صفحة الكاتب : محمد جعفر الكيشوان الموسوي

التسلط آفة إجتماعية مقيتة ـ الجزء السادس
محمد جعفر الكيشوان الموسوي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

من أهم أسباب تحطم الأسرة وتفككها وفقدان توازنها وإنحرفها عن السير بإستقامة هو تسلط الزوج في كثير من الأحيان أو تسلط الزوجة في بعض الأحيان. النتيجة واحدة وهي إستحالة مواصلة المشوار والعيش بكرامة وبإحترام وحب متبادل بين الزوجين مما ينعكس تاثير ذلك على بقية أفراد الأسرة. لا يعني ذلك بالضرورة  الإنفصال أو الطلاق. بعض الأُسر تعيش حالة غريبة من التعامل  بين الزوجين يصل إلى درجة التنابز بالألقاب والتسقيط التفاخر بالأهل أو العشيرة أو المنزلة إلإجتماعية أو التحصيل العلمي أو حتى بالحسن والجمال. سمعت بأذني إحدى الزوجات وهي تتكلم عن زوجها وتصفه بأبشع الصفات السيئة لكنها مستمرة على العيش معه. أحيانا تصبر الزوجة الصالحة على سوء اخلاق زوجها وتتأمل منه خيرا يوما، كما أنها تبغي رضا الله تعالى عنها، هذا واضح ومعلوم لكن غير الواضح هو تلك التي تعيش معه وتسقّطه في المجتمع فتكون هي أتعس منه حظا. الخطر يتضاعف إن كان الزوجان لا يعرفون معنى التسامح وفهم الآخر والمسؤولية الشرعية والأخلاقية في مدارة من نعيش معهم تحت سقف واحد.نصيب المجتمع من هذين المتسلطين هو زيادة أرقام النفوس المحطمة والمريضة. يقول أحد العلماء الكبار المعروفين طاب ثراه : كانت لي زوجة كريمة العينين فكنت احملها على ظهري لقضاء جميع حوائجها وكانت كل مرّة تقول لي : جزاك الله خيرا. يواصل ذلك العالم الفقيه : عبارة جزاك الله خيرا التي كنت اسمعها من زوجتي كانت كلّ شيء بالنسبة لي. هذان الزوجان  عاشا حياة ملؤها الحب والإخلاص والتفاني في خدمة الآخر. العالم الجليل كان يخدم تلك الزوجة الصالحة فكانت تجود عليه بالدعاء بالخير من أعماق قلبها وبكل صدق. هل يستوي ذلك العالم الورع مع مِن يدخل البيت وبمجرد أن يشعر أن الطعام ينقصه بعض الملح يقيم الدنيا على تلك المخلوقة ويرمي بوجهها الصحن وربما قلب الطاولة وكأنه رأى اللون الأحمر فهاجت مشاعره. هل تظن سيدي ان الذي يفعل ذلك هو من العوام ومن بسطاء الناس! كم اكاديمي عندنا وبمرتبة رئيس قسم في الجامعة ويدرّس علم النفس لكنه يؤمن بشكل قاطع بأن الزوجة تصل إلى قلب الرجل عن طريق معدته!! الله اعلم ماذا يفعل هذا المحترم إن تصل زوجته إلى قلبه عن الطريق المحبب لديه؟ لا نقصد أحدا بشخصه فالكل محترم وعلى الرأس ولكن ندرس الحالات ونناقش الأفكار ونقف طويلا عند الظواهر الاجتماعية التي تنخر بالبنيان وتحطم دعائم المجتمع فيهوى السقف على من تحته لا سمح الله.

 الأسرة الصالحة هي التي ترفد المجتمع بأفراد صالحين يشكلون اللبنة الأساسية لبناء وعمران ذلك المجتمع الذي ينتمون إليه. بناء الإنسان الواعي (سنأتي على ذلك لا حقا بشيء من التفصيل إن شاء الله تعالى). كما أنهم يكونون من أهم مصادر الطاقة التي تغذي المجتمع ليتقوى ويقف على قدمية بثبات وشموخ. لا يمكن لأسرة تعيش حالة التسلط بين أفرادها أن تكون أسرة صالحة ومثالا رائعا يُحتذى به عند هبوب الرياح العاتية وعند العواصف الشديدة. نعيش اليوم طقسا ذا تقلبات شديدة ومفاجئة وقد لا يتنبأ بحدوثها  من لم يحسب حسابها. ومن حسابها الإعتناء بالصغار وعدم إهمالهم أو تحقيرهم وإهانتهم أمام الآخرين في المجتمع أو حتى في الأسرة الواحدة. ديننا يحث على نتعلامل معهم بالحُسنى وثقافتنا تشجع ذلك، لكن عاداتنا تقف حائلا دون تحقيق ذلك. مَن سنَّ قانون إهانة الطفل الصغير في مجالسنا سيدي الكريم؟!

مَن جاء بهذه الأخلاق التي تعتبر الطفل الصغير بمنزلة الحيوان أجلّ الله القاري الكريم؟!

