صفحة الكاتب : علي جابر الفتلاوي

( لكن السدرة كانت تعرفه ) للاديبة سنية عبد عون رشو سياحة (2) في (غريّد القصب )
علي جابر الفتلاوي

 ( لكن السدرة كانت تعرفه ) احدى قصص المجموعة القصصية الرائعة للاديبة المبدعة سنية عبد عون رشو ، اخترت هذه القصة كأول قصة اعيش في اجوائها وعالمها ، لاحساسي بوجود خصوصية فيها ، اذ استشعرت ذلك من خلال كلمات الاهداء ، حتى توفر مؤشر اخر اثبت صدق احساسي ، قرأت القصة اكثر من مرّة  ابهرتني وآلمتني ، ابهرني اسلوب المبدعة سنية ، ودقة اختيارها للكلمات المعبرة والمؤثرة التي تحس بحرارتها ووجدانيتها ، وجمالية الصور التي ترسمها ، انها موهوبة حقا حفظها الله تعالى ورعاها ، شعرت بالالم من خلال احداث القصة ووقائعها ، عشت مع بطل القصة ( ماجد ) ايام القسوة والشقاء والآلام والمعاناة  القصة تحكي عن ايام القهر الصدامي في العراق ، ايام الحرمان ومصادرة الحريات وقمع الفكر الحر ، وقتل الاراء في مهدها .
(سرق الليل رغيفي
انبجس الفرات خجلا
صرختي في الارجاء .. ماتت
حمل المشيعون ارواحهم
يطوفون..في الدروب والمعابد )
يالها من صدمة قاسية ، اعانك الله تعالى ايها المحب لماجد والذي تربطك به علاقة خاصة وحميمية ، اذ تلقيتَ خبر استشهاده بألم وقسوة ، كان ماجد مصدر عيش هذا المحب ، حتى تخيل نفسه باستشهاد ماجد انه اصبح تائها من غير مورد رزق  الرغيف هو ماجد ، الرمز له بالرغيف لان ماجد مصدر عيش هذا النائح ، والليل رمز لليد الاثيمة التي سرقت روح ماجد وقتلتها ، لقوة الصدمة تخيل النائح المتعلق بماجد روحيا ، ان الطبيعة اعلنت حزنها وخجلها وغضبها من هول الجريمة  لدرجة ان الفرات انفجر وفار خجلا ، وماتت صرخة هذا الموجوع بماجد في الفضاء الذي يستقبل كل الصرخات بما فيها صرخات احباب ماجد ، كلها تموت في فضائه اللامتناهي ، احباب ماجد من ذويه واصدقاؤه واهل منطقته حملوه على الاكف وهم يطوفون به ، في الازقة والحسينات والجوامع وتكاد ارواحهم تطفر من مكامنها لفرط الصدمة .
مشاكل ماجد في الحياة كثيرة منها بيتية واخرى خارجية وهي المقلقة والمؤذية  معاناته مع زوجته ابنة عمته التي تكبره سنا ، اذ التقاليد العشائرية والمحلية اجبرته على الزواج منها ، الزواج غير المتكافئ بين الزوجين شائع في العراق ، عدم التكافؤ بين الزوجين في المستوى الثقافي والمعرفي يسبب مشاكل كثيرة بين الاثنين ، قد تؤدي الى الطلاق ، او الى سلبيات اخرى كبيرة ، ماجد من النوع الذي مرّ بهذه التجربة ، فهو رجل مثقف وسياسي ، ومتابع لتطوير حالته الثقافية ، مستمر في قراءة جريدته اليومية ، ولا ادري هل هو متابع لقراءة الجريدة الممنوعة للحزب الشيوعي ( طريق الشعب ) لان الحزب الشيوعي كان الحزب السياسي الوحيد الذي استمر في اصدار جريدته بشكل خفي ، ام يقرأ جريدة النظام لغرض الاطلاع والمتابعة وهي جريدة ( الثورة ) ، على أي حال كان ماجد متنوع الثقافة ، رغم الحصار الشديد المفروض على الثقافة والمثقفين ( لا يغادر بيته مساء ليكتفي بالقراءة لم يكن يبغي تنوع ملبسه او لذيذ طعامه بل اطباقا متنوعة من المعرفة فهي زاده وعشقه في صحراء ايامه ) .
