صفحة الكاتب : السيد عبد الستار الجابري

الابتلاء ودوره في بناء الانسان ( 21 ) اقامة دولة التوحيد
السيد عبد الستار الجابري

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
 بعد اربعين سنة من التيه طُهُر المجتمع فيها من الطبقات الاجتماعية التي حملت رواسب فكرية منحرفة وأخلاقاً اجتماعية انهزامية، وانزلت التوراة لتكون دستورا للعمل ينظم حياة الفرد والمجتمع، وفي تلك الفترة تمت ازاحة الحركة المناوئة لموسى (عليه السلام)  والتي تبناها قارون الذي كان يسعى لمنافسة موسى (عليه السلام) في زعامة بني اسرائيل ويقود المؤامرات المختلفة لإثارة المشاكل المختلفة مستغلا ثروته المالية الضخمة فخسف الله به وبثروته الارض، ليكون عبرة لغيره، وفي تلك الفترة الزمنية ايضا توفى موسى وهرون (عليهما السلام)  وحل يوشع بن نون (عليه السلام) محل موسى (عليه السلام) في قيادة بني اسرائيل لتنتهي بذلك فترة اعتماد بني اسرائيل على عصا موسى (عليه السلام) والمعجزات الإلهية التي كانت توفر لبني اسرائيل متطلبات الحياة في التيه، ففترة التيه كانت فترة تربية وتأهيل لبني اسرائيل لبنائهم فكرياً ونفسياً واجتماعياً، مضافاً الى القيم الحضرية التي نشأت عليها المجتمعات المتعاقبة من بني اسرائيل في مصر والتي بالمجموع أهلتهم لإنشاء دولة التوحيد الاولى على الارض التي  لها دستورها الإلهي تشريعات التوراة لينظم علاقة العبد بربه وينظم العلاقات والروابط الإجتماعية والإقتصادية، مضافاً الى الخبرة في الجانب الإداري المستمد من التجربة البشرية في ظل الحضارة المصرية.
وبعد تأهيل بني اسرائيل اختار الله تعالى لهم الزمان والمكان المناسبين لنجاح حركتهم في بناء الدولة، فمن حيث الزمن كانت اعظم القوى التي بالشام هي الامبراطوريات الشرقية في بابل وفارس والإمبراطورية المصرية في الغرب التي بمجموعها كانت تعيش خريف حضارتها وتمزقها الحروب وتشرذمها وتضعف قوتها، ففارس وبابل كانت تعاني من الحروب الداخلية وانفصال اجزاء من الامبراطورية وهجمات القبائل البدوية التي اضعفت مركز الامبراطورية، اما مصر فان غرق فرعون وجيشه اضعف قوة مصر كثيرا، ولكن أياً من المنطقيتين لم تكن من الضعف بحيث يتمكن بنو اسرائيل من اقامة دولتهم فيها.
واما من حيث المكان فان بلاد الشام كانت هي المنطقة الرخوة التي يمكن لبني اسرائيل ان يحتلوها عسكريا لإقامة دولتهم فيها، لأن قبائل الشام كانت تارة تخضع لسيطرة الامبراطوريات الشرقية واخرى لسيطرة الامبراطورية المصرية، وفي حال ضعف القوى العظمى في ذلك الوقت تتمرد القبائل التي تسكن بلاد الشام على الدول الضعيفة، وتتناحر فيما بينها للحفاظ على استقلالها عن بعضها فلم تتوحد القوى القبلية في بلاد الشام يوماً لتكون دولة واحدة قوية في وجه الامبراطوريات الاخرى، ولذا كانت منطقة بلاد الشام هي المنطقة الاكثر مناسبة لقيام دولة بني اسرائيل، من ناحية الموازين العسكرية مضافا لما تتمتع به بلاد الشام من ثروات طبيعية وموقع جغرافي يشكل العصب الاقتصادي للدولة الفتية.
