واقعية الموت والشهادة شهادة الإمام (علي عليه السلام) إنموذجا
ا . د . وليد سعيد البياتي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
ا . د . وليد سعيد البياتي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
لعل ارتباط فكرة الشهادة عقليا بشهادة الامام الحسين في كربلاء (61هـ) قد نأت بتصورنا للشهادة في مواقع أخرى، حتى طغت على شهادة أبيه أمير المؤمنين علي عليه السلام، ونحن هنا نحاول ان ننظر للعلاقة بين الحياة الدنيا والحياة الآخرة باعتبارها علاقة بين النسبي والمطلق، ولما كان (الموت حق) فهو بالتالي قضية واقعية تعتبر تكريسا لعملية الانتقال من حالة النسبي إلى حالة المطلق، وهو قسم من أقسام العقيدة، وليس مجرد موقف فلسفي باعتباره قضية تتعلق بمصير الانسان في حالة التحول من النسبي إلى المطلق، ولما كانت الشهادةُ تعتبر تجسيدا حركيا للعقيدة بأسمى مستوياتها؛ فهي بالتالي حالة متفوقة من حالات الموت، باعتبارها تمثل استيعابا لمفهوم علاقة الانسان بالله من جانب ولكونها تتعلق برغبة الانسان في التكامل مع الآخرة، وهذه الفكرة تتجلى في قوله تعالى من سورة البقرة آية رقم 154: (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيل الله أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ) ويقول أيضا من سورة آل عمران من 169- 171: (وَلا تَحْسَبَنَّ الذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضلٍ وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ)، هنا يظهر تأكيد على عدد من المفاهيم يأتي في مقدمتها واقعية الموت والشهادة إضافة الى تجلي قيمة الشهادة باعتبار الحياة الثانية، وتقييم الموت بالشهادة في قوله: (فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ)، ورسم البعد المستقبلي في حركة الأمة: (وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ)، والخلاص من الحساب والعذاب في قوله: (أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)، والتأكيد على العدل الإلهي: (وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ).
من هنا نرى ارتباط الشهادة بالعقيدة والشريعة باعتبارها فعلا يؤدي لمرضاة الله، لكن عملية تحقق هذا الفعل لا يمكن ان تكون خارج الاطار الشرعي حتى تكتسب الشهادة قيمتها العليا، وإلا فلا قيمة لها أن لم تكن فعلا تتجلى فيه واقعية الشريعة، فمثلا لا يمكن اعتبار قتل النفس تعمدا تعبيرا عن الشهادة كفعل ما نطلق عليهم اليوم (بالانتحاريين) حتى وأن كان ذلك من أجل قضية ما، إذ لا يجوز قتل النفس فهو فعل خارج الاطار الشرعي، وهو يختلف تماما عن موت الإنسان شهيدا، وهو يدافع عن وطنه أو عقيدته، وحتى هذه لا تكتسب شرعيتها خارج الاطار الشرعي ونقصد به هنا النص الإلهي أو الرسالي على ذلك.
شهادة الإمام علي عليه السلام :
لقد كانت علاقة الإمام علي (عليه السلام) بالعقيدة تمثل على الدوام تجسيدا واقعيا لها حتى قال عنه الرسول الخاتم (صلوات الله عليه وآله): (علي القرآن الناطق) ومن هنا فان علاقة الإمام علي بالحياة الهدف منها أن يجعل الإنسان يتطلع للمثل العليا، وهذا التطلع يجعل التقدم ممكنا وبالتالي فأنها علاقة تحمل مفاهيم حضارية ومستقبلية، وهي تمثل أرقى أشكال (الجدل الصاعد) باعتبار أن التعبد هو عملية جدل صاعد من الإنسان لله عز وجل، ومن هنا نجده يرفض كل القوى الأخرى التي اعتبرها البعض قوة كلية في حين اعتبرها الإمام علي قوى نسبية قبال الله عز وجل. وقد تجلى ذلك مثلا في حرب صفين حين رفعت المصاحف، فقال فيها قولته الشهيرة: (إنها كلمة حق أريد بها الباطل) فهو ينظر إلى نسبية الفعل أمام حقيقة القرآن، من جانب آخر نراه ينظر إلى مفهوم الأمة في حركتها بوعيها للقرآن قبال الوعي الجاهلي، وهو يستمد ذلك من قيم الرسالة السماوية، حيث كان مشروعه يتمثل بعودة الأمة إلى نهجها الرسالي، وهو نفس مشروع ولديه الحسنين عليهما السلام.
لقد فهم الإمام علي عليه السلام الحياة باعتبارها مسيرة نحو الآخرة، ومن هنا فان انتظاره للموت كان يعتبر تكريسا تأصيليا لفعله المستمر في الحياة باتجاه الآخرة، من هنا أيضا يمكن لنا إدراك قوله منتظرا نهايته الحياتية: (متى يخرج أشقاها فيخضب هذه (اشارة إلى لحيته) من دم هذه (اشارة إلى رأسه). لاشك ان انتظار الامام علي عليه السلام ليوم شهادته كان تصديقا لقوله تعالى من سورة الأحزاب آية 23: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً)، فانتظار الإمام علي حتى تخضب لحيته بدم رأسه كان انتظارا يقينيا ناتجا عن قناعته لحقيقة الحياة باعتبار أن (الموت حق) وباعتبار ما ورد إليه من أحاديث الرسول الخاتم في موته وشهادته، وايضا باعتباره تتويجا لجهاده المستمر في ذات الله، فعلي عليه السلام كان شهيدا يسير على الأرض بين الأحياء طول حياته الأرضية، وهو كان في تطلع مستمر لحياته الأخروية من هنا اعتبر الضربة التي تلقاها رأسه الشريفة (فوزا) وبوابة لتعجيل دخوله الجنة، فتوق الامام علي عليه السلام للآخرة كان حسا يوميا، ولكنه لم يكن يستطيع ان يجعل لذلك ترتيبا زمانيا خارج إرادة الله عز وجل، وكيف له ذلك وهو الغارق في معرفة الله وطاعته.
لقد جسّد الإمام علي الشهادة بأعلى قيمها من خلال انتظاره المستمر لها، كما جسدها بعد ذلك ولده الإمام الحسين عليهما السلام في كربلاء، حتى صارت معيارا لقيم التواصل مع الله عز وجل.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat