صفحة الكاتب : د . صباح علي السليمان

من آراء المستشرقين في اللغة والأدب
د . صباح علي السليمان

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

   دأب المستشرقون في قراءة تراثنا العزيز وكانت لهم لمسات كثيرة في توضيح وتفسير بعض القضايا اللغوية والأدبية ؛ إذ قاموا بتعلم اللغة العربية ومعرفة أسرارها ؛ كي ينقلوا هذا الكم الهائل  من المعرفة إلى لغاتهم ، وإجراء تجارب عليها ، ومن هذه الآراء :

 اللغوية

      قام المستشرقون بترجمة كتب اللغة أمثال كتاب سيبويه وكتب عبد القاهر الجرجاني والجاحظ وغيرها ، ووقفوا على كثير من القواعد ، ومنها  دراستهم للهجات العربية ، فمن ذلك وقوف المستشرق إنّو ليمان في أن حروف الكتابة الصفوية أصلها ثمودي مما سموه العلماء ( الخط الثمودي الصفوي ) (  دراسات في فقه اللغة 56) ، وذكر أيضا المستشرق إنو ليتمان أنَّ  الجيم في  مصر، وكما كان ويكون في اللغات السامية الباقية. مثلا: كلمة: "جمل" في العبرية: gamal وفي السريانية: gamla وفي الحبشية: gamal. وتاريخ هذا النطق كما يأتي: في الابتداء تغير نطق: gim فصار: gim قبل حركة الكسرة فقط، ثم لفظت عند أهل الحجاز gim ( دراسات في فقه اللغة 52) ، والسبب في ذلك هو قرب الجيم من الكاف في المخرج ، وهذا دليل على أصالة اللغة العربية من بين اللغات .

  أمَّا في مسألة التذكر والتأنيث لبعض الألفاظ مثل الطريق والسوق والصراط والسبيل فالحجاز تؤنثها ، وتميم تذكرها وعلل ذلك المستشرق ريت Wright-  في أنَّ الخيال السامي قد خلع على بعض الأشياء الجامدة سمات الأشخاص الحية، فأنث بعضها وذكّر بعضها الآخر تبعًا لتصوره كلًا منه (دراسات في فقه اللغة 86 ) .

    أمَّا في الإعراب فقد ذكر المستشرق فولرز أنَّ القرآن نزل أول الأمر بلهجة مكة المجردة من ظاهرة الإعراب؛ ثم نقَّحَه العلماء على ما ارتضوه من قواعد ومقاييس (  دراسات في فقه اللغة 122 ) ، والصحيح أنَّ اللغة العربية معربة قبل نزول القرآن الكريم ، وقد شرفها الله سبحانه وتعالى بنزول القرآن الكريم بلغتها ، وهي ظاهرة  الإعراب قديمة في أصول اللغة العربية  ، وقد ذكر  المستشرق الألماني نولدكه أنّ النبط كانوا يستعملون الضمة في حالة الرفع والفتحة في حالة النصب، والكسرة في حالة الجر ، وكذلك وجود الإعراب في النصوص الأكدية وتشمل اللغتين البابلية والآشورية، ومن ذلك أيضا قانون حمورابي (1792 - 1750 ق. م) المدون باللغة البابلية القديمة، يوجد فيه الإعراب، كما هو في اللغة العربية الفصحى تماما، فالفاعل مرفوع، والمفعول منصوب وعلامة الرفع الضمة، وعلامة النصب الفتحة، وعلامة الجر الكسرة، تماما كما في العربية(معاني النحو 1/21) .

