صفحة الكاتب : الشيخ مصطفى مصري العاملي

أربعون عاما أختاه... وحرارة الجرح لم تبرد
الشيخ مصطفى مصري العاملي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

 عندما تحدثت الأربعاء الماضي من مدينة قم في الحلقة 413 عن محطات من عاشوراء،  من البرنامج المباشر أئمة الهدى على قناة كربلاء الفضائية ، وتحدثت فيه عن الم الجراح التي تفجرت في الشام، وغيرت مسار التاريخ، عندما قطعت طفلة سكون تلك الليلة ببكاءها بعد أن شاهدت أباها في الحلم يحتضنها، فاستيقظت لتجد نفسها مع آخرين في تلك الخربة الغريبة بين أطفال ونساء ساقهم الأعداء اسارى من كربلاء الى الكوفة في رحلة السبي الأليم وصولا الى الشام ، فهاج بها الشوق وراحت تبكي بحرقة وبصوت عال، كسر صداه صمت تلك الليلة الأليمة.

وبكاء الصغار ليس مجرد عاطفة كما هو الحال عند الكبار بل هو وسيلة من وسائل التعبير التي يتقن الأطفال استعمالها بفطرتهم وبلا تكلف، وكان لهذا البكاء اثره، فهو جزء من رسالة يؤديها كل من كان في ذاك الركب الحزين.  

وسرعان ما يخمد نَفَس تلك الطفلة ويسكن انينها ويصمت صوت بكائها وهي تحتضن رأسا مقطوعا محمولا مفصولا عن الجسد .

إنه رأس ابيها الحسين الذي كان يحملها ويمنحها عطفا وحنانا افتقدته من يوم عاشوراء في كربلاء.. الى خربة الشام بعد نيف وعشرين يوما من المعاناة. فتلفظ تلك الطفلة أنفاسها كمدا وألما وحزنا، وتكتفي من الحياة بأن تغفو على رأس ابيها غفوة أبدية..

ويخمد صوت الطفلة الى الابد..

إلا أن صداه ومن تلك اللحظة ينبعث دون ان يتوقف، ليصل الى أرجاء المعمورة بحيث تسمعه الأجيال جيلا بعد جيلا، فيقوى ويقوى ويرتفع اكثر واكثر،  ويغدوا رمزا وعنوانا لقضية حية تكبر ويكبر اثرها ويزداد صداها يوما بعد يوم، متجاوزا حدود المكان والزمان.... إنه صوت رقية ... بنت الحسين..

وسواء شكك بعض في دقة تلك الحكاية أو أثبتها آخرون،

فإن الثابت الذي لا شك فيه ان تلك الصرخة وتلك الآهات المنسوبة الى تلك الطفلة لا تزال تخترق الاذان وتصل الى حراشيف القلوب كلما ذهبت الذكرى وذهب الخيال الى موكب السبايا الذي دخل الى الشام في الأول من صفر من سنة 61 للهجرة.

هذه الصورة اخذتني اليوم الى ذكراك اختاه..

اليوم هو الثاني عشر من شهر أيلول، لقد مضت أربعون سنة على ذاك اليوم الذي همدت فيه انفساك فقضيت شهيدة على يد اللعناء، وما ان يذهب بي الخيال الى ذاك اليوم وذاك الزمن حتى اشعر بدموعي تنهمر بصمت، ولا يزيدها تباعد السنين الا حرارة وغزارة فتمضي بي الساعات وانا خارج الزمن.. أعيش مع ذاك اليوم..

كل شيء يشدني ويأخذني ويذكرني بذاك الزمن.. 

في كل محطات حياتي اتذكرك.. مع كل نداء لاسم فاطمة اتذكرك..

مع كل حدث او قضية او قصة او اسم أو أي إشارة..

فكيف عندما اشاهد من يحمل اسمك، او كامل اسمك..

بالأمس اختاه وبعد أن قدمنا قماً منذ أيام.. جلست مع الحاضرين من العائلة ورحت انظر اليهم..

هذه ام محمد رفيقة درب ذات الشوكة، تقدم لنا اليوم ما تيسر فيذهب بي الخيال الى تلك الليلة التي كانت فيها تعبئ الرصاص.. وتنتقل من غرفة الى غرفة حاملة زجاجة الحليب الى طفلتنا الأولى التي كان يرتفع صوتها كلما انهمر علينا الرصاص او تفجرت في الغرفة قذيفة، فتملأ ام محمد زجاجة الحليب لعلها تتلهى بها بدل البكاء..

وتصيب رصاصة زجاجة الحليب وهي بيدها قبل ان يتناولها الجد، فتنشغل الجدة بمحاولة اسكات الطفلة بعد أن تشظت زجاجة حليبها.. ونسمع صوت احدهم موجها أمرا لآخر.. سدد قذيفة أخرى .. فهناك في البيت طفلة تبكي..

طفلتنا الأولى تلك هي الان معنا في قم قادمة للزيارة، وقد تجاوزت الأربعين ببضعة اشهر، وتلك الاشهر هي عمرها في ذاك اليوم، وابنتها التي تحمل اسمك اختاه ولها نفس عمرك يوم رحيلك..تحدثها كل يوم فهي تجهز لها شيئا من جهاز العرس.

ابنتي الثانية التي تحمل اسمك، والتي كانت جنينا يوم رحيلك، ويقال من الناحية العلمية أن الجنين تكتمل عنده حاسة السمع من الشهر الرابع من الحمل  فيسمع كل ما يدور حوله، فلا شك حينئذ أنها كانت قد سمعت صوتك دون أن تنظر الى وجهك او تحمليها كأختها، وسمعت أيضا أصوات الرصاص وبكاء اختها..

ابني الكبير الذي لم يكن قد ولد في يوم رحيلك، بل كانت ولادته بعد أن أزال الله بغي الباغين.. وأرسل الشياطين على الكافرين.. وها هي ابنته التي تحمل كامل اسمك ، ولها نفس عمرك.. جالسة بيننا..

حيث ما نظرت اختاه فإني اراك، وأراك في جميع من أرى..

ومع رنة هاتفي اسمع قوله تعالى .. واذا المؤودة سئلت بأي ذنب قتلت؟

رحمك الله يا فاطمة... أنت معنا في كل زيارة .. وفي كل يوم..

حرارة الجرح لن تبرد ابدا .. ودمعة الحزن لن تجف الى يوم اللقاء ...

الى روحك ثواب الفاتحة..

12 ايلول 2021
 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


الشيخ مصطفى مصري العاملي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2021/09/19



كتابة تعليق لموضوع : أربعون عاما أختاه... وحرارة الجرح لم تبرد
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net