قاد يوشع بن نون (عليه السلام) بني اسرائيل وخاضوا حروباً دامية ضد القبائل التي سكنت بلاد الشام وفرضوا سيطرتهم على تلك البلاد واصبحت لهم دولة مستقلة بين الفرس والبابليين من جهة والمصريين من جهة اخرى، وكانت تلك الدولة تحكم مباشرة من قبل الأنبياء حيث حكمهم يوشع بن نون ومن بعده كالب بن يوفنا ثم الت الزعامة من بعده الى حزقيل النبي (عليهم السلام).
انحراف بني اسرائيل عن جادة الحق
يظهر من متابعة الروايات عن حياة انبياء بني اسرائيل ان إدارة البلاد بعد كالب او بعد حزقيل (عليه السلام) تم الفصل بين السلطة الدينية والسلطة الزمنية، واستمر حال بني اسرائيل على هذا المنوال حتى وقع بينهم الشقاق والصراع على السلطة وبدلا من الدولة الواحدة انشقت الدولة الى دولتين كانت عاصمة احداهما الناصرة والاخرى يهوذا، ووقعت بينهما حروب دامية وحصلت تعديات من كل من الطرفين على الاخر، وكنتيجة صراع طبيعي بين الاطراف المتنازعة كانت احدى العاصمتين ترتبط بمعاهدات مع مصر والاخرى ترتبط ببابل، وبهذا فقد بنو اسرائيل وحدتهم واصبحت دولة الموحدين خاضعة سياسياً وامنياً للدول المشركة التي تحكم مصر وبابل.
 وكنتيجة طبيعية لانفصال السلطة الزمنية عن السلطة الدينية، وعدم التزام الملوك بتعاليم الأنبياء عليهم السلام، ظهرت طبقة من رجال الدين تناغم متطلبات السلطة على الرغم من عدم انسجامها مع مقتضيات الشريعة، واصبحت للجانب الديني المتناغم مع السلطة مؤسسة ادارية شأنها في ذلك شأن المعابد في الحضارتين المصرية والفارسية، واصبح للكهنة مكانة خاصة تفرضها اجتماعياً القدسية وعملياً السلطة الحاكمة.
واصبحت المؤسسة الدينية الرسمية تعمل على حفظ الطقوس العبادية مع افراغها عن محتواها ليتمكنوا من السيطرة على المجتمع وترسيخ سلطتهم الروحية عليه.
وقد اكدت النصوص القرآنية الانحراف الفكري والأخلاقي لدى المؤسسة الإدارية الدينية، فيما تعرض الأنبياء لمختلف الوان الايذاء والاستهداف حتى قتل عدد من الأنبياء وكذب اخرون لانهم انكروا على السلطة الزمنية والزعامات الدينية تحريف النصوص والاحكام والابتعاد عن أخلاقيات الشريعة.
وكما جرى في المجتمعات البشرية الأخرى فإن العقوبة الإلهية استهدفت مجتمع بني اسرائيل بعد انحرافهم حتى فقدوا استقلاليتهم نتيجة لابتعادهم عن احكام الشريعة التي تقتضي الاتحاد والتآزر والتآخي واستبدلوها بالتفرق والتآمر والعداوة والحروب وسفك الدماء ومخالفة احكام الشريعة فضعفوا واصبحوا ممالئين للمشركين ضد اخوانهم في الدين والنسب.
والتفت بنوا اسرائيل في نهاية المطاف الى الخلل الكبير الذي وقعوا فيه نتيجة الإنحراف عن جادة الشريعة وتمكن قبائل العماليق من هزيمتهم والسيطرة على اراضيهم واستعبادهم ومصادرة اموالهم واذلالهم فطلبوا من النبي شموئيل (عليه السلام) ان ينصب لهم ملكا يقاتلون تحت لواءه لينقذهم من الذل والهوان الذي عاشوه، فاخبرهم بان الله نصب طالوت ملكا عليهم لإستعادة مجد دولة التوحيد التي اضاعوها نتيجة تفرقهم ومعاصيهم وابتعادهم عن الاحكام الالهية .
