صفحة الكاتب : رجاء بيطار

ماء الحياة 
رجاء بيطار

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

- بكيت حتى ارتويت.
- وهل يرتوي المرء من البكاء؟!
 هي نفسي، حاورتها وداورتها، ولما لم أجد الجواب، انكفأت عليها أحاول أن أستنطق نياط القلب وأزمّة الفؤاد، ولكنها كانت لي بالمرصاد، فوقفتْ على شفير أسئلتي، وراحت تمعن غوصًا في عمق المراد...
وما يعني البكاء؟!
أهو حزنٌ بلغ ذروته، حتى تصاعد لهيب جذوته، فحوّل خفقاتِ القلب زفرات، ودماءَ الوريد عبرات؟!
أم هو حنينٌ قد بلغ مداه، حتى جلجل في الوجدان صداه، وزقزقت بلابل ربيعه وغرّدت على غصن نداه، واستحالت ينابيع صداحه قطرات كوثرٍ ينتعش بها وينثرها عبيرًا عند نجواه؟!
أم هو شوقٌ برّح بالمشتاق حتى أراق الصمت، وسكب دقّات الوقت فوق مذبح الحسرات، وتوّجها بإكليل الشوك ليصلب آخر أنفاسه عند جلجلة الحياة؟!
أم هو خشوعٌ سجد في فناء رحمة الرحمن، ففاض ألقًا ورفرف ما بين السماء والأرض بجناح الإيمان، فارتقى فوق قمم الملتقى حيث تضمحلّ كلّ الألوان، ويبقى وجه ربك ذي الجلال والإكرام؟!
أم هو عشقٌ لا يحيط به العاشقون، ونورٌ لا يحدّه الحادّون، وانطلاقٌ في فضاء الملكوت نحو الحيّ الذي لا يموت؟!
بلى...
فالبكاء ليس حزنًا، ولا سوادًا مرصّعًا بلآلئ القلوب، ولا نهايةً تشيّع بها النفس شمسها عند الغروب، بل هو قمةٌ من قمم الشعور، لا يرتقيها إلا من فاض وجدانه وشمخ إنسانه وتداخل في طينه شعاع النور، حتى غدا مجبولًا بمسكٍ منشور، مترقرقًا كالماء الطهور، ينثرها ويرويها من عصارة روحه ريًّا لا تظمأ بعده أبدا.
والبكاء شيمةٌ من شيم الإنسان، يتميّز به كما العقل عن الحيوان، إلا أنه محظورٌ على من نُزع من قلبه الخشوع، أولئك الذين يصفهم الخالق في كتابه العزيز بقوله: «... فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهارُ...»(1). 
والماء، أصل كلّ خلقٍ حيّ، فلا عجب أن يكون البكاء الذي يعتصر ثمار القلب، هو ماء الحياة، به يميز الأفئدة الحية من الميتة، ويسمها بوسام الرقيّ الإنسانيّ، ويطبعها بطابع النقاء الوجدانيّ...
ولكن، شتّان ما بين بكاءٍ عارضٍ يذرفه المرء لحادثٍ عابر، فينفّس به عن كربة، أو يعبّر به عن فرحةٍ أو شوقٍ أو حنينٍ أو غربة، وما بين بكاءٍ يغتسل به الفؤاد من أدرانه، وتشرق به الروح فتتطهّر بالمحبة... وأي بكاءٍ ذاك، لا يدانيه في الكون شعور، ولا يعرفه حقّ معرفته إلا من ذاق طعم التغلغل في اللامنظور، حيث تشفّ الأجسام وترقّ الأحلام، حتى تبلغ سدرة المنتهى، صفاءً وقربة.
هو ذاك البكاء...
تلك الدمعة المقدّسة التي تتصاعد من أديم الكيان الترابيّ، لتتجمّع مع دماء الأوردة في فؤاد عاشقٍ لا كالعشّاق، وتتلبّد سحابًا ماطرًا في سماء مقلةٍ تشتاق اللقاء السرمديّ، فإذا هي تستحيل قطرةً من طهرٍ تنسكب وتُراق فوق نار الفراق، فلا تزيدها إلا لهيبًا لذيذًا ترتوي به الأحداق، ذاك أنها ليست من طين هذه الأرض، بل هي كوثرٌ مزاجه سلسبيلٌ وكافور، ينبثق من عين الزمان ليخترق سجوف العصور، ويمزّق حجب المكان ليصل إلى كل قلبٍ غيور.
 تلك دمعةٌ كانت مذ كان آدم، لم تقوَ على مسحها وكفكفتها كل المقادير والأزمنة، فهي قطرةٌ من ماء الحياة، تحيا بها القلوب، وتُحلّق بها الأرواح فوق كل الأمكنة، وتصل بالعاصي التائب، والعاشق الذائب، إلى عليين. 
 ومن شيم الدموع أن تنضب، ولكن هذه الدمعة الفريدة متّصلةٌ بمعينٍ كوثريّ ملكوتيّ، ينثال ما بين الأرض وطوبى، مشعشعًا بذاك الحنين الأزليّ الأبدي إلى الحقّ المبين، الذي قدّمته على مذبح كربلاء، سيدة الإباء والفداء، قربان الولاء لإله السماء، هي الدمعة التي تذرفها العيون على سيد الشهداء، بها تتطهّر الروح، وترفرف في العلاء، وتشرق بالعطاء، عطاء الحسين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) (سورة البقرة: 74).


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


رجاء بيطار
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2022/06/13



كتابة تعليق لموضوع : ماء الحياة 
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net