صفحة الكاتب : الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي

حَذَارِ.. يا ابن الأربعين!
الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

بسم الله الرحمن الرحيم

يُمَيِّزُ العقلاءُ من أبناءِ آدم عليه السلام بين (العدالة) و(المساواة)، ويُدرِكون أنَّ الاختلاف في التَّعامُل بين النّاس بحَسب أحوالهم وشؤونهم لا يُنافي العدالة، فإنَّها لا تعني (المساواة) في كلِّ شيءٍ بين (المختَلِفِين).

إنَّهم يُمَيِّزون بين أولادهم بحسب مراحل عُمرِهم وسِنِيِّهِم ومستوى إدراكهم، فلا يُكلِّفون الصغير بما يطلبونه من الكبير، ولا يُحمِّلون الجاهل ما يوكلونه إلى العالم، فيعذرون الطِّفلَ ويُخَفِّفون عنه مقابل الشدَّة والدِّقة في التعامل مع الشابّ العالم القادر المُدرك لما يفعل.
ولا يرى أحدٌ منهم في ذلك خلافاً للعدالة، لأنَّها لا تقتضي المساواة في مثل هذه المسائل.

وتسري مثلُ هذه القاعدة إلى يوم الجزاء، كما روي عن الإمام الباقر عليه السلام: إِنَّمَا يُدَاقُّ الله العِبَادَ فِي الحِسَابِ يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَى قَدْرِ مَا آتَاهُمْ مِنَ العُقُولِ فِي الدُّنْيَا (المحاسن ج‏1ص195).

فلا يتساوى في الحِساب أصحاب العقول المتفوِّقة معَ مَن سواهم، فما قَد يُقبل من عامة النّاس قد لا يُقبلُ منهم.
ولا يتساوى العالم مع الجاهل، قال الصادق عليه السلام: يُغْفَرُ لِلْجَاهِلِ سَبْعُونَ ذَنْباً قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ لِلْعَالِمِ ذَنْبٌ وَاحِدٌ (الكافي ج‏1 ص47).

فإنَّ إقدام العالم على ما يعلم قد يكشفُ عن سوء سريرة فيه، بخلاف إقدام الجاهل الذي لو علم بالذنب لما أقدم عليه.

وهكذا يتبيَّن أنَّ الإنسان لا يُعامَلُ في كلِّ أيامِّه في هذه الدُّنيا معامَلَةً واحدة، ولا حتى في الآخرة، فأعماله التي أتى بها صغيراً جاهلاً لا تستوي مع ما ارتكبه بعدما بلغ أشدَّه واستوى، وصار عالماً مُدركاً واعياً، قد خبرَ الحياة وأدرك صغر شأنها في نفسها، وعند بارئها.

لقد دلَّت بعض النصوص على أن اكتمال العقل يتمُّ في الثامنة والعشرين، أو في الخامسة والثلاثين، ما يعني أنَّ المرء بعد هذه المرحلة يكون قد بلغ مرحلة النُّضج، فتترقى معارفُه وتتوسَّعُ دائرة إدراكه شيئاً فشيئاً، وتتغيَّر نظرته للأمور مع كلِّ تجربة.

ويبتعدُ يوماً فيوماً عن أن يكون شابَّاً أرعَناً جاهلاً بالحياة، فيَخبُرها ويتلمَّس حقيقتها كلَّما نما عقله وزادت تجاربه، ويرى مِنَ العِبَرِ أمامه ما لا يكادُ يُحصى كثرة، حتى يصل إلى سنِّ الأربعين.

ولهذا السنِّ خصوصيَّتُه عند الله تعالى، فليس ما قبلَهُ كما بعده!
عن الإمام الباقر عليه السلام: إِذَا أَتَتْ عَلَى الرَّجُلِ أَرْبَعُونَ سَنَةً قِيلَ لَهُ خُذْ حِذْرَكَ فَإِنَّكَ غَيْرُ مَعْذُورٍ! (الكافي ج‏2 ص455).

في هذه المرحلة يدخُلُ الإنسانُ مرحلةً جديدة، بحيثُ لا يُقبلُ منه التهاوُنُ كما قد يُقبلُ منه قبل ذلك، ولا يُعذرُ في كلِّ ما كان يُعذر به، فيلزمه الحذرُ، بحيث يجتنب ما كان متراخياً ومتساهلاً فيه قبل ذلك.

