هَلاكُ الرِّجال.. بِتَركِ السؤال !
الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
بسم الله الرحمن الرحيم
لَقَد جَعَلَ الله تعالى بينه وبين خلقه عهوداً ومواثيق، ثمَّ أمرَ العبادَ بالوفاء بها، فقال عزّ وجل: (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً) (الإسراء34).
وكان من هذه العهودِ:
1. عَهدٌ للعلماء: أن يبذلوا العلم للجُهّال.
2. وعَهدٌ للجُهَّال: أن يطلبوا العلم من العلماء.
وتَقَدَّمَ الأوَّلُ على الثاني، لِتَقَدُّم العلم على الجهل، كما عن أمير المؤمنين عليه السلام.
رغمَ ذلك، نَقَضَت جموعٌ من الفئتين عهد الله!
1. أما مِنَ العلماء:
فهم الذين امتنعوا عن بذل علومهم، وقد قال الصادق عليه السلام:
إِنَّ مِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ يُحِبُّ أَنْ يَخْزُنَ عِلْمَهُ وَلَا يُؤْخَذَ عَنْهُ، فَذَاكَ فِي الدَّرْكِ الْأَوَّلِ مِنَ النَّارِ ! (الخصال ج2 ص352).
فلو امتنع هؤلاء عن بًذل المال، لفُسِّرَ ذلك بنَهَمِهم وطَمَعِهم، لأنَّهم يرون أنّ المال ينقصُ بالإنفاق.
لكنَّهم يمتنعون عن بذل العلم، مع أنَّ العلم يزكو على الإنفاق ولا ينقص، فهؤلاء أصحابُ نفوسٍ مريضةٍ، يحجبون الثمار عن أنفسهم وعن بُغاة العلم، ولا يُحبُّون الخير لعباد الله تعالى، ويخالفون عهدَ الله تعالى بلزوم بذل العلم، أجارنا الله تعالى منهم وأبعدنا عنهم.
2. وأمّا من الجُهّال:
فهم الذين امتنعوا عن السؤال والتعلُّم، وقد قال عليه السلام:
إِنَّمَا يَهْلِكُ النَّاسُ لِأَنَّهُمْ لَا يَسْأَلُونَ (الكافي ج1 ص40).
الجاهلُ من هؤلاء يعرِفُ أنَّ مفتاح العلم السؤال، كما عن المعصومين عليهم السلام: إِنَّ هَذَا الْعِلْمَ عَلَيْهِ قُفْلٌ، وَمِفْتَاحُهُ الْمَسْأَلَةُ !
لكنَّهُ يتكبَّرُ عن التعلُّم، ويأنف عن السؤال، ويرى نفسَه أعظم من أن يطلُبَ علماً، مع عظيم منزلة طالب العلم..
وفي أيامنا هذه كسالف الأزمان، لا يُعدمُ المؤمنُ نماذج هؤلاء وهؤلاء..
وقد رَسَمَت الشريعةُ منهاجاً للمؤمن، حَثَّتهُ فيه على التعلُّم، وبيَّنَت له خطورة ترك السؤال، والقرار في ذل الجهل، وأشارت إلى أمرين في غاية الأهمية:
الأمر الأول: الاكتفاء العلميّ للشيعة !
عن الصادق عليه السلام: لَا خَيْرَ فِيمَنْ لَا يَتَفَقَّهُ مِنْ أَصْحَابِنَا.. إِنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ إِذَا لَمْ يَسْتَغْنِ بِفِقْهِهِ احْتَاجَ إِلَيْهِمْ، فَإِذَا احْتَاجَ إِلَيْهِمْ أَدْخَلُوهُ فِي بَابِ ضَلَالَتِهِمْ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ (الكافي ج1 ص33).
يشيرُ الإمام عليه السلام إلى معنىً في غاية الأهمية، قَد تَغفَلُ عنه الأمم، وإن تنبَّهت إلى أهمية الاكتفاء الذاتي في سائر مجالات الحياة، فإنَّ بعضَ الأنظمة تسعى للاكتفاء في مجالات الصناعة أو الزراعة أو التقنية أو غيرها، لئلا تحتاج إلى سواها، فيفرض عليها قيوداً لا تُناسبها، حيث تسعى كما يسعى الإنسانُ للكمال في كُلِّ مجال، ولا يقبلُ أن يتحكّم به غيرُه ويملي عليه ما لا قناعة له به.
وهكذا ينبغي أن يكون الإنسان المؤمن في أمور دينه..
أيرضى أن يظلَّ جاهلاً غيرَ مُتَفَقِّه ؟!
أيُعرضُ عن السؤال والتعلُّم حتى تخفى عليه علوم آل محمد عليهم السلام، ثمَّ يحتاجُ في معارفه إلى الأغيار، أصحاب مدارس الضلال ؟!