طالوت وبنو اسرائيل
ارتكب بنو اسرائيل المعاصي وابتعدوا عن ساحة القدس الالهي واتبعوا الشهوات وظلم بعضهم بعضا وخالفوا كتاب الله فتشتت امرهم وضعفت قوتهم حتى استضعفتهم القبائل التي كانت تسكن الشام واحتلت ارضهم واستعبدتهم واذلتهم.
شعر بنو اسرائيل بالخطأ الفادح الذي وقعوا فيه وعاد الى اذهانهم المجد الذي نعموا به ايام يوشع بن نون (عليه السلام) ومن حكمهم بعده من الأنبياء والملوك الصالحين، فذهبوا الى النبي شموئيل (عليه السلام) وطلبوا منه ان يعين لهم ملكاً يقاتلون تحت لوائه لإعادة سلطان بني اسرائيل الزائل، فأراد النبي شموئيل (عليه السلام) اختبار صدق نواياهم فسألهم انهم ربما ان كتب عليهم القتال ينكصون على الاعقاب، فقالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله بعد ان طردنا من ارضنا واهلينا وصودرت اموالنا وذقنا الذل والصغار، وبعد ان اطمأن شموئيل (عليه السلام) من صدق نواياهم سأل الله تعالى ان ينصب لبني اسرائيل ملكا يقاتلون تحت لوائه لإعادة مجهدهم المستلب وعزهم المهتضم، فأوحى الله تعالى اليه ان ينصب طالوت ملكاً عليهم.
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَىٰ إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا ۖ قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا ۖ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ، وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا ۚ قَالُوا أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ ۚ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ۖ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ، وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَىٰ وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)
بعد القرون المتمادية التي مرت على بني اسرائيل وزيادتهم العددية وتباين امكانياتهم المادية وثرواتهم وقدراتهم، تعددت الطبقات الاجتماعية بين الاسباط ثم تمايزت عوائل الاسباط فيما بينها وتمايزت بيوتات العوائل فيما بنيهم فغدت الطبقات الاجتماعية متفاوتة بين بني اسرائيل ولم يعودوا عائلة واحدة كما كانوا على ايام يعقوب (عليه السلام)، كان طالوت من اقل البيوت شانا على مختلف الموازين الطبقية التي كانت تحكم مجتمع بني اسرائيل في ذلك الزمن، وكان هذا السبب داعيا لإعتراض بني اسرائيل على نصب طالوت ملكاً عليهم، فإن احد اسباب الانحراف في المجتمع الاسرائيلي انهم جعلوا لمبانيهم الاجتماعية الحاكمية على واقعهم، وبدلا من ان يسلكوا السبل الموضوعية للحفاظ على كيانهم في وجه التحديات التي كانت تحيطهم خلقوا لهم وضعا خاصا نابعاً من عصبيتهم العائلية التي ادت الى انهيارهم امام التحديات التي واجهتها دولتهم في بلاد الشام.
اعترض بنو اسرائيل على نصب طالوت لأنه ليس من عوائل الملوك وليست لديه امكانية مالية عالية وهذا مؤشر على ما انطوت عليه روحية بني اسرائيل من التمرد على الأوامر الإلهية ورغبتهم في جريان الأمور حسب مشتهياتهم وهذه القضية تتعلق بالجانب القيمي لدى الانسان الذي يعتبر ان ما يتبناه هو الطريق الصحيح بلحاظ الارث المجتمعي والعائلي بعيدا عن الموضوعية ومقتضيات الصراع والسياسي والتحديات الامني والاقتصادية.
على العكس من المنهج الإسرائيلي المنحرف فالمنهج الإلهي قائم على انتخاب الشخصية ذات المؤهلات اللازمة لتحقيق الاهداف المنشودة.