 مَن يتحمل مسؤولية قتل الروح المعنوية عند ذلك الصغير المحترم. إليكم بعض القصص والحوادث:

العالم المربي والمحاضر المتألق..

يذكر أحد علماء التربية الإسلامية وهو محاضر في الجامعات والاكاديمات العلمية أن والده كان أيام عاشوراء يقيم مجلسا ومأتما للإمام الحسين عليه السلام. يجلس ذلك الوالد وبقربه اهله ويبدأ بقراءة المجلس والأولاد الصغار يصغون ويستمعون للوالد وينظرون إلى الوالدة وقد بدت على وجهها الكآبة والحزن الشديد ومن ثم البكاء بحرارة على سيد الشهداء عليه السلام. إقامة مجلس العزاء في البيت قبل المسجد أو الحسينية هو دليل على الاهتمام بالأطفال والحرص على تربيتهم على اكمل وجه. كبر ذلك الطفل الصغير واصبح شابا يافعا يحضر مجالس الحسين عليه السلام أيام عاشوراء في المواكب والتكايا التي تقام عند رأس كل زقاق.. كلّما تعرض الخطيب إلى واقعة الطف رجع ذلك الشاب بذاكرته إلى الوراء متذكرا كيف كان ذلك الوالد يغذيهم بحب الحسين عليه السلام والسير على نهجه في الإصلاح، وأول الإصلاح هو إصلاح النفس. كبر ذلك الشاب المبارك فأصبح عالما في التربية والأخلاق ومحاضرا متألقا من الطراز الأول. الطراز الأول نعني به  قوة الإيمان وصدق التوكل على الله تعالى. توكلنا على الله. الطراز الأول يعني تطابق اللسان مع القلب، أن يكون اللسان ترجمانا للقلب كما يقولون وليس معناه ان يكون اللسان ذربا وعذبا والقلب قاسيا وفيه ما فيه من الكِبَر الذي هو المصنع الحقيقي للتكبر. ذلك العالم المربي كان صادقا مع نفسه ومن ثم مع ربه، إنه يستحي من نفسه إن هو كذب عليها، إنه يعيش الإيمان ويترجمه في كل خطواته ولا يعرف طعما للنفاق والتلون لأنه لم يتذوقه يوماً قط. والسؤال هنا : مَن كان يستحي من نفسه ولا يكذب عليها هل يا ترى سيكذب يوما على ربه العالم بحاله ؟! لا ريب أن الجواب سيكون بالنفي. ذلك العالم الجليل المبارك هو ثمرة ونتاج تلك الأسرة التي نشأ وترعرع فيها وحضر في كنف والده مجلس السبط الحسين عليه السلام قبل ان يحضره في التكايا وسرادقات العزاء ايام عاشوراء. ذِكرُنا لبعض الجوانب المشرقة من حياة العلماء العاملين العارفين هو بمثابة دعوة للتوقف ودراسة ومراجعة تصرفاتنا بدقة متناهية وترجمة أقولنا إلى أفعال، أجل سيدي الكريم لقد اصبح عندنا فائضا من الأقوال والكتابات وإلفات النظر بشكل نظري وحث الناس على الإستماع لما نقوله في محاضرات روتينية أو نشجعهم على قراءة ومطالعة ما نكتب بشكل ممل دون تقديم أية حلول وإن كانت متواضعة. أقل جهد نقوم به من أجل إصلاح المجتمع هو ان نهتم بأولادنا ونتعهدهم بالتربية الصالحة ونقلل من حياة المقاهي والأراكيل والمعسل وتفاحتين ونفخ الدخان بشكل بهلواني مقرف. البعض يلعن أباه والعياذ بالله. إليكم ما حصل:

كنت طفلا صغيرا وبصحبة والدتي رحمها الله عند زيارتها لمسلم بن عقيل وهاني بن عروة في الكوفة ومن ثم الذهاب إلى مسجد السهلة ليلة الأربعاء. في طريق عودتنا الى النجف أستقلنا سيارة أجرة صغيرة (تاكسي) وكان السائق رجلاً في الأربعين من عمره آنذاك. كان الشارع سيء الإضاءة ومصابيح السيارة كانت قديمة لا تكاد تضيء مسافة مترين. شعرت والدتي بخطورة الطريق فطلبت من السائق المحترم ان يتأنى ولا يسرع، أدار وجهه قليلا نحوي أنا، إستحياءً من النظر إلى والدتي التي كانت تجلس في المقعد الخلفي لكنه فجأة أوقف السيارة وصرخ : يا يمه!! كانت هناك وسط الظلام الدامس امرأة تريد قطع الشارع عبورا إلى الجهة الأخرى وكاد السائق ان يدهسها فتهلك، لكنه تدارك الامر بلطف المولى تعالى وحفظه. الشاهد في القصة أن ذلك السائق بعد ان عبرت تلك السيد الى الجهة المقابلة اخذ بشتم أباه ولعنه لعنا وبيلا فتعجبتُ أنا الصغير وقتها وتعجبت والدتي وقالت له : إتقٍ الله يا سيد في أبيك! كيف تشتمته وتلعنه وكأنه عدوك!! قال لها : إنه عدوي فلم يحسن تربيتي ولم يشجعني من الذهاب إلى المدرسة وطلب العلم والحصول على الشهادة. ثم واصل حديثة وهو في نوبة من الغضب : أحترم هذه المهنة لكني لا احبها. كنت احب المدرسة لكن جشع أبي حال دون تعلمي. لقد تجاوز ذلك السائق على ابيه وكان سيء الأدب معه وإن كان غائبا عنه، وإن كان ميتا لا يسمعه، كان على ذلك السائق أن يستحي على الأقل من والده ولا يسبه أمام الركّاب. لكن في المقابل هل أحسن ذلك الوالد لولده؟ هل آثره على نفسه؟ هل هكذا يتعامل المرء مع فلذه كبده؟ أين أبناؤنا أكبادنا تمشي على الأرض؟ ذلك الوالد كان سببا في عقوق إبنه وكذلك كان سببا في شقائه وتعاسته ومرارة حياته. والد كهذا هو مصنع لتفريخ أنواع البلايا في المجتمع، والمزيد من هؤلاء الآباء يعني المزيد من اتساع الفتقِ على الراتِقِ.