زوجته وهي تراه بهذه الحالة ، تعطف عليه تخشى ان يصيبه مكروه ، ووفق قياساتها تعتبره في حالة غير طبيعية ، فتلجأ الى وسائلها الخاصة والساذجة لمعالجة حالته تبخر له البخور وعادة يكون عند الغروب او في الصباح قبل الشروق ، هذا هو التراث الشعبي ، فالبخور في هذه الاوقات يدفع الحسد والعين ويشفي من الامراض هو يتقبل هذه الحالة ، لانه يعرف المستوى الثقافي لزوجته ( تحمل زوجه بخورها وتعويذاتها معتبرة انزواءه حالة من الجنون .. لم يكلف نفسه عناء الشرح والتوضيح فهي ترفل بعالم اميتها المفرطة ) .
هذه الزوجة البسيطة التي تسبب له النكد احيانا ، فيكتم ضيقه وتضجره منها ، فاجأته مرة في موقف بطولي ، اعجبته كثيرا ووقعت في عينيه موقعا حسنا ، شاهدها وهي تقف بصلابة بوجه جلاوزة النظام الذين جاءوا لاعتقاله ( تصدت لهم زوجه بشجاعتها التي اثارت اعجابه لاول مرة فقد شعر بحرقة قلبها من اجله ..!! ) وهذا هو الوفاء من كل امرأة عفيفة شريفة ، انها في عطاء دائم بأي مستوى كانت ، زوجة ماجد خلّفت ثلاثة صبية ، كان الصبية يشيعون الفرح والسرور في نفسه ، خاصة ابنته الصغيرة ( صاحبة الشعر الطليق ) ، حركة الاطفال وتصرفاتهم تنسي الهموم وتهوّن من المصائب ، والدته متمسكة بتقاليدها والتزاماتها ، تنظر اليه بعطف وحنان تتمنى له السعادة ، وفي حساباتها ان سعادته في تنفيذ وصية والده للزواج (من ابنة عمته التي تكبره باعوام .. فكان لها ما ارادت ..!!) ، لم يكن راغبا بالزواج منها  لان قلبه كان في مكان اخر ، احب فتاة رفض اهلها تزويجها له ، كونه سياسيا مطاردا من السلطة الجائرة ، ولا يريدون التضحية بمستقبل ابنتهم ، الخوف من المستقبل ونتائجه كان السبب ، هذه النتيجة التي سببت الالم لماجد ، اراحت امه التي تخطط لزواجه من ابنة عمته ،ووفق منظورها البسيط ان هذه الخطوة هي في صالحه ومصلحته ، هذا هو حنان الامومة ، وهذه التقاليد والعادات العشائرية التي تعتبر الزواج من الاقارب مقدسا ، بل تعتبر زواج ابنة العم من الغريب اهانة لابن عمها وللعشيرة عليه لابد من النهوة ، او تهديد الخاطب الغريب بالقتل ، عادات اجتماعية متخلفة ارى ان مجتمعنا بدأ بتجاوزها ، واصبحت من الماضي ، ربما الا في بعض المناطق المغلقة اتي لازالت اسيرة العادات القديمة التي لا تتناسب والعصر الحاضر.