كانت ظروف الانتصار تقتضي توفر ثلاث امور اساسية: القيادة الحكيمة، المقاتلين المخلصين، القضاء على جالوت. وسنتطرق بإيجاز الى هذه الامور الثلاثة.
الأمر الأول: القيادة الحكيمة 
ان اي مشروع يراد له النجاح من الضروري ان توجد شخصية او مجموعة اشخاص يكون لهم دور دراسة الموضوع الذي يواجهونه لتحديد الخطوات التي يجب اتخاذها في سبيل الوصول الى  الغاية وتحقيق الهدف المنشود، وفي موردنا كانت هناك عدة عناصر على الارض لابد من احاطة القائم على المشروع بها وان تكون له القدرة على تشخيص السبل الكفيلة باستنهاض الطاقات وتجاوز الصعوبات، ومورد البحث فيه ثلاث جوانب مهمة:
أـ مجتمع بني اسرائيل الذي يطلب بعض ابنائه اعادة المجد الذي اسسه موسى (عليه السلام) وبناه يوشع بن نون (عليه السلام) وخسروه بسبب تمزقهم وتشتتهم، وهذا المجتمع فيه شخصيات انهزامية واخرى اتكالية وثالثة متكبرة ورابعة مضحية ومتفانية.
وهذا الواقع الاجتماعي اذا حضر بمجموعه غير المنسجم ساحة القتال فمن المؤكد ان الهزيمة هي نصيبه الحتمي، فمن الضروري غربلة هذا المجموع لاستخلاص المضحين والدخول بهم الى ساحة المعركة من دون اثارة حساسية بقية اصناف المجتمع التي اشرنا اليها، لان اثارتهم تعني خلق مشاكل كبيرة تؤدي الى زعزعة الوضع العام وانهيار جبهة بني اسرائيل الداخلية قبل دخول المعركة.
ولذا لم يصرح طالوت بأي شيء من شأنه ان يفت في عضد قواته حتى وصل الى نهر يفصل بين قواته وقوات جالوت، فأخبر قواته ان الله تعالى مبتليهم بنهر فمن شرب منه فليس له الحق في البقاء في جيش طالوت وعليه ان يعتزل، كانت هذه التوصية برزخا فاصلا بين المضحين وغيرهم من اصناف مجتمع بني اسرائيل، اذ شرب غالبية الجيش من النهر حتى الارتواء فإعتزلوا جيش طالوت وبقي فيه المخلصون المضحون الذين نذروا ارواحهم رخيصة لإعادة الحياة الحرة الكريمة لقومهم في ظل النبي شموئيل (عليه السلام) والملك طالوت.
وهنا تتجلى حكمة طالوت في قيادة جيشه اذ اختار الاختبار المناسب لهم والوقت المناسب الذي فوت على المشاغبين من بني اسرائيل فرصة تمزيق الصف وانتخب الافراد الصالحين لخوض المعركة ضد جيش قوي يقوده ملك جبار.
(فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ ۚ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ۚ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ ۚ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ)
ب ـ العمالقة وقائدهم جالوت
سكن العمالقة بلاد الشام قبل ان يهاجر اليها بنو اسرائيل من مصر، وبعد هجرة بني اسرائيل من مصر خاضوا حروبا طويلة ضد القبائل التي كانت تسكن الشام ومن بينها قبائل العمالقة والكنعانيين وتمكنوا من الانتصار عليهم واقامة اول دولة تجمع بين القانون الالهي والسلطة الزمنية بعد ان تحول مجتمع بني اسرائيل الى مجتمع عقائدي نتيجة التأديب والتأهيل والتزكية التي عاشوها اربعين سنة في التيه.
وبعد ان ضعفت قدرة بني اسرائيل نتيجة الصراعات والانشقاقات الداخلية تمكن العمالقة من قهر بني اسرائيل والسيطرة على ارضهم وطردهم منها واستضعافهم.
