صفحة الكاتب : شعيب العاملي

السلام عليك.. يا شهر الله الأكبر!
شعيب العاملي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

 بسم الله الرحمن الرحيم
 
تَكَادُ تنقضي أيّامُ شهر رمضان المُبارك، الشَّهرُ الذي يُسَلِّمُ عليه المؤمنون مُقتَدِين بإمامهم زين العابدين عليه السلام، فيقولون في وداعه:
 
السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا شَهْرَ الله الأَكْبَر!
 
هو شَهرٌ عَظيمٌ نعيشُ ساعاته الأخيرة، نستذكرُ فيه جملةً من المعاني السامية التي شَعَرَ بها المؤمن فيه، أو يشعر بها في هذه اللحظات..
 
إنَّ وداعَ المحبِّ لمحبوبه أمرٌ عزيز، لكنَّ النّاس اعتادت أن يكون المحبوبُ شخصاً معروفاً، أو لَذَّةً عاجلةً.
 
إلا أنَّ المؤمن يعيشُ مع هذا الشَّهر لَذَّةً من نوعٍ آخر، تجعل فراقه لهذا الشَّهر عزيزاً، كأنَّه شخصٌ يألفه ويأنس به ويتألَّم لفراقه.
 
إنَّها لذَّةُ قبول الأعمال.. ولهذا الشهر خصوصيةٌ معها، فإنَّ المؤمن يدعو الله في آخر يومٍ من أيام الشهر المبارك فيقول:
 
اللهمَّ أَذِقْنِي لَذَّةَ القَبُولِ، وَطِيبَ العَفْوِ!
اللهمَّ أَشْرِبْ قَلْبِي لَذَّةَ الإِجَابَةِ، حَتَّى أَعْلَمَ أَنَّكَ [قَدْ] رَحِمْتَنِي تَفَضُّلًا مِنْكَ عَلَيَّ [وَامْتِنَاناً] (إقبال الأعمال ج‏1 ص263).
 
ما أسماهُ مِن معنى، لذَّة القبول عند الله، واستجابته للدُّعاء، وطيب العفو والرحمة منه عزَّ وجل، هو غاية مُنى السالكين إلى الله تعالى، المتعبِّدين إليه في شهره الأكبر، المتقرِّبين إليه بصيام الشهر وقيامه.
 
إنَّ لقبول العبادة لذَّةً لا يُدركُها إلا مَن ذاقَها، ولإجابة الدُّعاء آثارٌ لا يراها إلا الذي لا يستكبر عن عبادة الله، بالتوجه إليه، والطلب منه تعالى.
وإذا كان شهرُ رمضان هو شهر قبول الأعمال، وإجابة الدُّعاء، فإنَّه بنفسه يصيرُ شهراً للفرح والسرور، ثم يورثُ فِراقُهُ عند المؤمن ألماً وحزناً.
 
فَرَحُ المؤمن في شهر الله
 
يفرح المؤمن في شهر الله لأمورٍ وأمور..
 
أوَّلها لأنَّه صَبَرَ على ما أمره الله تعالى به، فصار ثوابه الجنة، فإنَّ شهر رمضان هو: (شَهْرُ الصَّبْرِ)، كما قال النبي (ص)، و(إِنَّ الصَّبْرَ ثَوَابُهُ الجَنَّةُ)، وها هو المؤمنُ قَد نالَ الجنَّة بصبره في هذا الشَّهر المبارك، فصار ذلك مدعاةً لفرحه وسروره.
وهو: (شَهْرُ المُوَاسَاةِ)، وهو (شَهْرٌ يَزِيدُ الله فِي رِزْقِ المُؤْمِنِ فِيهِ).
 
يفرح المؤمن في هذا الشهر لأنه: (أَكْرَم مَصْحُوبٍ مِنَ الأَوْقَاتِ)، فإنَّ المؤمنَ قد صاحَبَ أكرَمَ وَقتٍ يُقَدَّرُ لعبدٍ أن يصاحبه، فهو شهرٌ ليس كسائرالشهور، وأيامه ليست كالأيام، وساعاته ليست كالساعات، تتنزل فيها البركات، حتى يخاطبه المؤمن قائلاً: (السَّلَامُ عَلَيْكَ كَمَا وَفَدْتَ عَلَيْنَا بِالبَرَكَاتِ، وَغَسَلْتَ عَنَّا دَنَسَ الخَطِيئَاتِ).
 
قد يوفَّق مؤمنٌ ليرى ويُعَبِّر عمّا تَلَمَّسَ من بركات هذا الشَّهر، ويعجزُ آخرٌ عن إظهارها، لكنَّ أحداً من المؤمنين لا يُعدَمِ الشُّعورَ والإحساسَ بها، إحساساً حَيَّاً يراه في قلبه ووجدانه، حينما تصيرُ هذه الساعات سبباً لرقَّة القلب، والإنسانُ يصيرُ غير الإنسان إن رَقَّ قلبه.
 
