صفحة الكاتب : زينب العارضي

زمزمُ قصةُ حُبٍّ
زينب العارضي

 هي ليستْ قصةَ عينِ ماءٍ تنبع، بل قصةُ إيمانٍ يتألّقُ في الأرواحِ فيسطع، يُخلِّدُ ذكرى امرأةٍ رساليةٍ كانتْ رفيقةَ دربِ المحنةِ الإبراهيمية، تلك التي شاطرتْه الهمَّ والمسؤولية، وأنجبتْ جدَّ خاتمِ أنبياءِ الرسالات الإلهية.

إنّها قصةُ إيثارٍ وتسليمٍ وحُبٍّ وتضحية، أبطالُها رموزٌ خلّدتْهم آياتُ القرآنِ وكتبتْ أسماءهم بفخرٍ واعتزازٍ سجلاتُ الخالدين بأحرُفٍ نورانية.
هي قصةُ وعيٍّ والتزام، وتوكُّلٍ وتسليمٍ تام، رمزُها امرأةٌ قد امتلأَ قلبُها بحُبِّ الملكِ العلّام، فما اعترضتْ على تركِها ووليدَها الوحيدَ المُنتظرَ منذُ أمدٍ بعيدٍ وسطَ الصحراء، حيثُ لا زرع ولا ماء، ولا أمل ولا موعد للرجوعِ أو اللقاء!
إنّها هاجرُ التي همستْ بأحرُفِ الصبرِ واليقين، إليكَ أمري يا ربِّ العالمين، فكانتْ ثمرةُ تسليمها تحفةَ ربِّها إليها عين زمزم، نَبعُ نِعمةٍ هي من أعظمِ النِعَمِ، دواءٌ من السقم، وشرابٌ طهورٌ يُذهبُ الظمأ والألم، وسبيلٌ لبناءِ نواةِ خيرِ الأُمَم، حيثُ بيت اللهِ المُعظّم، وجواره المكرم.
إنّها قصةُ نبيِّ أوكلَ أمرَه إلى ربِّه، وسارَ بزوجِه وولدِه في دربِ حُبِّه، ووضعَهما حيث أُمِرَ بعدَ أنْ تغلغلَ الإيمانُ وحُسنُ الظنِّ بقلبِ هاجر كما في قلبِه، ولمّا تركَ الأبُ الشفيقُ زوجَه وطفلَه الرقيق، وقفلَ راجعًا إلى حيثُ يُريدُ اللهُ (تبارك وتعالى) منه، لهجَ بالدُعاء قائلًا:
"رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ".
واستجابَ الربُّ الكريمُ نداءَ عبدِه ونبيّه إبراهيم، فبعدَ أنْ مرّتْ زوجُه هاجرُ بالبلاء، ونفدَ من عندِها الماء، ورأتْ طفلَها وهو يغرقُ في البُكاء، فصارتِ الأُمُّ تسعى بين جبلين، تبحثُ عن بئرٍ يروي ظمأَ طفلِها أو واحةٍ أو عين، تصعدُ تارةً جبلَ الصفا وأُخرى المروة، وتطلبُ من اللهِ (تعالى) المددَ والقوة، على اجتيازِ الامتحانِ بنجاح، بتفاؤلٍ ويقينٍ وانشراح، فالصبرُ في مواطنِ العسرِ عسير، وقلبُ الأُمِّ الرؤومِ يحترقُ لحالِ الطفلِ الصغير..
وبعدَ سبعةِ أشواطٍ من السعي والحركةِ والطلب، جاءَ المددُ مُفعمًا ببشائرِ القبولِ للعملِ المُترجمِ للحُبّ، فالشمسُ الحارقة، والرمالُ الساخنة، والبُكاءُ المُتواصل، والغُربةُ الموحشة، وعدمُ وجودِ السندِ ساعةَ المحنة، كُلُّها أمورٌ قد تمرُّ بالبعضِ فترفعُه إلى علّيين، وقد يكونُ نصيبُ الكثيرِ منها الاعتراضَ والسخطَ والانحدارَ إلى أسفل سافلين!
وكانتِ الأُولى من نصيبِ السيّدةِ هاجر التي عرفتْ كيفَ تُهاجرُ من ذاتِها إلى ربِّها، ومن نفسِها إلى خالقِها، كانتْ من نصيبِ هذهِ الأُمّ التي انتصرتْ على وسوسةِ الشيطانِ بالسخطِ والتبرُّم، وعلى كُلِّ المشاعرِ الجيّاشة للأُمّ.
إنّ هجرةَ هاجر من تعلُقاتِها، وانعقادَ قلبِها على الرضا وحُسنِ الظنّ بربِّها، وتسليمَها وتوكُّلَها، ودموعَ عينيها وخفقاتِ قلبِها الذي لم يتسلّلْ إليه اليأسُ رغمَ توفُّرِ كُلِّ المعطيات، هو الذي فجّرَ تحتَ قدمي وليدِها عينَ الحياة؛ ولا أشكُّ أنّها سجدتْ للهِ (تعالى) بعدَ رؤيةِ زمزم شكرًا على الاستقامةِ والثبات.
ثم كانَ ذلك بدايةَ العطاءِ والخيرات، حيثُ شدّتِ الطيورُ رحالَها لتحلَّ قربَها، ومن ثم بدأتِ القبائلُ تتوافدُ عليها، وتسكنُ في جوارِها، وهكذا عمُرتِ الأرضُ وصارَ ماءُ زمزم هديةَ الحُجّاجِ إلى أحبّتهم، يحملونه من أرضِ مكّةَ المكرمةِ إلى عوائلِهم، وينطلقُ سيلُ الأسئلةِ من أفواهِ أطفالِهم، بحثًا عن قصةِ الماءِ هذا فيكونُ جوابَهم:
إنّها قصةٌ أرادَ اللهُ (تبارك وتعالى) تخليدَها، وجعلَ لها أثرًا ماديًا ليكونَ أوقعَ في النفسِ وأبلغَ في الفهمِ لمن رامَ اتخاذَ القدوةِ منها، قصة امرأةٍ أحبّتِ الخالقَ بكُلِّ وجودِها، فأذعنتْ لأمرِه، واستجابتْ لمشيئته، فغمرَها بعدَ الابتلاءِ بعنايته.
قصةٌ تُكلِّمُنا عن سِرِّ ارتقاءِ الإنسانِ وعلوِّ منزلتِه، عندَما يخرجُ من حولِه وقوتِه ورداءِ ذاتِه، ويندكُّ بإرادةِ ربِّه ويُسلِّمُ لخالقِه.
قصةُ بئرٍ ما يزالُ مُنذُ آلافِ السنين يتدفَّقُ بالماءِ والعطاء، ويُرسلُ رسائلَ الحُبِّ والولاءِ والوفاء، ويقولُ بجريانه: إنّ الحُبَّ للهِ (تعالى) ليس محضَ إحساسٍ أو ادّعاء، بل هو مواقفُ صبرٍ وتحمُّلٌ وعناء، وصدقٌ في السيرِ على طريقِ الصالحين والأنبياءِ والمُتقين والنُجباء، ومُداومةٌ على الهجرةِ النقيّةِ من كُلِّ فضاء، لا سيما فضاء النفسِ وتعلُّقاتها المُتشعبة إلى رياضِ التسليمِ المُطلقِ لباري الأرضِ والسماء.


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


زينب العارضي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2021/07/20



كتابة تعليق لموضوع : زمزمُ قصةُ حُبٍّ
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net