قراءة في سورة يوسف (عليه السلام) ( 21 ) خصائص يعقوب (عليه السلام) 2
السيد عبد الستار الجابري
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
السيد عبد الستار الجابري
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
الخصوصية الثانية التي يمكن ان يلاحظ ابراز آيات سورة يوسف لها هي وضوح طبيعة المخاطر والعقبات التي كانت تواجه حركة الاعداد للمرحلة الرابعة من مراحل هداية الخلق عند النبي يعقوب (عليه السلام) وكيفية التعاطي معها.
وهذه المخاطر كانت تكمن في محورين رئيسيين:
الاول: المخاطر التي تستهدف شخص يوسف (عليه السلام)
الثاني: المخاطر التي كانت تستهدف عائلة يعقوب (عليه السلام)
وبعبارة اخرى الحديث هنا يتناول المهمة الالهية الملقاة على عاتق يعقوب (عليه السلام) في التمهيد للمرحلة الرابعة من مراحلة الدعوة الى الله في مرحلة ما قبل فقدان يوسف (عليه السلام).
ففيما يتعلق بيوسف (عليه السلام) كان الخطر الاكبر الذي يحيطه هو خطر حسد اخوته وحقدهم عليه، حيث كان الاخوة يشعرون ان يوسف (عليه السلام) سيكون المرشح لوراثة زعامة العائلة بعد يعقوب (عليه السلام) وهذا الامر لم يكن يروق لهم، لانهم هم الاكبر سناً ومن وقع على عاتقهم الاهتمام بشؤون العائلة وحماية اقتصادها ووضعها الاجتماعي، وهم المساهم الاكبر في النهوض بكل ما تحتاجه عائلة يعقوب (عليه السلام) الكبيرة من خدمات، فظهور منافس لهم لم يقدم شيئاً امر غير مستساغ، وتطور الحسد والحقد عندهم الى حد كبير لم يكن خفياً على يعقوب (عليه السلام)، فاصبح الخطر المحدق بأحد ركني مشروع التمهيد خطير جداً ومنذر بوقوع كارثة وشيكة.
واما المحور الثاني الذي يشكل خطراً على المشروع الالهي فقد تمثل في الخطر الذي يهدد عائلة يعقوب (عليه السلام) اذ ان حسد اخوة يوسف (عليه السلام) له لم يقف عند حد الاحاسيس بل تحول الى تصريحات، ولم يقف عند اظهار حسد يوسف (عليه السلام) والتنفر منه بل تعداه الى تخطئة يعقوب (عليه السلام) وهم يعلمون انه نبي من الانبياء، وهذا يشكل خطراً لا يقل عن الخطر الموجه الى حياة يوسف (عليه السلام) لان التجرؤ على تخطئة النبي سوف يدعوهم الى ارتكاب خطايا وآثام وتبرير افعالهم الاجرامية بما يتلائم مع اهوائهم، وهذا سيلغي دور يعقوب (عليه السلام) في الاعداد للمرحلة القادمة حيث ستبرز قوى تنافس يعقوب (عليه السلام) ادارياً وتقف بالضد من مشروعه وتحركه، هذا من جهة ومن جهة اخرى فإن ظهور هذه الحالة بين ابناء يعقوب (عليه السلام) أي ظاهرة الحسد والتنافس والخروج عن طاعة النبي وتبني سياسات مخالفة لسياسته يشكل خطراً كبيراً على وحدة العائلة وتماسكها، بل سيعمل على تشتتها وانهيارها وتمزقها، واندلاع صراعات بين افرادها لن تقف عند حد.
هذان التحديان اللذان كان يواجهان المشروع الالهي في مرحلة ما قبل فقد يوسف (عليه السلام) وقد تعامل معهما يعقوب (عليه السلام) بمستوى عال من الدقة والرعاية بنحو يكشف عن مستوى الكمال الذاتي الذي كان يتمتع به النبي يعقوب (عليه السلام) في ادارة الازمة وصولاً الى تحقيق الهدف الاسمى.
