صفحة الكاتب : الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي

لسان الشيعة الطاهر !
الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

 بسم الله الرحمن الرحيم
 
يَا ابْنَ النُّعْمَانِ، لَيْسَتِ الْبَلَاغَةُ بِحِدَّةِ اللِّسَانِ ! وَلَا بِكَثْرَةِ الْهَذَيَانِ ! وَلَكِنَّهَا إِصَابَةُ الْمَعْنَى، وَقَصْدُ الْحُجَّةِ (تحف العقول ص312).
 
التاريخُ يُعيد نفسه، فهذه كلمات الصادق عليه السلام لمؤمن الطاق ! لَشدَّ ما نحتاجُها اليوم، حيثُ صارَ مِقياسُ البلاغة عند أكثر الخلق هو (حدّة اللِّسان)، و(كَثْرَة الْهَذَيَانِ) !!
 
(الهذيان) هو الكلام (غير المعقول) أو (غير المفهوم)، كالذي يصدر عن المعتوه !
فهل يُعقَلُ أن يتوهَّمَ الناسُ فيه البلاغة ؟!
 
نعم! هو العقلُ الجمعيُّ حيثُ يُحرِّكُ أكثَرَ مَن عليها، عندما تجتذبهم الكثرة العددية، سواءٌ وافقت الحقّ أم خالفته.
وتأخذهم الحماسةُ عندما يرون لساناً حادّاً سليطاً، دون فَهمٍ وإدراكٍ وعِلمٍ، فأين هم عن (إِصَابَة الْمَعْنَى) ؟!
ثم تُدَغدِغُ مشاعرَهم العصبيةُ، فتطيش لها ألبابُهم، ويصير (الْهَذَيَانُ) بلاغةً !!
 
هذا ما كان يجري في أيام الإسلام الأولى، أما قُرِنَ عليٌّ بسواه حينها ؟!
وما أكثر ما نراه في أيامنا.. حينما صار مِعيارُ البلاغة على المنابر بعيداً عن (إِصَابَة الْمَعْنَى وَقَصْد الْحُجَّةِ) !
 
فصارت الحدّة والشدّة والكلام المُبَعثَرُ الذي يفتقد لكلّ حجةٍ هو المبرَّز، وصارت الخطابات الرنّانة مِعيار البلاغة ولو لم تستند إلى ركنٍ وثيق، وإن اعتمدت السَّلق بألسنةٍ حداد بالباطل ! كما في قوله تعالى: (فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ) (الأحزاب19).
 
لكنّ الشيعة ما كانوا كذلك يوماً.. وقد تجلّى ذلك في اقتدائهم بآل محمدٍ في أمور:
 
أوَّلُها: الصمت إلا مِن خَير !
 
فعن الباقر عليه السلام أنّ داوود قال لسليمان: يَا بُنَيَّ، عَلَيْكَ بِطُولِ الصَّمْتِ إِلَّا مِنْ خَيْرٍ (قرب الإسناد ص69).
وعلى هذا يُحمل قولُه عليه السلام: إِنَّمَا شِيعَتُنَا الْخُرْسُ (الكافي ج‏2 ص113).
 
فإنّ من لم يتكلَّم إلا بالخير، وأعرَضَ عن كلّ باطِلٍ ولَغو، وما نَطَقَ إلا فيما يعنيه، عَدَّهُ الناس أخرَساً لقلّة كلامه، وهو يعلمُ أنّ كثرة الكلام بغير الحق وذكرِ الله مدعاةٌ لقسوة القلب، والبُعد عن الله تعالى، والمؤمن يفرّ من ذلك، فعن الصادق عليه السلام: إِنَّ الَّذِينَ يُكْثِرُونَ الْكَلَامَ فِي غَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ قَاسِيَةٌ قُلُوبُهُمْ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (الكافي ج‏2 ص114).
 
أما قال النبي (ص): وَهَلْ يكبّ النَّاسَ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ فِي النَّارِ إِلَّا حَصَائِد أَلْسِنَتِهِمْ (الكافي ج‏2 ص115).
أليس المؤمن مأموراً بحفظ لسانه ؟! ففي حفظ اللسان عِزُّه (احْفَظْ لِسَانَكَ تَعِزَّ).
 
أما ورد أنّ اللسان يُعذَّبُ بما لا يعذَّبُ به شيءٌ من الجوارح، ويقال له: خَرَجَتْ مِنْكَ كَلِمَةٌ فَبَلَغَتْ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا فَسُفِكَ بِهَا الدَّمُ الْحَرَامُ وَانْتُهِبَ بِهَا الْمَالُ الْحَرَامُ ؟!
 
المؤمن يحسب كلامه من عمله، وكلُّ عملٍ يُحاسَب عليه الإنسان، فـ: مَنْ لَمْ يَحْسُبْ كَلَامَهُ مِنْ عَمَلِهِ كَثُرَتْ خَطَايَاهُ وَحَضَرَ عَذَابُهُ (الكافي ج‏2 ص115).
 
ثانيها: تعليم محاسن الكلام !
 