كان وجود الملك جالوت احد عناصر قوة العمالقة، اذ كان جالوت يتمتع بقدرة عسكرية عالية وشجاعة فائقة وقوة جسدية مكنته من إدارة الصراعات المسلحة بنجاح فحقق انتصارات كبيرة في جميع المعارك التي كان يخوضها ضد اعدائه، ولذا كان قتل جالوت هدفاً اعلامياً مهماً وله اثر نفسي بالغ يمكن ان يحقق كسباً عسكرياً في غاية الاهمية لجيش طالوت، ولذا كان لابد لطالوت من اعداد قوة تتولى تلك المهمة للإسراع في كسب المعركة واستثمار نتائجها .
ج ـ اقامة دولة بني اسرائيل
كان طلب المجتمع الاسرائيلي من النبي شموئيل (عليه السلام) اعادة دولة بني اسرائيل التي كان يحكمها ملك منهم وفي ربوعها تنتشر دعوات الأنبياء وتعاليمهم، ولذا لم يكن الامر الذي يواجه طالوت مسألة الانتصار على جالوت والعماليق، بل الهدف الاساس اعادة بناء دولة بني اسرائيل ولذا كان عليه ان يحفظ توازن القوى المجتمعية لبني اسرائيل بعد ان يحقق الانتصار العسكري على العماليق، ومن هنا كان عليه ان يستعين بمستشارين مخلصين يعملون على بذل النصيحة بما يعود بالخير على المجتمع في وضعه الداخلي بعد عودة سلطانهم وحماية حدود دولتهم من الاخطار التي تواجهها، وقد ادار طالوت بحكمته الدولة الجديدة إدارة جيدة تمخض عنها تهيئة المجتمع لقبول إدارة داود (عليه السلام) للبلاد بعد طالوت، ليعود بذلك اجتماع النبوة والملك في شخصه.
الامر الثاني: المقاتلون المخلصون
من الطبيعي في قوانين الحرب ان القيادة الفذة لوحدها لا يمكن ان تحقق النصر في ساحة المعركة، اذ تحقيق النصر موقوف على القيادة الفذة والمقاتلون المضحون المخلصون المطيعون لقيادتهم، فما لم يكن الجنود مخلصين لقيادتهم مطيعين لها لا يمكن ان يتحقق النصر في ميدان الصراع، وابرز الشواهد على ذلك معركة احد التي خاضها المسلمون بقيادة النبي (صلى الله عليه واله) ضد مشركي قريش فالنصر كان حليف المسلمين في بداية المعركة ولكن مخالفة الرماة لأوامر النبي (صلى الله عليه واله) مكن خالد بن الوليد وخيالة المشركين من الالتفاف على جيش المسلمين وبالتالي خسارة المسلمين المعركة واستشهاد سبعين منهم وفرار المسلمين من ساحة القتال تاركين النبي وامير المؤمنين (صلوات الله عليهما والهما) وحيدين في ساحة المعركة، وتكرر الحال في معركة صفين ايام الخلافة الزمنية لأمير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام).
ولذا كان من الضروري تشخيص الافراد الذين جعلوا انفسهم قرابين للدفاع عن الامة وهؤلاء هم من يستند اليهم ويتكأ عليهم لبناء مستقبل الامة والدفاع عن امنها، والا فان المجتمع الاسرائيلي سبق له ان تعاطى بانهزامية عندما طلب اليهم موسى ان يدخلوا الارض المباركة التي وعدهم الله تعالى انها لهم ولكنهم تخاذلوا وجبنوا وقالوا ان فيها قوما جبارين، فعاقبهم الله تعالى بان تاهوا اربعين سنة حتى زالت الاجيال الانهزامية وتبدل المجتمع الى مجتمع اخر في قيمه وأخلاقياته.
