صفحة الكاتب : السيد عبد الستار الجابري

قراءة في سورة يوسف (عليه السلام) ( 10) ارادة الله وحرية الانسان
السيد عبد الستار الجابري

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

﴿وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ ۚ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ ۖ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ، وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾ 
تشير الايات الكريمة الى معنى دقيق في ادارة شؤون الكون، وان ما يجري من احداث مفصلية بل وجزئية في حياة الافراد والمجتمعات انما هو بتخطيط الهي لمسير الانسان على الارض مشفوعاً بحرية الانسان في تحديد التعاطي مع الحدث ليتحمل بذلك مسؤوليته عنه، فلو اعدنا قراءة الاحداث التي دلت عليها قصة يوسف (عليه السلام) منذ الرؤيا التي اراها الله اياه، وحتى تصدي يوسف (عليه السلام) لمنصب عزيز مصر، سنجد ان مسير الاحداث بخطوطه العامة كان مرسوماً من الله تعالى، فرؤيا يوسف (عليه السلام) كانت تدل على ان الله تعالى حدد له موقعاً مهماً، فسره يعقوب (عليه السلام) لولده كما بينته الاية الكريمة: 
﴿وَكَذَٰلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَىٰ آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَىٰ أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ ۚ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ 
ومن الطبيعي ان يتعلق قلب الاب الرؤوف بولده الذي ظهر له من خلال البراهين الالهية انه حامل لواء النبوة من بعده، وكان المفترض بأبناء يعقوب (عليه السلام) ان يحترموا مشاعر ابيهم وتشخيصه لأهلية اخيهم، لكن الحسد دفعهم الى محاولة قتله ليبعدوا يوسف (عليه السلام) عن ابيه وتتحول ميول يعقوب (عليه السلام) اليهم بدلاً من تعلق قلبه بيوسف (عليه السلام)، وفي هذا المقطع من حياة ال يعقوب اشارة الى طبيعة التزاحم بين الارادة البشرية الجاهلة بالقانون العام لإدارة المجتمع البشري وبين مضي الارادة الالهية، كان يمكن لبني يعقوب (عليه السلام) ان يحترموا ارادة ابيهم ويوقروا مقام اخيهم، ومن المؤكد ان مسير الاحداث في هذه الحالة سيتخذ طريقاً آخر، هذا الطريق لن تختلف فيه النتائج ولكن تتغاير فيه الطرق الموصلة للنتيجة.
رؤيا يوسف (عليه السلام) وحسبما فسرها يعقوب (عليه السلام) كانت تدل على ان الله تعالى سوف يجتبيه ويعلمه من تأويل الاحاديث ويتم نعمته عليه وعلى ال يعقوب كما اتمها على ابويه من قبل ابراهيم واسحق، لو نظرنا الى جزء ظاهر من النعم التي من الله تعالى بها على ابراهيم واسحق (عليهما السلام) نجد ان الله تعالى جعل من ابراهيم (عليه السلام) اماماً وجعل له مكانة مقدسة في قلوب الناس بعد حادثة الاحراق التي اراد بها النمرود القضاء عليه، وغادر ابرهيم (عليه السلام) بابل ليسكن بادية الشام ويدعو الى الله وتملأ دعوته اقطار الارض فجاب بكل حرية الشام ومصر والعراق، داعياً الى الله وناشراً لعقيدة التوحيد حتى اصبحت تلك العقيدة موازية للوثنية التي ملأت الدنيا ولم يلتحق ابراهيم (عليه السلام) بالدار الاخرة حتى كان ابناؤه حملة راية التوحيد في الشام وجزيرة العرب، فحاز بذلك علو المقام في الاخرة والدنيا.
ومن هنا يتضح  ان اتمام النعمة على يوسف (عليه السلام) وعلى ال يعقوب كان يتحقق بتسنم يوسف (عليه السلام) موقعاً يتحقق له فيه رفعة المقام في الاخرة والدنيا اما ما هو فلم تصرح الآية الشريفة به، بل تركت بيانه للأحداث الجارية على ارض كنعان وارض مصر.
التقدير الالهي والحرية الانسانية
ومن هنا يمكن القول ان كل موقع يحتله الانسان مرسوم له في عالم التقدير، وان مسار الانسان في مختلف شؤون حياته، محكوم بقانون وان المواقع والمراكز التي يحتلها سواء بتخطيط منه للوصول اليها او بلا تخطيط منه او بسعيه للوصول الى مراكز معينة ولكن مسار الاحداث يقوده الى مسارات اخر ربما لم تخطر يوماً في مخيلته، كل هذا المجموع من الاحداث يدل على ان سير الاحداث مرسومة ومقدرة ومن يلقي نظرة الى مجمل حركة حياته وشؤون من يحيطه يجد ذلك متحققاً بوضوح، انها يد التقدير، والارادة الالهية.

