صفحة الكاتب : شعيب العاملي

شَرَفُ الدُّنْيَا.. وَالْآخِرَةِ ! 
شعيب العاملي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

 بسم الله الرحمن الرحيم

مَنْ نُجَالِسُ؟

سؤالٌ طرحَهُ الحواريون يوماً على نبيِّ الله عيسى عليه السلام، وهو سؤالٌ غَريبٌ في هذا الزَّمن، الذي لا يسألُ كثيرٌ من النّاس فيه عن الجليس.
فَتَغَيُّرُ ظروف الحياة وطبيعتها جَعَلَت أكثر الناس تُجالس كيفما كان دون كتابٍ ولا حساب.

وقد أجاب روحُ الله عليه السلام الحواريين قائلاً:

مَنْ يُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ رُؤْيَتُهُ، وَيَزِيدُ فِي عِلْمِكُمْ مَنْطِقُهُ، وَيُرَغِّبُكُمْ فِي الْآخِرَةِ عَمَلُهُ (الكافي ج1 ص39).

يتَّصفُ الذين يستحقون المجالسة بصفاتٍ من حيث:

1. المظهر
فتظهر عليهم علاماتٌ التقى، والخوف من الله تعالى، حتى يراها المؤمن في وجوههم، وإن خَفِيَت على مَن سواه، فيكون في ما يَظهَر من هؤلاء منبِّهٌ ومذكِّرٌ بالله تعالى، هؤلاء الذين: خَلَوْا بِاللَّهِ فَكَسَاهُمُ اللَّهُ مِنْ نُورِه‏ !
صاروا أهلَ نورٍ يراه المؤمن فيهم، يُذكِّرون بالله تعالى قبل أن يتكلَّموا ! فواشوقاه إلى هؤلاء وأمثالهم..

2. العلم
ثم امتلأ هؤلاء علماً، يفيضُ منهم إلى جليسهم، إذا نطقوا تجلَّت الحكمةُ في كلماتهم، فكان كلامهم باباً إلى الله تعالى، يأنس بهم المؤمن في صمتهم وكلامهم.

3. العمل
ولم يخالف قولُ هؤلاء فِعلهم، فهم من أهل الجدِّ والاجتهاد في سبيل الله، يرى العبدُ عمَلَهُم فيرغب في أن يشركهم فيه، لشدّة تفانيهم في طاعة الله، فيكون عملُهم باباً لحثِّ العباد على العمل.. فِعلاً بعد القول.

ومَن اجتمعت فيه هذا الصفات، كان من (أهل الدين) بلا رَيب، وصار مصداقاً لحديث خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وآله حينما قال:

مُجَالَسَةُ أَهْلِ الدِّينِ شَرَفُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ! (الكافي ج1 ص39).

لقد ورد في الأحاديث أن في طلب العلم (شَرَفُ الدُّنْيَا)، وفي صلة القرابة وحسن الضيافة (شَرَفُ الْآخِرَةِ).. وأنّ شرف الآخرة لا يُنال (إِلَّا بِتَرْكِ مَا تُحِبُّونَ).. وأنَّ (شَرَف الْمُؤْمِنِ قِيَامُ اللَّيْلِ)..

ولكن..
كيف اجتمع شَرَفُ الدُّنيا والآخرة في مُجَالَسَة (أهل الدين) ؟!
ومِن أين جاء هذا السمو واكتُسِبَت هذه الرِّفعة ؟!

لقد روي عن لقمان الحكيم قوله لابنه:

1. يَا بُنَيَّ اخْتَرِ الْمَجَالِسَ عَلَى عَيْنِكَ
2. فَإِنْ رَأَيْتَ قَوْماً يَذْكُرُونَ اللَّهَ جَلَّ وَعَزَّ فَاجْلِسْ مَعَهُمْ
3. فَإِنْ تَكُنْ عَالِماً نَفَعَكَ عِلْمُكَ
4. وَإِنْ تَكُنْ جَاهِلًا عَلَّمُوكَ
5. وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُظِلَّهُمْ بِرَحْمَتِهِ فَيَعُمَّكَ مَعَهُمْ (الكافي ج‏1 ص39).

هكذا يجتمعُ في مُجالسة هؤلاء التذكير بالله والعلم والعمل، فيصير شرفَ الدُّنيا والآخرة !

وقد لحظت الشريعة سِمات الإنسان الاجتماعية، وأنَّه لا بدَّ له من جليسٍ وأنيس، فمَن كان جليسُه من أهل الدين أكسبَه عِلماً وعملاً فنالَ به خيرَ الدُّنيا والآخرة، فأرشدت إلى ثمار مجالسة هؤلاء..

وما أعجب عبارة الحكيم حين قال: يَا بُنَيَّ اخْتَرِ الْمَجَالِسَ عَلَى عَيْنِكَ !

وسواءٌ أراد منها الحثَّ على الاهتمام بالجليس كالاهتمام بالعين أو أرجح !

أو أراد منها التنبيه على لزوم معرفة أحوال الجليس، وأن يكون الإنسان على بصيرة من أمره عند مجالسة الآخرين.

فإنَّ لهذا المعنى أصلاً قرآنياً يرجع إليه، حين قال تعالى:
(وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا في‏ حَديثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقينَ وَالْكافِرينَ في‏ جَهَنَّمَ جَميعاً) (النساء140).