وجود صفة الانهزامية في مجتمع بني اسرائيل استدعت طالوت الى تمييز افراد جيشه كي لا يخوض معركة خاسرة بسبب عدم انضباط جنوده او عدم اخلاصهم للقضية التي يقاتلون في سبيل تحقيقها، نصت جملة من الروايات ان جيش طالوت كان يضم ثمانية عشر الف مقاتل، وبعد ان اخبرهم طالوت ان من يشرب الماء ليس له الحق في الاستمرار في البقاء في صفوف جيشه شرب منهم اربعة عشر الفاً حد الارتواء وبذلك انسحبوا من جيش طالوت وبقي معه اربعة الاف فقط، وفي هذا دلالة على ان الجيش لو دخل المعركة بمجموعه الذي كان عليه قبل شرب ماء النهر لكانت الهزيمة هي النتيجة الحتمية للمعركة، ذلك لأنه سيخوض المعركة بروح انهزامية مع ما لجيش جالوت من سمعة عسكرية فهو الجيش الذي حقق مع قائده الانتصارات تلو الانتصارات، فخوض معركة غير متكافئة من ناحية الجانب النفسي للمقاتلين واخلاصهم لقضيتهم ستكون نتيجتها الهزيمة لا محالة.
وهكذا كان شرب ماء النهر هو المائز الذي لا يقبل الشك فمن شرب من النهر عاد ادراجه ومن اغترف غرفة بيده استمر في مسيرته في سبيل تحقيق اهدافه التي يؤمن بها في اعادة سطوة دولة التوحيد وتحرير بني اسرائيل من الذل والهوان الذي يعيشوه، فعبر اولئك المؤمنون المخلصون المضحون النهر واستعدوا لبذل النفوس رخيصة في سبيل القضية التي يريدون خوض الحرب لأجلها.
ومن هنا يتبين ان الذين عبروا النهر مع طالوت كانوا مشاريع استشهاد في سبيل قضيتهم، وهذه الروحية لا تتحقق عند كل احد، وهذا المعنى الاستشهادي كان هو السبب في فشل العدد الاكبر من جيش طالوت في تجاوز الاختبار الذي تعرضوا له، فما قام به غالبية جيش طالوت ناشئ من التمسك بالحياة الدنيا وملذاتها وان كانت على حساب القيم والمبادئ والأخلاق والعزة والكرامة. 
الامر الثالث: قتل جالوت
كان جالوت شخصية مهمة وقائدا عسكرياً لا يشق له غبار، وكان اذا اشتد وطيس الحرب يخوض في اوساط جيش اعدائه وكان يقود قواته من نصر الى نصر، فكان وجوده عنصر قوة نفسية لقواته وعنصر مهم لفرض هيبة السلطة على المجتمعات الخاضعة لسلطانه، ولذا كان القضاء على جالوت في المواجهة الفاصلة مسالة في غاية الاهمية في المواجهة الاولى بين جيش طالوت وجيش جالوت.
وفي سبيل تحقيق الغاية والارادة الالهية اختار الله تعالى داود (عليه السلام) للقضاء على جالوت ومهد لداود (عليه السلام) سبل القضاء عليه.
وعند النظر في مجريات الحرب بين الجيشين نجد ان ليد الغيب الدور الكبير في تحقيق النصر لبني اسرائيل ذلك لان:
أـ ان الله تعالى عين الشخصية المؤهلة لقيادة بني اسرائيل في هذه المرحلة على اساس كفاءته العلمية والجسدية.
ب ـ حدد الشخصية التي يتوجب عليها استهداف جالوت استهدافاً مباشراً والقضاء عليه وهو داود (عليه السلام) .
ج ـ رسم لطالوت الآلية المناسبة لإبعاد العناصر الانهزامية والانتهازية عن جيشه والتي حققها في قضية الاختبار بالشرب من ماء النهر.
لمتابعة مقالاتنا على التلكرام يمكن الانضمام عبر الرابط                                                                                                                                                                                                              https://t.me/abdulsettarquranstudys

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


السيد عبد الستار الجابري
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2021/06/28



كتابة تعليق لموضوع : الابتلاء ودوره في بناء الانسان ( 21 ) اقامة دولة التوحيد
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net