عن الصادق عليه السلام: إِذَا بَلَغَ العَبْدُ ثَلَاثاً وَثَلَاثِينَ سَنَةً فَقَدْ بَلَغَ أَشُدَّهُ، وَإِذَا بَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً فَقَدْ بَلَغَ مُنْتَهَاهُ! فَإِذَا ظَعَنَ فِي إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ فَهُوَ فِي النُّقْصَانِ (الخصال ج‏2 ص545).

ليسَ هُناكَ من زيادةٍ يَرتجيها ابنُ الأربعين في كمال العقلِ، فإنَّه قد بلغه من قبل، ولا في قوَّة البدن، فإنَّه تجاوزَ أشدَّها، وها هو النُّقصان قد خطَّ طريقه إليه، فمسيرةُ الصُّعود يقابلُها نزولٌ وهبوط.

فكيف يعاملُه الله تعالى بعد ذلك؟

عن الإمام الصادق عليه السلام:
إِنَّ العَبْدَ لَفِي فُسْحَةٍ مِنْ أَمْرِهِ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَإِذَا بَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً أَوْحَى الله عَزَّ وَجَلَّ إِلَى مَلَكَيْهِ:

قَدْ عَمَّرْتُ عَبْدِي هَذَا عُمُراً!

فَغَلِّظَا وَشَدِّدَا وَتَحَفَّظَا، وَاكْتُبَا عَلَيْهِ قَلِيلَ عَمَلِهِ وَكَثِيرَهُ، وَصَغِيرَهُ وَكَبِيرَهُ (الكافي ج‏8 ص108).

لقد تغيَّرَ أمرُ الله للملكين، فبعدَ أن كانا من أهل التساهُل مع العَبدِ في شبابه، صارا من أهل الغِلظة والشدَّة في تسطير صحيفة أعماله!
فما الذي تغيَّر؟!

يقول تعالى: (قَدْ عَمَّرْتُ عَبْدِي هَذَا عُمُراً، فَغَلِّظَا..): وكأنَّ العبدَ لمّا عاش هذا العُمُرَ الطويل، لم يبق له عُذرٌ يعتذرُ به!

نعم أربعون عاماً عُمرٌ طويلٌ جداً، يقدرُ كلُّ عبدٍ فيه على معرفة الحقِّ وبلوغه ثمَّ اتباعه والعمل به.

فهل يُعذرُ عَبدٌ بعد هذا؟

إن كان جاهلاً قيل له: أعطيت فرصةً للتعلُّم.
وإن كان عالماً قيل له: أعطيت فرصةً للعمل، بل أُعطِيَ كلٌّ منهما فُرَصَاً لا تُحصى.

على أنَّ هذا لا يعني أنَّ للعبد أن يتهاونَ قبل هذه المرحلة، ففي الحديث الشريف: وَلَيْسَ ابْنُ الأَرْبَعِينَ بِأَحَقَّ بِالحِذْرِ مِنِ ابْنِ العِشْرِينَ، فَإِنَّ الَّذِي يَطْلُبُهُمَا وَاحِدٌ، وَلَيْسَ بِرَاقِدٍ، فَاعْمَلْ لِمَا أَمَامَكَ مِنَ الهَوْلِ، وَدَعْ عَنْكَ فُضُولَ القَوْلِ (الكافي ج‏2 ص455).

إن الشابَّ إذا كان مُدرِكاً عاقلاً فحكمه حكم ابن الأربعين في أصل الحذر وضرورته، حيثُ يجبُ عليه السَّعيُ للهرب من أهوال يوم الحساب، وليسَ إلهُ أبناء الأربعين مغايراً لأبناء العشرين، غاية الأمر أنَّه يُخفِّفُ عنهم قبل بلوغهم الأربعين، لكنَّهم لو تمادوا في المعاصي وتعمَّدوا الطُّغيان وتناسوا يوم الجزاء، أوقعهم ذلك في الخروج عن دين الله تعالى.

فإن ماتوا قبل بلوغ الأربعين كانوا محاسبين على ذلك وكان مصيرهم في النار.
وإن بلغوه شدَّدَ عليهم الملكان زيادةً عما شدَّدوا على أنفسهم، فيكون ذلك وبالاً عليهم.

على أنَّ الله تعالى وإن أمرَ الملائكة بالتشدُّد مع أبناء الأربعين، إلا أن هذا لا يعني أنهم ومَن زادَهم وَفَاقَهم سِنَّاً ليسوا محلَّ رأفة الله ورحمته، ولا أنهم خرجوا من عطفه ومحبته.