أنا وضيوفي الكرام..

من اشد اللحظات حرجا في حياتي هي أن يقدّم امامي الصحن (الماعون) عند الغداء، ويُرفع من أمامي بعد الإنتهاء. إعتدتُ أن أخدم نفسي ومن ثم العيال قدر إستطاعتي وهذا هو برنامجي كل يوم. زارني ذات يوم بعض الكرام فقمت بخدمتهم وقدمت لهم مما رزقنا الله من طعام. عند الإنتهاء اردت أن أحمل الصحون إلى المطبخ فقام كبيرهم ونهرني قائلا : عيب يا أخي أن تحمل أنت الصحون وحولك الأولاد الصغار فماذا سيقولون عنك غدا؟! قلت : بالعكس أيها السيد المحترم، العيب هو أن أحمّل هذا الصغير ما لا طاقة له به، انا والدهم وعليّ لا على غيري خدمتهم. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فإنهم سوف يرثون هذا العمل ويعملون به إن شاء الله تعالى كما ورثت أنا خدمتهم من والدي. لم أتزوج لأحصل على بعض الإمتيازات من خدم وحشم  وخدمات توصيل 24 ساعة. بل تزوجت من أجل بناء أسرة سليمة ما استطعت الى ذلك سبيلا. الأب المتسلط سيجني إنعكاسات وترددات ذلك الخلق الذميم على نفسه قبل الآخرين، كما أنه يكون غدا مسؤولا عن إنشاء جيل معاق لا يستطيع الحركة ناهيك عن البناء العمران والتسلح بالوعي والإيمان.

ناطحات سحاب بشرية..

ليس صعبا هندسيا بناء الأبراج العالية أو ناطحات السحاب العملاقة إن توفرت الأيدي العاملة ورأس المال. في عصرنا اصبح الأمر في غاية اليسر والبساطة حتى أنك تصبح  فترى  ناطحة سحاب جديدة قد حطمت الرقم القياسي السابق كأطول بناء عمودي، كما انه قد تم تشييد المباني الأفقية العملاقة وغيرها من إبداعات هندسة البناء والعمارة المعاصرة. الأمر لم يعد صبعا ومعقدا، إنه من السهل اليسير، لكنه ليس كذلك إطلاقا عند بناء ناطحة سحاب بشرية، ليس سهلا بناء إنسان ينطح السحاب بقيّمه واخلاقه وآدميته ويكون عنوانا لكل خير وصلاح أينما كان موقعه حلّ أو إرتحل. ذلك العالم الذي تكلمنا عنه قبل قليل هو أحد تلك المنارات الشامخة، لقد كان ذلك الفاضل يوما من الأيام طفلا صغيرا لكنه وبلا شك لم ينشأ تحت قسوة أب متسلط  طاغٍ، أو أمّ متمردة متجبرة وتحت عناوين ومسميات شتى وأسماء ما أنزل الله بها من سلطان. إن طهارة المجتمع وتنظيفه من اوساخ الغفلة والجهل والتخلف وتحقير الناس والإستهزاء بهم والسخرية منهم وكذلك التسلط الذي هو نتاج تلك العوامل وغيرها مثلها تتوقف على طهارة ونظافة البيئة الحاضنة وهي الأسرة التي ينهل منها الصبي العلم والأدب والخلق الكريم فيكون نافعا بكل معنى الكلمة، أو يكون نصيبه منها الجهل وسوء الأدب والخلق الذميم فيكون مُحَطَماً ومُحَطِمَاً بكل معنى الكلمة.

 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


محمد جعفر الكيشوان الموسوي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2021/08/25



كتابة تعليق لموضوع : التسلط آفة إجتماعية مقيتة ـ الجزء السادس
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net