    أمَّا من الناحية الصوتية  فيعلق المستشرق شاده  على تقسيم سيبويه للمخارج ووصفها بقوله: "نشاهد غاية التفصيل مثلا في تقسيمه للأسنان، وقد قسمها إلى الثنايا والرباعيات والأنياب والأضراس. ويخالف هذا التدقيق معاملته للحلق، فإن سيبويه وإن قسمه إلى أقصى الحلق، وأوسط الحلق، وأدنى الحلق، لم يكن يعرف الحنجرة، ولا أجزاءها كالمزمار والأوتار الصوتية. وسبب هذا الاختلاف واضح، فإن الأسنان مكشوفة للرؤية، وأما الحنجرة وأجزاؤها وعملها، فتقتضي ملاحظتها إلى التشريح، وما أظن سيبويه يجترئ عليه، أو إلى بعض الآلات الفنية، كمنظار الحنجرة، أو الأشعة المجهولة، ولم يكن مثل هذه الآلات بين يديه، وكفى بذلك عذرا يعتذر به سيبويه، لعدم معرفته بالحنجرة وعملها. وإن ثبت أن الخلل المذكور في مدارك سيبويه منعه من أن يفهم بعض المسائل الصوتية، حق الفهم"( دراسات في فقه اللغة 33 ) ، علماً أنَّ علماء الصوت  لم يخرجوا عما وصفه سيبويه من مخارج الحروف، فكان وصف سيبويه لمخارج الحروف في منتهى الدقة ، وخاصة في موضع الحنجرة.

     وفي نطق الضاد والظاء  يقول المستشرق هنري فليش: "ولقد كان العرب يتباهون بنطقهم الخاص لصوت الضاد، وهو عبارة عن صوت مفخم، يحتمل أنه كان ظاء جانبية أي أنه كان يجمع الظاء واللام في ظاهرة واحدة. وقد اختفى هذا الصوت، فلم يعد يسمع في العالم العربي، وأصبح بصفة عامة إما صوتا انفجاريا، هو مطبق الدال، وإما صوتا أسنانيا هو الظاء". (المدخل إلى علم اللغة ومناهج البحث اللغوي 66).

ويذهب المستشرق "برجشتراسر" إلى أن "نطق الظاء، كان قريبا من نطق الضاد، وكثيرا ما تطابقتا وتبادلتا، في تاريخ العربية. وأقدم مثال لذلك، مأخوذ من القرآن الكريم، وهو قوله تعالى: {وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24)} [ سورة التكوير 24]، فقد قرأها كثيرون بالظاء مكان الضاد، التي رسمت بها في كل المصاحف. وممن قرأها بالظاء: ابن كثير، وأبو عمرو، والكسائي، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم كما قال مكي في كتاب الكشف"(المدخل إلى علم اللغة ومناهج الحث اللغوي 73).

      أمَّا قلب القاف همزة فموجودة في القاهرة وضواحيها، وفي القليوبية، والواسطى، وجزء كبير من الفيوم، وبعض البلاد العربية الأخرى، وعلى الأخص في سوريا ، و في تلمسان، وشمالي مراكش، وعند اليهود في شمال إفريقيا، وكذلك في اللغة المالطية، في معظم الأحوال، وجزيرة مالطة ينطقون بالقاف في جميع كلماتهم(بحوث ومقالات في اللغة 14). وربما يكون السبب اتحادهما في صفة الشدة والجهر .

الأدبية

   كانت هناك جهود للمستشرقين في موضوعات الأدب العربي ، وكذلك استفاد الأدب العربي من الدراسات الأدبية الغربية الحديثة في مجالي الأدب والنقد ؛ مما تحولت الدراسات الأدبية من الوصفية والتقليدية إلى دراسات إبداعية تظهر حقيقة إبداع الأدب العربي ،ومنها :

    يرى المستشرق هيوارث أنَّ ليس الغرض من الجاهلية النسبة إلى الجهالة المناقضة للعلم والمعرفة، وإنما الغرض منها السفاهة التي كانت مؤدية إلى الهمجية وانتشار الضلالة، وعبادة الأوثان والإسراف في القتل واستباحة الزنا والخمر وانتهاء هذا كله بتأريث العداوة وقيام الحروب وتفرق القبائل. (الشعر الجاهلي 22) ، وهو رأى صائب فالأفضل أن يقال عصر ما قبل الإسلام ، علماً أنَّ هذا العصر معروف بعادات العرب المميزة ، وجاء الإسلام ليقومها ، إذ قال النبي محمد صلى الله عليه وسلم " إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق " ( مسند البزار 2/476 ).