 ماجد رجل سياسي مثقف ، ماذا نتوقع موقف السلطة البعثية الدموية منه ؟
من خلال معرفتنا بطبيعة النظام الدكتاتوري ، انه لا يطيق تحمل ماجد ، ولا يتحمل أي انسان مثقف او صاحب فكر ورأي ، وهذه طبيعة النظم الدكتاتورية ، فالحريات مصادرة والرأي ممنوع ، والقتل لمجرد التهمة مباح ، اذن لا نفاجئ عندما تدبر السلطة الظالمة محاولة اغتيال لماجد رغم انه ( يفضل الانزواء عن عيون مراقبيه التي زادت حدتها في الاونة الاخيرة ..) ، كونه مصنف في حسابات النظام على جهة سياسية ، لان جميع المثقفين واصحاب الرأي والفكر يحسبون ايام النظام المندثر  اما على الحزب الشيوعي ، او على حزب الدعوة الاسلامية ، حتى وان كانوا غير منتمين ، لانّ هذين الحزبين هما الوحيدان  في ساحة المعارضة ، انه لا يروق للبعثيين وهم يشاهدون ماجد مرحا وسط اصدقائه  يمارس حياته الطبيعية .
بين صحبه جالس عند الفرات
في ظل سدرة عجوز حنون
انه ابن البيئة الفراتية الجميلة الاصيلة ، جالس ( في ظل سدرة عجوز حنون ) تعبير جميل ورائع من اديبة مبدعة يعطي ايحاءات كثيرة ، منها ان الاديبة شبهت السدرة بالمرأة العجوز التي تعيش مع اجيال عدة ، وهذه كناية عن السدرة ( شجرة النبق ) بانها قديمة وعايشت اجيال كثيرة ، ثم اضافت المبدعة سنية كلمة ( حنون ) ، لتعطي حيوية وحركية اكثر ، لان السدرة لم تحتضن ماجد فحسب بل هي رمز شامخ احتضن شباب منطقة ماجد ووفرت لهم الحنان بافيائها الواسعة ، لانها كبيرة السن فلابد ان تكون كبيرة الحجم ايضا ، اختيار السدرة من الاخت سنية لم يكن صدفة ،في رأيي هناك سببان للاختيار الاول وجود السدرة فعلا في منطقة ماجد وعلى شاطئ نهر الفرات وهي قديمة تسبق ربما حتى وجود ماجد ، وثانيا لان السدرة  جزء من المروث الشعبي ذو الصبغة الدينية ، فاختيار السدرة اختيار بارع وموفق ، السدرة في موروثنا الشعبي رفيقة العمر في الحياة والممات ، تحتضن احبابها بأفيائها في حياتهم ، وتهبهم ورقها حين مماتهم علامة الوفاء للصديق والعزيز ، لا احد منا لا يحتاج لورق السدر عند موته وتغسيله قبل الدفن .
اه ايتها السدرة رفيقة الانسان عند الحياة حيث عطاؤك الكبير الثمرالنافع ( النبق ) الذي يطهر الفم عند اكله ، هكذا موروثنا يقول ، والالتجاء الى افيائك الحنون   ورفيقة الانسان عند الممات .
 اه ايتها السدرة كم تودعين من الاحباب وكم تستقبلين وانت باقية شامخة بوجه العواصف والرعود ، وترقص اغصانك لنسيمات الهواء العليلة ،ولا اظن ان صدام وازلامه قد ابقاك حية ترزقين ، لان صدام وازلامه عدو للحياة ، عدو الانسان والحيوان والنبات ، كان صدام يخشى حتى من الشجر والنخيل ، لذا مارس عنفه ضدها وقلعها من الجذور اثناء الحرب العراقية الايرانية حيث اباد نخيل البصرة  وفي الانتفاضة الشعبانية حيث اباد الشجر والنخيل في الوسط والجنوب ، نعم لانه عدو الحياة .
اه ايتها السدرة ،لا اظن ان صدام قد تركك تنعمين بحياتك وانت صديقة ماجد ترعينه كالام الحنون ، انت خيرشاهد ايتها السدرة كيف تعامل جلاوزة صدام مع ماجد انت شاهدة في الدنيا وشاهدة في الاخرة ، لن يتركوه يعيش ما دام ماجد انسانا مثقفا واعيا ويتمتع بعزة النفس ( الرقباء حوله مثل اعمدة الكهرباء ) كناية على انه مراقب ليل نهار، رجال الامن اشبه باعمدة الكهرباء لا يتركوه حتى ولو لساعة واحدة ، داهموا داره واعتقلوه ، بالنسبة اليه ( تعود دخول السجن وخروجه.. ) يردد مع نفسه ( انا ذاهب لصومعتي ، انا ملك الملوك ، king of kings ( ترجمة عبارة ( ملك الملوك ) الى الانكليزية اشارة الى ثقافته الواسعة .