فعن الصادق عليه السلام في حديثٍ يبيِّنُ فيه حال غالب المؤمنين إلا من استُثني، يقول فيه عليه السلام:

- إِذَا بَلَغَ المُؤْمِنُ أَرْبَعِينَ سَنَةً آمَنَهُ الله مِنَ الأَدْوَاءِ الثَّلَاثَةِ: البَرَصِ وَالجُذَامِ وَالجُنُونِ.

- فَإِذَا بَلَغَ الخَمْسِينَ خَفَّفَ‏ الله عَزَّ وَجَلَّ حِسَابَهُ.

- فَإِذَا بَلَغَ سِتِّينَ سَنَةً رَزَقَهُ الله الإِنَابَةَ.

- فَإِذَا بَلَغَ السَّبْعِينَ أَحَبَّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ.

- فَإِذَا بَلَغَ الثَّمَانِينَ أَمَرَ الله عَزَّ وَجَلَّ بِإِثْبَاتِ حَسَنَاتِهِ وَالقَاءِ سَيِّئَاتِهِ.

- فَإِذَا بَلَغَ التِّسْعِينَ غَفَرَ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، وَكُتِبَ أَسِيرَ الله فِي أَرْضِهِ (الكافي ج‏8 ص108).

وهكذا يظهر أنَّ الشدَّة لا تعني سلبَ التوفيق لهذا العبد، ولا حرمانه من النِّعم والعطاء الإلهي، بل تزداد هذه النِّعم كلَّما زادت أيامُّه وظَهَرَ ضعفه، فالله تعالى هو الذي أمر برحمة الضعيفين، وهو يرى عبده يزداد ضعفاً يوماً بعد يوم، فيصيرُ محطَّ رأفته ورحمته به كلَّما تفاقمت حاجته لها.

وهو لا ينافي أمره بالشدَّة مع ابن الأربعين في كتابة أعماله، لأنَّ مِنَ الرحمة ما هو عامٌ يشمل كلَّ الناس، ومنها ما يختص بالمؤمنين بحسب درجاتهم، فإنَّ في تحذير ابن الأربعين باعثٌ له على تقوى الله تعالى، والتوجه إليه، ومراقبته في كل فِعلٍ وتَرك، فيورثه ذلك قرباً من الله تعالى، وسبباً لاستحقاق الرحمة الخاصة، حتى يصيرَ محبوباً لله تعالى، ومن أحبه الله أكرمه.

عن الصادق عليه السلام:
إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَيُكْرِمُ ابْنَ الأَرْبَعِينَ، وَيَسْتَحْيِي مِنِ ابْنِ الثَّمَانِينَ (الخصال ج‏2 ص545).

حذار يا ابن الأربعين.. هو مضمونُ الخطاب الإلهي، وإن كان ابن الأربعين محلَّ إكرام الله تعالى.

حذار يا ابن الأربعين.. لئلا تنتقل من محلِّ رضا الله تعالى وإكرامه إلى غضبه وسخطه.

حذار يا ابن الأربعين.. فقد أكرمَكَ الله في سَنَتِكَ هذه وقادم أيّامك، وحَذَّرَك وأنذَرَك، بعدما أظهرَ لك ما يكفيك.

حذار يا ابن الأربعين.. أن تكون ممن لا خَير فيهم، وقد قال الصادق عليه السلام:

ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ فَلَا يُرْجَ خَيْرُهُ:

1. مَنْ لَمْ يَسْتَحِ مِنَ الْعَيْبِ
2. وَيَخْشَ الله بِالْغَيْبِ
3. وَيَرْعَوِ عِنْدَ الشَّيْبِ (الكافي ج8 ص219).

ها هو الشيبُ قد وَخَطَك، وفَشَا فيك، والله تعال قد أمر بتوقير ذي الشّيبة من المؤمنين وإجلاله، وأنت أولى بذلك من غيرك، فَوِقِّر نَفسَك، وعَظِّم شأنك بطاعة ربِّك، لتكون من أحبِّ خلقه إليه.

جعلنا الله منهم، ووفقنا لطاعته في سِنِيِّ حياتنا، وأخذ بيدنا لما يحبّ ويرضى.

والحمد لله رب العالمين.

الثلاثاء 20 رجب 1443 هـ
22 – 2 – 2022 م


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2022/02/22



كتابة تعليق لموضوع : حَذَارِ.. يا ابن الأربعين!
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net