إنَّ الجاهل بحكم الله يتناول ما يبلغه من أحكامٍ وإن كانت لأعداء الله، لجهله بحكم الله تعالى.
فلا عَجَبَ أن يقول الرسول صلى الله عليه وآله:
أُفٍّ لِرَجُلٍ لَا يُفَرِّغُ نَفْسَهُ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ لِأَمْرِ دِينِهِ فَيَتَعَاهَدُهُ وَيَسْأَلُ عَنْ دِينِهِ (الكافي ج1 ص40).
ولا غرابة أن يقول الصادق عليه السلام:
لَوَدِدْتُ أَنَّ أَصْحَابِي ضُرِبَتْ رُءُوسُهُمْ بِالسِّيَاطِ حَتَّى يَتَفَقَّهُوا (الكافي ج1 ص31).
وقد بلَغَت أهميَّة الإكتفاء الذاتي العلمي إلى درجةٍ صار التعلُّمُ معها سِمَةً لشيعة الأئمة عليهم السلام، وعلامةً من علاماتهم، وقد ورد عنهم عليهم السلام: نَحْنُ الْعُلَمَاءُ وَشِيعَتُنَا الْمُتَعَلِّمُونَ (الكافي ج1 ص34).
الأمر الثاني: حياة قلوب الشيعة !
عن رسول الله صلى الله عليه وآله عن الله تعالى:
تَذَاكُرُ الْعِلْمِ بَيْنَ عِبَادِي مِمَّا تَحْيَا عَلَيْهِ الْقُلُوبُ الْمَيْتَةُ، إِذَا هُمُ انْتَهَوْا فِيهِ إِلَى أَمْرِي.
وعنه (ص): إِنَّ الْحَدِيثَ جِلَاءٌ لِلْقُلُوبِ، إِنَّ الْقُلُوبَ لَتَرِينُ كَمَا يَرِينُ السَّيْفُ، جِلَاؤُهَا الْحَدِيث (الكافي ج1 ص41).
وعن الصادق عليه السلام:
وَأَحَادِيثُنَا تُعَطِّفُ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ، فَإِنْ أَخَذْتُمْ بِهَا رَشَدْتُمْ وَنَجَوْتُمْ، وَإِنْ تَرَكْتُمُوهَا ضَلَلْتُمْ وَهَلَكْتُمْ (الكافي ج2 ص186).
تكشفُ هذه الأحاديث أموراً منها:
- لزوم الإخلاص عند طلب العلم، وذكر أحاديث آل محمد عليهم السلام، وهو الذي عُبِّر عنه بالانتهاء إلى أمر الله تعالى، وبه يدعى المؤمن في ملكوت السماوات عظيماً فيقال: تَعَلَّمَ لله وَعَمِلَ لله وَعَلَّمَ لله.
- إنَّ لينَ القلوب من آثار تَعَلُّمِ علوم آل محمد (ع) وذكر أحاديثهم، وتبين ثِمارُ ذلك في عَطفِ المؤمنين بعضهم على بعض، ومحبَّتهم وتعاونهم، فليس هؤلاء من أصحاب القلوب القاسية.. ولا من أهل الذُّنوب والمعاصي.
- إنَّ الرشاد والنجاة موقوفان على التعلُّم، وما من طاعةٍ لله بغير علمٍ ومعرفة، وما مِن سبيلٍ للعلم والمعرفة إلا السؤال والتعلُّم وتذاكر أحاديثهم وعلومهم.
يتنبَّهُ المؤمن إلى هذه المعاني.. فيُدرك أنّ (هلاك الرجال.. بترك السؤال)!
فلا يستنكف عن طلب العلم، وسؤال العلماء والتعلُّم، ليفتح الله تعالى له أبوابَ رحمته، وقد قال عزَّ وجل: إنَّ أَحَبَّ عَبِيدِي إِلَيَّ التَّقِيُّ، الطَّالِبُ لِلثَّوَابِ الْجَزِيلِ، اللَّازِمُ لِلْعُلَمَاءِ..
ويحذر المؤمن مما حذر منه تعالى فقال: إنَّ أَمْقَتَ عَبِيدِي إِلَيَّ: الْجَاهِلُ، الْمُسْتَخِفُّ بِحَقِّ أَهْلِ الْعِلْمِ، التَّارِكُ لِلِاقْتِدَاءِ بِهِمْ (الكافي ج1 ص35).
اللهم اجعلنا ممّن وَصَفتَهم في كتابك فقلت: (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا) (وَالَّذينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ)، اللهم خُذ بيدنا لكي نؤدي العهدَ في السؤال والتعلُّم، ثم في تعليم عبادك المؤمنين..
اللهم ارحمنا برحمتك، وعطِّف قلوبنا على عبادك، وافعل بنا ما أنت أهله.
والحمد لله رب العالمين
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat