صفحة الكاتب : محمد جعفر الكيشوان الموسوي

لا تسخر من الآخرين وإن كنتَ سيدهم
محمد جعفر الكيشوان الموسوي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

من أشد قبائح الأفعال التي اعتاد بعض الناس على الجهر بها هي السخرية من الآخرين بسبب او دون سبب، لا لشيء أبدا إلاّ اللهم لسدِّ النقص في الشخصية المنبوذة إجتماعيا. ولهذا النقص أسبابه والعوامل المساعدة في نشأته والتي ربما نتوفق للكتابة عنها لاحقا بإذن الله تعالى. يسخر من كل أحد ومن كل شيء، لا يردعه رادع ديني أو أخلاقي، ولا يشعر بالإثم وتبعاته المخزية في الدنيا والآخرة. هذا النوع من البشر لا يستحي من الله خالق كل شيء. ولا يستحي من الناس الذين يسخر منهم ليرضي غروره (الزائف)، فهو يتصنع الغرور والكبرياء لإنكسار في النفس يعرفه قبل غيره كشعوره بالدونية وانه من المنبوذين. يسخر من جاره الشيخ الكبير كما يسخر من الطفل الصغير، يعيب على المريض المبتلى مرضه وعلى الفقير الصابر فقره وربما رأيته يوما يسخر من خرير الماء وحفيف الشجر. يبدأ مشواره كهاوٍ (يسخر من الناس) ليضفي جوّ المرح والبشاشة ويرسم الإبتسامة المريضة على شفاه من يجالسه (أمثاله)، ويستمتع بسقطات لسانه وهو ينال من الحاضرين والغائبين على حدٍّ سواء. يتدرج في المهنة ويتقدم بسرعة نحو قمة هرم السقوط في الرذائل والموبقات من قول وفعل وعندها تكون العاقبة غير سارّة  والاضرار جسام. فكلما كان السقوط من شاهق مرتفع فإن شدة ودرجة الإيلام تكون أكبر والتشافي من تلك الكسور والإصابات يأخذ وقتا أطول وربما يصاب بعاهة او تشوه لا ينفع معه أي دواء كيميائي او فيزيائي نستجير بالله.  أحيانا كثيرة يشعر أمثال هؤلاء بالحرج الشديد وعدم الإرتياح من إهمال الآخرين لهم عندما يكونون معهم في مجلس ما ـ مهما كان ذلك المجلس ـ. مثلهم كمثل الذي يزاحم المصلين في الصف الأول ليكون من جملتهم ويكسب انظار الآخرين له وقد نسي ان الله تعالى لا ينظر إلى الصفوف وانما ينظر إلى القلوب. ما فائدة الصلاة في الصف الأول والقلب مدبر عن الخالق السبحان ومشغول في ان يراه وفلان وفلان. شاهدت أمثال هؤلاء وكيف يتصنعون الخشوع وهم يقفون في الصف الأول وقد إنحنت ظهورهم وإحدودبت من شدة خشوعهم في الصلاة ـ رياءً ـ . قلت لأحد المحترمين يوما : قف مستقيما وليكن قلبك منحنيا خاشعا لذكر الله، هزته تلك الكلمة وراجع نفسه واصبح من خيرة مَن أعرف وأكثرهم تواضعا، وكم سألت الله التوفيق لخدمته عسى ان يكفر سبحانه عني تبعات ذلك الموقف الذي كنت فيه أنا الناصح وهو المستمع. فكم من ناصح ـ مثلي ـ لم يعمل بما يعلم وإن قلّ ما يعلم. وكم من مستمع جليل عمل بما كان غافلا عنه سهوا أو عمدا فأصبح مشرقا بنور الإيمان.

بائع الخضار المحترم.. قصة وعِبرة!!

القصة..

كان الحر شديدا ذلك اليوم من شهر تموز حتى أن بعض الطيور كانت تهوي وتسقط أرضا شبه خامدة وعيونها تدور يمينا وشمالا أملاً في أن يشفق عليها بعض بني البشر بقليل من الماء أو يسعفها بأن يحملها إلى الظل. في تلك الاثناء كنت واقفا لأشتري بعض عناقيد العنب من بائع إستأجر مترا مربعا واحدا فقط من صاحب مقهى للشاي والقجرات (الشاي الأحمر) وقد عرض بضاعته التي كانت قفتين من العنب وقفة من التوت وكان ينادي المارّة ويعرض عليهم ان يتذوقوا التوت الذي يسميه (تكي أبو علي يخ يخ ) وكلمة يخ بالفارسية تعني الثلج. كان رجلا متعبا من شدة الفقر ومن شدة الحر فقد نالت منه أشعة الشمس المحرقة وجعلته يمسح عرق جبينه بأذيال ثوبه ثم يغمض عينيه ويرفع رأسه إلى السماء وبعدها يعود لمناداة المارة : تكي أبو علي يخ يخ. مرّ بنا شاب مفتول العضلات وهو يعبث بأنفه بشكل مقرف فخاطب ذلك البائع الكادح بإستهزاء وسخرية : "بيش العنب يا أعرج "؟ قالها وهو ينظر إليّ خلسة ليقرأ قسمات وجهي أو لربما كان يفكر بأن (يسلخني) بواحدة من سقطات لسانه. أهملته وقلت لصاحب العنب والتوت : من فضلك سيدي ناولني كيسا اضع فيه العنب لو سمحت. نظر إليّ ذلك الشاب الصلف وقال دون مقدمات : إذا كان هذا سيدك فمن يكون من هو دونك؟ قلت : لا أحد دوني فأنا أقلّ الناس بلا منازع. إنصرفت وقد تألمت كثيرا لحال ذلك البائع الكادح الرجل الستيني فقد كان منظر الدموع في عينيه واضحا جليا لذي عينين مبصرتين " فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ". كما اني تالمت اكثر لمرض ذلك الشاب المغرور، لم يكن واعيا وهذا يعني انه يعاني من مرض الجهل والتخلف فهو لا يرى إلاّ العتمة والظلام.

العِبرة..

بعد مرور خمس سنوات هالني منظر ذلك البائع الكادح عندما مررت به. بدا لي أصغر سنا مما كان عليه قبل خمس سنوات وآثار النعمة ما شاء الله ظاهرة عليه لكنه ازداد تواضعا وكأنه يعرف ان الله تعالى يريد ان يمتحن قلبه في الفقر والغنى فكان الرجل واعيا لتقلبات الدنيا وصروف الدهر. حييته فعرفني وقال : (ما شفناك من زمان حجي)؟ قلت : حرمني من رؤية وجهك المشرق سوء توفيقي. ثم أدرا رأسه ناحية رجل شبه منحني الظهر عليه آثار الإنكسار وقال : هل تعرف هذا المحترم؟ قبل أن أجيبه هرع ذلك الرجل مسرعا وإحتضنني وهو يقول : سامحني حجي. عرفته من نبرة صوته فقلت له : سامحناك في وقتها ودعونا لك بالهداية والحمد لله على إنتبهاك من الغفلة والسهو.

القصة بإختصار شديد:

كان ذلك الشاب المغرور يشعر بالدونية والحقارة منذ الصغر فقد كان موضع إستهزاء الآخرين عندما يتكلم، كما أنه لا يسلم من سخريتهم حتى حينما يجلس كالخشبة لا يحرك ساكنا فقد كان محبطا في كل الأحوال، حتى عندما يشكو أمره لوالده كان هو الآخر ينال منه بطريقة أشد قسوة من أولئك الصبية أترابه، فنشأ منكسرا ليس امامه (في نظره) إلاّ ان يحذو حذو أولئك الذين ما إنفكوا يسخرون منه ليدفع عن نفسه الحرج والتلكأ في المجالس. إبتدأ بتلطيف الأجواء (وهو المحطم المنكسر داخليا) ليلفت إليه الأنظار ويكون نجم الجلسة او المجلس.. وكما أسلفنا أنها البداية المشتركة لكل أولئك الذين يسخرون من الآخرين ثم يكون التدرج نحو الإحتراف وبعدها يكون الهلاك والسقوط مع غياب الواعظ الناصح والمصلح المرشد. يسترسل الشاب في سرد قصته : كم كنت سيئا وقتها عندما تطاولت عليك دون سبب مجرد انك ناديت بائع الخصار بسيدي.. وكم كنت عنيفا عندما ناديت صاحب الخضار بـ (الأعرج)!!! وكم من المواقف المخزية لي مع أناس محترمين كنت أضعهم مادة لسخافاتي وجهالاتي وكم وكم ... الكل كان يخشى لساني فقد كان مدرَبا ما فيه الكفاية على النيل ممن يقع نظري عليهم فقد كان اللسان السليط هو سلاحي الفتّاك. تلك المرّة التي لم تلاسني فيها وقلت لي بأنك أقلّ الناس شعرت بأن شيئا من داخلي قد تحرك وبدأ يوقظني من غفلتي وسهوي. عدتُ (الكلام للشاب) لصاحب الخضار أرجوه ان يسامحني وسألته عنك فقال لي هذا الحجي قد سافر ولا ادري متى يعود ثم طلبت منه ان أكون في خدمته وأشتغل معه فوافق وكان كريما معي حيث جعلني شريكا له فيما يملك ـ على قلة ما يملك ـ .

ذات ليلة..

الحديث لا زال للشاب :

أسبغت الوضوء وفرشت مصلاي في جوف الليل وأحضرت قلبي وصليت ركعتين إثنتين لقضاء حاجتي قربة لله تعالى. وبعد الإنتهاء من الصلاة سجدت لله شاكرا على حسن صنيعه وإحسانه لي وقد هداني لم فيه حياتي ونجاتي وطلبت منه حاجتي:

إلهي هذا الرجل بائع الخضار قد أكرمني بأن جعلني شريكا له في ماله وهو بالكاد يكفي لحاجة عياله فأسلك وأنت أكرم الأكرمين وأنت الغني الحميد ان توسّع علينا من خيرك ورزقك فقد أتيك بطلبتي يا سيدي وأنت خير مأتي ورجوتك ولم ارجو غيرك وأنت خير مرجوّ فلا تردني خائبا ولا يائسا ولا محروما يامن لا يرد من سأله ولا يخيب من أملّه يا الله. لم تمض سوى أسابيع حتى تمكن بائع الخضار ان يشتري ذلك المحل الذي قد استأجر منه مترا مربعا واحدا فقط وأن يشتري بعد سنة بيتا واسعا كما انه زوّج ذلك الشاب من إبنته وأصبح بمقام إبنه وفي خدمته.

تعليق..

حذار حذار من الإستهزاء بالآخرين فلا تدري نفس ما مصيرها غدا وما يُفعَلُ بها بعد غد وما هي صائرة إليه بعد بعد غد. هذه قصة واحدة مختصرة عشت فصولها كاملة وقد إختصرتها دفعا للملل. لنتقِ الله في أضعف خلقه كما أننا نهاب أكثرهم جمعا وقوة ومالا وولدا. إتق الله وتواضع لنملة!


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


محمد جعفر الكيشوان الموسوي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2021/07/19



كتابة تعليق لموضوع : لا تسخر من الآخرين وإن كنتَ سيدهم
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net