاطل الحالي والمُرخَص الغالي، صفي الدين الحلي (750هـ)، تحقيق: د. حسين نصار، ط2 (بغداد، دار الشؤون الثقافية، 1990). 
* معجم الأدباء، ياقوت الحموي (ت 626هـ)، تحقيق د. س مرجليوث، ط2 (القاهرة، مطبعة هندية بالموسكي، 1923).
* المغرب في حلي المغرب، ابن سعيد المغربي (685هـ)، تحقيق: د. شوقي ضيف، ط3 (القاهرة، دار المعارف، 1955).
* الموسيقا الأندلسية المغربية (فنون الاداء)، عبد العزيز بن عبد الجليل، (الكويت، سلسلة عالم المعرفة، 1988).
* نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، أحمد بن محمد المقري، تحقيق: د. إحسان عباس (بيروت، دار صادر، 1988): 2/ 500- 501.
* وفيات الاعيان وأنباء أهل الزمان، ابن خلكان (681هـ)، تحقيق احسان عباس (دار صادر، بيروت، د.ت).
الرسائل والمقالات
* مدرسة المولدين الشعرية وأثرها في الشعر العباسي، أحمد عبد الحسين عبد الله. رسالة ماجستير، كلية الآداب جامعة بغداد 2019.
* أندلسيات في زمن الكورونيات ، مقال منشور لمؤسسة ابن تاشفين في 5/ 4/ 2020.
 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


د . محمد تقي جون
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2021/03/23



كتابة تعليق لموضوع : الخاص والمشترك بين الشعر الأندلسي العباسي
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net