  أمَّا في مسألة انتحال الشعر فقد تعرض المستشرقون لقضية الانتحال، ويبدو أنَّ المستشرق الألماني تيودور نولدكه أول من لفت الأنظار إلى هذه القضية سنة 1864 م، فقد تحدث عن  تضارب الروايات واختلافها في نصوصها، وعن رواة الشعر الجاهلي، وعن تداخل الشعر بعضه في بعض الأحيان، بحيث يدخل شعر شاعر في شعر غيره، أو ينسب شعر شاعر لغيره ثم عن تغيير وتحوير الأشعار المقالة بلهجات القبائل لجعلها موافقة للعربية الفصحى( الشعر الجاهلي 45) ، ولعل أخطر من تعرض لقضية انتحال الشعر الجاهلي هو المستشرق صموئيل مرجليوث الذي نفى أنْ يكون الشعر الجاهلي الذي بين أيدينا معبراً عن العصر الجاهلي وإنما هو ـ في رأيه ـ نتاج مرحلة تالية لظهور الإسلام . (الشعر الجاهلي 49) لا شك أن الانتحال موجود في حقيقة الشعر عبر العصور ، أمَّا نفي شعر ما قبل الإسلام فهذا لا يجوز ، فكان النبي محمد صلى الله عليه وسلم يستشهد به (فعنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَمَثَّلُ مِنَ الأَشْعَارِ : وَيَأْتِيكَ بِالأَخْبَارِ مَنْ لَمْ تُزَوِّدِ ) مسند البزار /2/479 ) ، وهو قول طرفة ، وكذلك استشهد النبي محمد صلى الله عليه وسلم بقول لبيد فقال : " إِنَّ أَصْدَقَ كَلِمَةٍ قَالَهَا شَاعِرٌ كَلِمَةُ لَبِيَدٍ ثُمَّ تَمَثَّلَ أَوَّلَهُ وَتَرَكَ آخِرَهُ: أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلٌ , وَكَادَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ أَنْ يُسْلِمَ "( مصنف ابن أبي شيبة 5/272 ) .

     أمَّا عن قيمة الشعر العربي فيعلق المستشرق كامبفاير قائلا: إن المحاولة الجريئة التي قام بها طه حسين ومن يشايعه في الرأي، لتخليص دراسة العربية من شباك العلوم الدينية، هي حركة لا يمكن تحديد آثارها على مستقبل الإسلام (طه حسين وادبه في ميزان الاسلام 187) ، وهذا القول مردود ؛ لأنَّ لولا القرآن الكريم ما كانت عربية ، أمَّا تأثر الدكتور طه حسين بأقوال أساتذة الساربون فكان واضحاً في مقولاته .

   أمَّا عن إبداع التراث اللغوي فيذكر ديلاسي أوليري في كتابه ( Arabia before Mohammed)  من أن العربي ضعيف الخيال جامد العواطف، و قد دافع عن هذا الأمر الدكتور أحمد في كتابه (فجر الإسلام) بأن الناظر في شعر العرب، وإن لم ير فيه أي أثر للشعر القصصي أو التمثيلي، أو الملاحم الطويلة التي تشيد بذكر مفاخر أمة كـ"إلياذة هوميروس" و"شهنامة الفردوسي"، سوف يلاحظ رغم ذلك براعة الشاعر العربي في فن الفخر والحماسة والغزل والوصف والتشبيه والمجاز، وهو مظهر من مظاهر الخيال( الادب المقارن 98 ) .

     إذن هذه بعض الآراء فالمستشرقون قسمان قسم أحبّ علوم اللغة العربية وأبدع فيها ، وقسم حاربها ، وهذا الأمر موجود أيضا في علماء اللغة العربية المحدثين والمعاصرين  ، فكل عالم له ما له وعليه ما عليه ، والمحاورة تكون بالدليل العلمي لا بالكلام فقط .


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


د . صباح علي السليمان
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2022/02/01



كتابة تعليق لموضوع : من آراء المستشرقين في اللغة والأدب
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net