عن الرضا عليه السلام: رَحِمَ اللَّهُ عَبْداً أَحْيَا أَمْرَنَا.. يَتَعَلَّمُ عُلُومَنَا وَيُعَلِّمُهَا النَّاسَ، فَإِنَّ النَّاسَ لَوْ عَلِمُوا مَحَاسِنَ كَلَامِنَا لَاتَّبَعُونَا (عيون أخبار الرضا عليه السلام ج‏1 ص307).
يعلم المؤمن أن ليس المراد من (النَّاس) في حديثه العموم، فليس كلُّ الناس أَتبَاعٌ لهم لو عرفوا محاسن كلامهم، ففيهم المنافقُ الذي لا يحبّهم بحال.
 
ويعلم أنّ في تعليم علومهم وبثِّ محاسن كلامهم كلّ الخير، أليس مِن أهل الخير مَن ترحّم عليه الصادق عليه السلام ؟!
فيقصرُ المؤمنُ لسانَه على ذكر الله، وتَعَلُّم علومهم وتعليمها للناس، وقول الخير، فيطهُر لسانُه بذلك.

ثالثها: القوة في الدين !
 
عن أمير المؤمنين في وصف المتقين: مِنْ عَلَامَةِ أَحَدِهِمْ أَنَّكَ تَرَى لَهُ قُوَّةً فِي دِينٍ، وَحَزْماً فِي لِين‏ (الأمالي للصدوق ص572).
المؤمنُ أصلبُ من الجبل في أمور دينه، لا يقبلُ أن يُنتقص منها شيء.
ولما يكون حازماً، يكون حَزمُه مقروناً برفقٍ ولينٍ وأناةٍ لئلا يكون فظاً غليظاً.
 
فيجمع بين حُسنِ الخلق وبين قوّة العقيدة والإيمان، ولا تميل إحداهما على الأخرى فتطغى، فكما كان عليٌّ عليه السلام أرفعَ أنموذجٍ في حسن الخُلُق، كان أيضاً كما وصفته الزهراء عليها السلام:
نَقَمُوا وَاللَّهِ مِنْهُ نَكِيرَ سَيْفِهِ، وَشِدَّةَ وَطْأَتِهِ، وَنَكَالَ وَقْعَتِهِ، وَتَنَمُّرَهُ فِي ذَاتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ (معاني الأخبار ص355).
وهكذا هم الشيعة، يقتدون به عليه السلام.
 
لقد عَلِمُوا أن آلَ محمد هم: الْبَابُ الْمُبْتَلَى بِهِ النَّاس ! (من لا يحضره الفقيه ج‏2 ص613)‏.
وأنّ الأمّة التي امتحنت بهم قد فشلت! تجلّى ذلك فيما وقع عليهم من أحداثٍ جِسامٍ بعد شهادة الرسول (ص)، حينما هُتكَت حرمتهم، وأُحرقَ بابُ الزهراء (ع)، وسُفِكَ الدّمُ الطاهر، وسُبيت المخدّرات، وحلّت عليهم أعظم جرائم التاريخ.
 
لقد أبغضهم أهل النفاق، ونقموا عليهم، ثم أعملوا السيف في رقاب الموالين لهم، وأوغلوا فيهم سفكاً للدماء، وهَتكاً للأعراض، وارتكبوا أشدّ المحرمات، فلَم يبقَ للشيعي إلا لسانه، يُعَبِّرُ به عن مظلوميته ويثبت به حقه.
 
لكن تلك الفئة ساءها ذلك أيضاً، فعَمَدَت إلى (قطع الألسن) خوفاً من ظهور الحق: أليست صورة (حِجر بن عدي) و (رشيد الهجري) ماثلةً في الأذهان إلى يومنا هذا ؟! 
 
ورغم ألم الجراح، وما أُثخِنَ به كيان الشيعة، حافظ علماؤهم وعوامهم على أرقى نماذج الأخلاق على طول الخط.
 
فكما لم يسمحوا لهذه الجرائم أن توثر على عقيدتهم وفكرهم وسلوكهم، ما أذنوا لها أن تغيِّرَ (لسانهم)، فظلَّ لساناً نظيفاً مهذَّباً سامياً راقياً، وسطروا بذلك أروع ملحمةٍ من ملاحم الصبر وحسن السيرة، دون أن يتزحزحوا قيد أنملةٍ عن لُبّ عقيدتهم.
 
فلم يمنعهم حسن الخلق وطيب السريرة وطهارة اللسان من بيان الحق، بإظهار فضائل العترة الطاهرة عليها السلام وما وقع عليها من ظلامات، والبراءة ممن أسس أساس الظلم والجور عليهم.
 
هكذا كان (اللسان الشيعي) نظيفاً طاهراً مهذباً، وسيبقى رغم الصعاب بإذن الله، لا يتكلّم إلا بخير، ولا يتزحزح عن الحق، ولا يَقرَبُ (الهذيان)، يقتدي في ذلك بالمعصومين من آل محمد (ع)، ويبرأ مِن كلّ من خالفهم.
 
والحمد لله رب العالمين


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2021/06/14



كتابة تعليق لموضوع : لسان الشيعة الطاهر !
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net