نقول في وداع شهر الله:
السَّلَامُ عَلَيْكَ مِنْ مُجَاوِرٍ رَقَّتْ فِيهِ القُلُوبُ، وَقَلَّتْ فِيهِ الذُّنُوبُ، السَّلَامُ عَلَيْكَ مِنْ نَاصِرٍ أَعَانَ عَلَى الشَّيْطَانِ.
عندما ترقُّ القلوبُ وتقترب من الله تعالى، تراه بحقائق الإيمان، وتطمئنُّ بذكره عزَّ وجل، وتزهرُ بنور الله تعالى ونور أوليائه.
 
إنَّ هذا الشهر هو شَهرُ عِتق العباد من النيران، وشهرُ محو الذُّنوب، وستر العيوب، وصرف السوء، وإفاضة الخيرات.
السَّلَامُ عَلَيْكَ مَا كَانَ أَطْوَلَكَ عَلَى المُجْرِمِينَ، وَأَهْيَبَكَ فِي صُدُورِ المُؤْمِنِينَ!
 
سبحان الله، لقد جعلَ عزَّ وجلَّ لهذا الشَّهر هيبةً في صدور المؤمنين، كما جعل لآل محمدٍ (ع) في صدورهم ودّاً.
فشهرُ رمضان هو شهرُ المؤمنين بالله، والمؤمنون بالله حقاً هم أهل طاعته، ولا طاعة لله إلا بطاعة أوليائه، آل محمد عليهم السلام.
 
المؤمنون هم أهل هذا الشهر حقاً، فهم أهل التقوى والورع، وإنما يتقبل الله من المتَّقين، فلا يشعر بلذَّة قبول الأعمال سواهم، ولا يشرب قلبٌ لذة الإجابة غير قلبهم.
 
حزن المؤمن لانقضاء شهر الله
 
يفرح المؤمنون في هذا الشَّهر، ثم يحزنون لفراقه، فيقولون في وداعه:
فَنَحْنُ مُوَدِّعُوهُ وِدَاعَ مَنْ عَزَّ فِرَاقُهُ عَلَيْنَا، وَغَمَّنَا وَأَوْحَشَنَا انْصِرَافُهُ عَنَّا!
 
مَن كان ينعَمُ بكلِّ هذه النِّعم في شهر الله المبارك سيُصَابُ بالغمَّ لانقضائه، يستشعر الخروجَ من باب الرَّحمة الواسع هذا قبل انقضاء أيامه، فيتوسَّل إلى الله تعالى أن لا يحرمه رحمته ورعايته في سائر الأيام.
 
لقد صار الشَّهرُ قريناً للمؤمن، ولكن أيُّ قرين: جَلَّ قَدْرُهُ مَوْجُوداً، وَأَفْجَعَ فَقْدُهُ مَفْقُوداً، وَمَرْجُوٍّ آلَمَ فِرَاقُهُ!
 
يفتقدُ المؤمن طوال عامه هذا القرين، ويشتاقُ إليه، حتى إذا أحياه الله تعالى ليلقى هذا الشَّهر أَلِفَهُ، وآنَسَ به، لكنَّه سرعان ما ينقضي، فيقول له المؤمن:
السَّلَامُ عَلَيْكَ مِنْ أَلِيفٍ آنَسَ مُقْبِلًا فَسَرَّ، وَأَوْحَشَ مُنْقَضِياً فَمَضَّ!
 
هو الأُنسُ بقدومه، والوحشة بانقضائه، يعقبها الحزن والألم.. حزنٌ يبدأ عليه (قَبْلَ فَوْتِهِ)، فيتوجَّهُ المؤمن حينها إلى الله تعالى، بأحبِّ الخلق إليه، محمدٍ وآله عليهم السلام، كي يَجبُر لهم هذه المصيبة، وهو الجواد الكريم.
 
يقول المؤمن: اللهمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَاجْبُرْ مُصِيبَتَنَا بِشَهْرِنَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي يَوْمِ عِيدِنَا وَفِطْرِنَا!
لقد صارَت مُفارقةُ هذا الشَّهر مصيبةً عند المؤمن دون سواه، لأنَّ المؤمن عرفَ فضلَه، وعظيمَ شأنه عند الله، وراعى حقَّه، فنال به عظيم الثواب، وتألَّم لفراقه.
 
لا ريب أنَّ الله تعالى سيستجيب لعباده المؤمنين، ويجبُر كسرَهم ومصيبَتَهم، فيرعاهم في قادم الأيام، وقد جعل لهم أوَّلَ يومٍ بعد انقضاء هذا الشَّهر عيداً! يخفِّفُ لهم بذلك مصيبتَهم بفراق الشهر المبارك.
 