فما أشدَّ قوله تعالى: (إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ) ! حينما قَرَن تعالى في الآية بين (الكافرين بآياته والمستهزئين بها) وبين (القاعدين معهم) حال استهزائهم ! فجعلهم (مِثلَهم) !

إنَّ في القعود مع هؤلاء حينها مخالفةٌ لما فرض الله تعالى على السمع، حيث يلزم تنزيهه عن الاستماع إلى ما حرم تعالى، وعن الإصغاء إلى كلام أعداء الله.
كما أن المُجالِسَ لهم بحكم الراضي بأفعالهم، المُشارك بها، فما الداعي للقعودِ معَ قومٍ يستهزؤون بآيات الله لولا رضا الإنسان بهذا الفعل القبيح ! أو استهتاره بعظيم جُرمهم !

وليس تركُ الإنكار عليهم مع القُدرة إلا إقراراً لهم واشتراكاً معهم فيما يخوضون.
حينها لا عجب من قول الإمام عليه السلام: وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُظِلَّهُمْ بِعُقُوبَةٍ فَيَعُمَّكَ مَعَهُمْ !

لقد أرادت الشريعة بهذا أن تُغلقَ الأبواب أمام أهل الأهواء والضلالات، لحفظ المؤمنين من شرورهم وفتنتهم.

وقد يُبتلى المؤمن اليوم بمَن يكفر بأعظم بآيات الله تعالى أو يستهزئ بها، وهم الكافرون بآل محمد عليهم السلام، وقد قال أمير المؤمنين عليه السلام: مَا لِلَّهِ نَبَأٌ أَعْظَمُ مِنِّي، وَلَا لِلَّهِ آيَةٌ أَعْظَمُ مِنِّي‏ (تفسير فرات ص533).

لقد كفَرَت أمَّةُ الإسلام بآل بيت الرَّسول، وقطعتهم وظلمتهم، فكان المؤمن مُخيَّراً بين موالاتهم وموالاة أعدائهم، فهذان لا يجتمعان، وتَرَتَّبَ على ذلك منهجٌ عامٌ للشيعة في كلِّ زمان ومكان، بيَّنَهُ الصادق عليه السلام بقوله:

1. مَنْ جَالَسَ لَنَا عَائِباً
2. أَوْ مَدَحَ لَنَا قَالِياً
3. أَوْ وَاصَلَ لَنَا قَاطِعاً
4. أَوْ قَطَعَ لَنَا وَاصِلًا
5. أَوْ وَالَى لَنَا عَدُوّاً
6. أَوْ عَادَى لَنَا وَلِيّاً

فَقَدْ كَفَرَ بِالَّذِي أَنْزَلَ السَّبْعَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيم‏ (الأمالي للصدوق ص56).

إنَّ الدين منظومة متكاملة، لا يمكن التبعيض فيها، إلا لمن أراد أن يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض !
ومَن أراد طاعة الله أحبَّ آل محمدٍ وأبغض أعداءهم، وجالسَ أهل الدين وامتنع عن مجالسة أعدائهم والمنتقصين منهم، ووصلَ آل محمدٍ وقطَعَ أعداءهم، وبرَّ آل محمدٍ وجفا أعداءهم، وأكرم آل محمدٍ وأهان أعداءهم، وأحسن إلى آل محمدٍ وأساء إلى أعدائهم..

حتى قال الإمام الرضا عليه السلام:
وَمَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهِمْ فَقَدْ أَسَاءَ إِلَيْنَا !
وَمَنْ أَسَاءَ إِلَيْهِمْ فَقَدْ أَحْسَنَ إِلَيْنَا !

معادلةٌ ذهبيةٌ توافقُ العقلَ السليم الذي لا يقبلُ الجمع بين المتناقضين.. إذ كيف يصحُّ الإيمان بالحق والباطل معاً ؟!
وكيف تقرُّ شرعة العقول موالاة أولياء الله وأعدائه ! ومحبتهما معاً !

هو منهجٌ لا تتمُّ الولاية فيه إلا بالبراءة، فتصديقُ آل محمدٍ تكذيبٌ لأعدائهم، وتصديق أعدائهم تكذيبٌ لهم.. لعنَ الله المكذبين لهم..

هكذا لا يعيش المؤمن ضبابيةً بحالٍ من الأحوال:
لا يُجالسُ مُختاراً إلا أولياء الله وأحباءه، أهل الدين والتقى والورع.
ولا يوالي أعداء الله الذين يُحَرِّفون الكلم عن مواضعه.. ولا يَصِلُهُم ولا يبرُّهم ولا يحسن إليهم.

هذا منهج السماء في كتاب الله وعلى لسان أوليائه.
والمؤمن يُدركُ ذلك جيداً فلا تخدعه الشعارات التي يطلقها أعداؤه، عصريةً حداثوية كانت أم دينية يلتبس فيها الحق بالباطل.

وهو يؤمن بأنَّ هذه الأبواق أبواق شيطان، فلا يصغي لها، لأن من أصغى إلى ناطقٍ فقد عبده.. والمؤمن يجلّ نفسه عن عبادة الشيطان التي لا تجتمع مع عبادة الله تعالى..

أجارنا الله من شياطين الإنس والجن، وثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا والدار الآخرة.

والحمد لله رب العالمين
 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


شعيب العاملي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2021/11/07



كتابة تعليق لموضوع : شَرَفُ الدُّنْيَا.. وَالْآخِرَةِ ! 
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net