ش عبد الستار الجابري, [١٤.٠٣.٢١ ٠٩:٥٩]
وفي مقابل ذلك، لا يكون الانسان مجبراً على اي تصرف من تصرفاته، بل له الحرية في تحديد موقفه وتنفيذ افعاله، فهو ليس مسلوب الاختيار، فلم يكن اخوة يوسف (عليه السلام) مجبرون على قتله، وجرت ارادة الله ان الا يقتلوه، ولم تكن زليخة مجبرة على دعوة يوسف (عليه السلام) لارتكاب الفاحشة ولم يكن يوسف (عليه السلام) مجبراً على اجتناب المعصية، ولم يكن عزيز مصر مجبراً على سجن يوسف (عليه السلام) ولم يكن يوسف (عليه السلام) مجبراً على ترك المطالبة بانصافه عن سنين السجن، كما لم يكن الملك مجبراً على استيزاره ولم يكن يوسف (عليه السلام) مجبراً على قبول المنصب، وكل منهم يتحمل مسؤولية ما قام به باختياره، ويستحق بناءاً على ذلك المدح او الذم، انها ساحة الصراع، ساحة شبيهة بساحة الحرب او مختبر التجارب او جهد الزارع، ففي اي من هذه الساحات او ساحات الصراع الاخرى بين الانسان وما يحيطه، نجد ان الانسان الذي يريد انجاز شيئ ما اذا كان محيطاً احاطة بمستوى عال من الدقة بكل الظروف التي تحيط بمشروعه فانه سوف يحقق جزءاً كبيراً من المشروع، ولكن تبقى هناك ثغرات تظهر له في كل مرحلة من مراحل عمله تجبره على تغيير خطته وتعديل برنامجه، في سبيل الوصول الى افضل النتائج، وفي المحصلة النهائية قد يحقق ما اراد او اغلب قدر ممكن مما اراد او اكبر مما اراد او لم يحقق الا جزءا يسيراً او لا يحقق شيئاً او يتحقق له شيء لم يفكر به اصلاً.
وهكذا هي ساحة الصراع بين ارادة الانسان وتقدير الرب، فإن النتائج النهائية تكون كما يريده الرب، والانسان هو المحقق لارادته، فان كان ما يريده الانسان متطابق مع  ما يريده الله تحقق له ما يريد، واما اذا كان ما يريده متناف مع ارادة الرب كان ما يريده الرب، مهما بذل الانسان من جهد.
وهذا ما تجلى واضحاً في سورة يوسف (عليه السلام) حيث اراد الله تعالى ليوسف (عليه السلام) الرفعة والسمو وعلو المقام، واراد له اخوته الموت، وارادت له زليخة النزول عند هوسها ورغباتها، ثم ارادت له الاذى والاذلال، فكان ما اراد الله، فغدى يوسف (عليه السلام) بعد كل ما مر به من تحديات، عزيزَ مصر والمتصرف باقتصادها والمهيمن في قرارها, من فتى يعيش في البدو، ليس في ملك ابيه سوى ما تقتضيه حياة الصحراء من تربية الاغنام والابل، الى الوزير الاعظم في اكبر دولة متحضرة في وقتها، واعظم دولة من حيث التطور العلمي في ذلك الزمان. وهكذا يجري التقدير الالهي، مهما كانت ارادة البشر.
عموم الرحمة الالهية للخلق
وتقرر الآيات الشريفة قانوناً الهياً ثابتاً وهو ان الرحمة الإلهية  يصيب بها الله من يشاء من عباده، بغض النظر عن احسانه او اساءته، ذلك ان الدنيا دار بلاء وامتحان للناس ﴿ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ﴾ فلم يمنع شرك اهل مصر من ان يبعث الله تعالى لهم يوسف (عليه السلام) لإنقاذهم من خطر المجاعة في سنوات الجدب والقحط، كما ان المحسنين من العباد المطيعين له العاملين بأمره لن يضيع الله جزاءهم بل سيجزيهم في دار الدنيا احسن الجزاء ﴿ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ فيوسف (عليه السلام) الذي لم يدر في خلده ولو للحظة ان يعص الله او يخالف امره، ولم يستجب لحظة لنوازع الشر لم يضع الله اجره بل بلغه اعلى المراتب الدنيوية التي يمكن ان يحلم بها ابناء ذلك المجتمع، واما في الدار الآخرة فان الاجر اجزل واعظم ﴿ وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾ فمهما بلغ العطاء في دار الدنيا فانه لن يعد شيئاً بالنسبة لجزاء الاخرة فان بين العالَمين بون شاسع وفرق كبير.


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


السيد عبد الستار الجابري
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2021/03/27



كتابة تعليق لموضوع : قراءة في سورة يوسف (عليه السلام) ( 10) ارادة الله وحرية الانسان
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net