أليس هو الإله العظيم الذي شرَّفَهم بهذا الشهر، ثمَّ وفَّقهم له (حِينَ جَهِلَ الأَشْقِيَاءُ وَقْتَهُ، وَحُرِمُوا لِشَقَائِهِمْ فَضْلَهُ).
فليس المؤمنُ المُطيع كالشقيِّ الجاهل المحروم.
 
يعلمُ المؤمنُ أنَّ نيلَه مرادَه موقوفٌ على رحمة الله، فيخاطب ربَّه قائلاً:
رَبَّنَا.. أَجَلُّ المَصَائِبِ عِنْدَنَا مَا إِنْ خَرَجْنَا مِنْ شَهْرِنَا هَذَا، مُحْتَقِبِينَ بِالخَيْبَةِ، مَحْرُومِينَ، قَدْ خَابَ طَمَعُنَا، وَكَذَبَ ظَنُّنَا.. اللهمَّ فَاجْعَلْ عِوَضَنَا مِنْ شَهْرِ صَوْمِنَا مَغْفِرَتَكَ وَرَحْمَتَكَ..
 
عندما يرى المؤمن أنَّ أعظم المصائب عنده أن ينقضي هذا الشَّهرُ محروماً لا مرحوماً، ويتوسَّل إلى الله تعالى بأحبِّ الخلق إليه أن يرحمه، فإنَّ الله تعالى لا يُخَيِّبُه.
هذا حالُ المؤمنين في آخر ساعات هذا الشَّهر..
 
بل إنَّ خشيتهم تزداد فيها، وتوجُّهُهم إلى ربِّهم يتضاعف، لما يعلمون من أنَّه: (إِذَا طَلَعَ هِلَالُ شَهْرِ رَمَضَانَ غُلَّتْ مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ).
 
وما إن ينقضي الشَّهر حتى يرجع الشياطين إلى سابق عهدهم، فإنَّ حال أحدهم مع المؤمن أنّه: يُزَيِّنُ لَهُ المَعْصِيَةَ لِيَرْكَبَهَا، وَيُمَنِّيهِ التَّوْبَةَ لِيُسَوِّفَهَا.
 
تشتدُّ خشية المؤمن، فيخاطب ربه في هذه الساعات قائلاً:
أَعُوذُ بِوَجْهِكَ الكَرِيمِ يَا رَبِّ أَنْ يَطْلُعَ الفَجْرُ مِنْ لَيْلَتِي هَذِهِ، أَوْ يَتَصَرَّمَ شَهْرُ رَمَضَانَ، وَلَكَ قِبَلِي تَبِعَةٌ أَوْ ذَنْبٌ تُرِيدُ أَنْ تُعَذِّبَنِي بِهِ يَوْمَ القَاكَ.
 
ويقول:
أَسْأَلُكَ بِاسْمِكَ بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، أَنْ تُصَلِّيَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، وَأَنْ تَجْعَلَ اسْمِي فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ فِي السُّعَدَاءِ، وَرُوحِي مَعَ الشُّهَدَاءِ، وَإِحْسَانِي فِي عِلِّيِّينَ وَإِسَاءَتِي مَغْفُورَة.
 
ويقول:
فَأَسْأَلُكَ بِوَحْدَانِيَّتِكَ لمَّا صَلَّيْتَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، صَلَاةً كَبِيرَةً كَرِيمَةً شَرِيفَةً، تُوجَبُ لِي بِهَا شَفَاعَتُهُمْ فِي القِيَامَةِ عِنْدَكَ، وَصَلَّيْتَ عَلَى مَلَائِكَتِكَ المُقَرَّبِينَ، وَأَنْبِيَائِكَ المُرْسَلِينَ، وَأَسْأَلُكَ بِحَقِّكَ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، لمَّا غَفَرْتَ لِي فِي هَذَا اليَوْمِ مَغْفِرَةً لَا أَشْقَى بَعْدَهَا أَبَداً، إِنَّكَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ، وَصَلَّى الله عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ كَثِيراً وَرَحْمَةُ الله وَبَرَكَاتُه‏.
 
فيستجيب الله له دعاءه، ويكفيه ما أهمَّه، مما علمَ وما لَم يعلَم.
 
خَتَمَ الله لنا بحسن العاقبة، وكَتَبَ لنا لقاء شهره المبارك عامنا القادم في سلامةٍ من ديننا ودنيانا، وثَبَّتَنَا على ولاية أوليائه، والبراءة من أعدائه، إنه سميع مجيب.
 
والحمد لله رب العالمين
 
الأحد 29 شهر رمضان 1443 هـ الموافق 1-5-2022م


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


شعيب العاملي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2022/04/30



كتابة تعليق لموضوع : السلام عليك.. يا شهر الله الأكبر!
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net