المؤشرات هذه المرة تقول ان لاعودة  لماجد الى البيت ، انها رحلة الوداع الاخير تساقط الشهب في المروث الشعبي والديني نذير شؤم ، وهل توجد جريمة اكبر من جريمة القتل ظلما ، لا يوجد جريمة اكبر من جريمة سلب الحرية وقتل الحياة من دون وجه حق ( مرت ليال زاد فيها تساقط الشهب عن المألوف ..) ليلة كئيبة تلك الليلة التي غُيب فيها ماجد عن الحياة ، كلها مؤشرات تشاؤمية تنذر بوقوع شئ غير طبيعي  وخارج السياقات ، اخيرا وصلت بطاقة الموت لماجد ، الموت الصدامي القهري الذي حصد ارواح المئات من ابناء العراق الشرفاء ، احدهم ماجد الذي ظُلم كما ظُلم الاخرون ،وبعد استشهاد ماجد على يد زمرة صدام ، اقترف صدام عام 1991 اكبر جريمة في التأريخ الا وهي جريمة المقابر الجماعية ، وبضوء اخضر من امريكا ومحور دول الخليج الطائفية المتخلفة ، الالاف من ابناء الشعب العراقي قتلوا او دفنوا احياء في المقابر الجماعية الذي يدعي بعض السياسيين البعثيين اليوم  انهم جنود فارون من الحرب العراقية الكويتية ،اثناء التدخل الامريكي العسكري لاخراج قوات صدام من الكويت ، المئات من النساء والاطفال والرجال المسنين اضافة للشباب يعتبرهم البعثيون فارون من الخدمة العسكرية ، هكذا يتكلمون دفاعا عن صدام وجرائمه ، هؤلاء السياسيون اليوم هم من يريد الامريكان والمحور الخليجي اشراكهم في العملية السياسية الجديدة في العراق ، اما بطلنا ماجد فقد وصلت اليه بطاقة الموت ( تدعوه لحفلة راقصة .. اختلطت فيها اكاليل الزهور ) باقات الزهور استقبلت نعشه ، استقبلته الجماهير ب ( رقصات الموت الجماعية اداها جمع غفير من اصدقائه ذوي السحنات الوسيمة ) .
دخول اجباري قهري في ( جوف السعلاة ) انه تابوت الموت ، السعلاة في الاساطير تبتلع من تصل اليه ، وسعلاة صدام ابتلعت ماجد وابتلعت الكثير من ابناء الشعب العراقي الاوفياء ، استخدام لفظة ( السعلاة ) كرمز للموت استخدام للاسطورة في عمليات ابتلاع الحياة من قبل صدام  ويؤشر على ابداع وامكانية الكاتبة الكبيرة الاخت سنية عبد عون رشو ، انها اجادت السبك وصياغة الكلمات بشكل بديع ومؤثر تجعلك مرغما لقراءة القصة والاستمتاع باحداثها وهي تعيدنا الى اجواء وايام النظام المندثر ، لتحيي فينا روح المحبة للشهداء الذين ضحوا من اجل وطنهم وشعبهم  وتذكرنا بجرائم النظام البائد التي لا يمكن ان تنسى ، ادعو لاديبتنا الرائعة بالموفقية  ونتمنى لها المزيد من الابداع .
 علي جابر الفتلاوي


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


علي جابر الفتلاوي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2012/04/04



كتابة تعليق لموضوع : ( لكن السدرة كانت تعرفه ) للاديبة سنية عبد عون رشو سياحة (2) في (غريّد القصب )
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net