مواجهة المؤامرة
بلغ حسد الاخوة لأخيهم ذروته ولم يعد حالهم يتحمل ابقاء يوسف (عليه السلام) بينهم، فاتخذوا قرارهم بإزاحة يوسف (عليه السلام) عن طريقهم:
﴿إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَىٰ أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ، اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ ، قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ﴾
فهذه الآيات تدل دلالة واضحة ان قرار بني اسرائيل كان ابعاد يوسف (عليه السلام) عن ساحة المنافسة، وان هناك مباحثات طويلة كانت تجري بين الاخوة في البحث عن آلية ينهون فيها التأثير السلبي لوجود يوسف (عليه السلام) على مشروع زعامة آل يعقوب المستقبلي، ومن الطبيعي ان قرار القتل كان اصعب خيار يمكن ان يلجأ اليه الاخوة، اذ لا توجد اشارة انهم كانوا خارجين عن احكام شريعة ابراهيم (عليه السلام) او انهم يدينون بدين غير دين ابيهم يعقوب (عليه السلام) او انهم حتى يشككون بنبوته، ولكن هوس الزعامة كان طاغياً على تفكيرهم فأنساهم كل شيء ولذا كانت الاطروحة الاولى هي قتل يوسف (عليه السلام)، في مقابل هذه الاطروحة المتمحضة في الجريمة طرح حل اقل جرماً وهو القائه في البئر لتلتقطه بعض القوافل المارة في طريقها وبذلك يضمنوا بعده عن ابيه ويعزلوه تماماً عن ساحة المنافسة.
كل هذه الأمور كانت تجري بين الابناء ولم تكن خفية على يعقوب (عليه السلام)، فليعقوب (عليه السلام) من حيثية مقام النبوة احاطة لا يدركها بنوه، ولذا كانت خطوات يعقوب (عليه السلام) مدروسة جداً ومحسوبة حساباً دقيقاً، فعندما جاء الاولاد الى ابيهم وطلبوا منه ان يرسله معهم يرتع ويلعب وتعهدوا له بحفظه، كان يعقوب (عليه السلام) يعلم ما تضمره قلوبهم من الحقد والحسد على اخيهم وهو الذي اوصى يوسف (عليه السلام) ان لا يحدث اخوته برؤياه لئلا يكيدوه، ولكن لم يكن بد من الاستجابة لهم، فإن الخلاف الحاصل بينهم في كيفية التخلص من يوسف (عليه السلام) كان فيه ضمانة لبقاء يوسف (عليه السلام) حياً هذا فضلاً عن الوعد الالهي بحفظ يوسف (عليه السلام) الذي كشفت عنه رؤياه، واما عدم الاستجابة فسينتج عنه خطر يهدد مستقبل آل يعقوب بأجمعهم، حيث سيعملون على اللجوء الى طريق اخر للتخلص منه، بل ربما سيعلنون تمردهم على يعقوب (عليه السلام) وينتهي الامر بصراع خطير داخل العائلة، فالأمر عند يعقوب (عليه السلام) يدور بين ان يضحي بقرب يوسف (عليه السلام) منه او يضحي بالمشروع الالهي، خيارين كلاهما امر من العلقم ولكن التضحية بقرب يوسف (عليه السلام) هو الخيار الضامن لانجاز المهمة الالهية التي كلف بها، فاضطر مرغماً على ارسال يوسف (عليه السلام) مع اخوته ولم يخف عنهم ما يعلمه من نواياهم السيئة وهو ماحكاه عنه القران الكريم:
﴿قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ﴾
ان المتأمل في الآية الشريفة لا يجد مبرراً لحزن يعقوب (عليه السلام) بذهاب يوسف (عليه السلام) مع اخوته فترة قصيرة من الصباح والى الغروب، ولكنه اشعار منه لهم بأنه يعلم ما يجول في افكارهم وما يخططون له، بل بين لهم ما سوف يدعونه لتبرير اختفاء يوسف (عليه السلام) وعدم عودته معهم.
كما تشير آية اخرى الى ان الخلاف بين ابناء يعقوب (عليه السلام) في كيفية التخلص من يوسف (عليه السلام) كان على اشده، وفي النهاية انتصر الرأي الاقل دموية فقرروا القائه في غيابة الجب كي يبعدوه عنهم الى الابد:
﴿فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ ۚ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَٰذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾
وفي عين الوقت اشارت الآية الكريمة الى الرعاية الالهية التي كانت تحوط يعقوب (عليه السلام) وانه كان واقفاً على مجريات الاحداث، ولكن تعامله مع تلك الاحداث كان بالنحو الذي يحفظ كيان الاسرة وتماسكها لأداء دورها المعد لها بعد اجيال متعاقبة.
ومما يكشف كشفاً يقينياً عن الاحاطة العلمية التي كانت ليعقوب (عليه السلام) ما حكته عن الآية الشريفة:
﴿وَجَاءُوا عَلَىٰ قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ ۚ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا ۖ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ۖ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ﴾
فهذه الآية حاكية على نحو الاشارة الى علمه (عليه السلام) سوء النية الذي كان عليه بنوه وعلمه بما ستؤول اليه الأمور، وان سلاح الصبر هو السلاح الأنجع في الوصول الى تحقيق ما يريده الله.
لمتابعة مقالاتنا على التلكرام يمكن الانضمام عبر الرابط https://t.me/abdulsettarquranstudys
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat