صفحة الكاتب : زينب العارضي

حكاية ثائر 
زينب العارضي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

 جُرحُه الغائرُ حَوَّلَه إلى أعظمِ ثائرٍ، لم يكُنْ همُّه إلا نُصرةَ المظلومينَ والقضاءَ على الظُلمِ والظالمين، وإحقاقَ الحقِّ في زَمَنِ سيطرةِ القَتَلةِ والمُجرمين الذين سفكوا دماءَ الطاهرين وأفرغوا ما في قلوبِهم السوداء من حِقدٍ دفين، قد توارثوه مُنذُ عشراتِ السنين.

رجلٌ ليسَ ككُلِّ الرّجالِ، وريثُ أُسرةٍ عُرِفتْ بالشجاعةِ والإقدامِ وخوضِ الصِعابِ والأهوال، نُصرةً للحقِّ وطلبًا لرضا ذي العِزّةِ والجلال.
صاحبُ رأي سديد، وعملٍ رشيد، معروفٌ بثباتِ القدم وأنّه في طريقِ الحقِّ قويٌّ عتيد، لا يخضعُ للمُساومات، ولا تَفُتُّ عضده المِحَنُ والتحدّيات، ضَليعٌ بمواجهةِ الحيَلِ والمكايدِ والمؤامرات، إنّه ذلك البطلُ الأبيّ المُختارُ الثقفي (رضوان الله عليه)..
اسمٌ لمعَ في سماءِ الشُرفاء، وطُرِّزتْ حروفُه بالدّماءِ السائلاتِ ذودًا عن الحقيقةِ الغرّاء، ارتبطَ ذكرُه بمحنةِ كربلاء وما جرى فيها على ريحانةِ المُصطفى سيّدِ الشهداء (عليه وعلى آبائه وأبنائه الكرام أزكى السلام وأطيب الثناء)، فما إنْ يُذكَرُ اسمُه حتى يصمّ السمعَ نداءُ: يا لثاراتِ الحُسين (عليه السلام)...
شعارُه الذي رفعَه بعدَ أنِ اكتوى فؤادُه بمُصابِ سيّدِه وإمامِ زمانِه، الذي لم يحظَ بنُصرته؛ لتغييبِه في السجونِ من قِبَلِ الطواغيتِ أول انطلاقتِه كي لا يكونَ من جُندِه وأعوانِه..
شعارٌ يحكي عُمقَ الألمِ الذي استوطنَ قلبَه وجرحَ روحَه التي ذابتْ في ولائها للعِترة، راحَ يُترجِمُه عملًا دؤوبًا وحركةً مُتواصلةً وقيامًا مُقدّسًا لإعلانِ الثورة، في انطلاقةٍ إلهيةٍ وقودُها جراحُ الطفِّ الغائرة، التي خَيّمتْ بحزنِها على بيوتِ العلويين المطهرة، وحوّلتْ نهارَهم إلى ليلٍ حالك بعدَ رحيلِ تلك الوجوهِ المُشرقةِ النيّرة...
سنواتُ عذابٍ وآهاتُ مصابٍ رافقتْ آلَ البيتِ (عليهم السلام) بعدَ رجوعِهم من كربلاء، فصليلُ السيوفِ وصرخاتُ الأطفالِ والنساءِ ما تزالُ ترنُّ في أسماعِهم، ومنظرُ الصغارِ وهم يركضون في البيداءِ هربًا من نارِ الأعداء ما فَتِئ يُجري غزيرَ دموعِهم، وتلك الذكرياتُ المُرّةُ التي عاشوها وطُبِعتْ في أذهانِهم طوالَ رحلةِ سبيهم تؤلمُهم وتحرقُ قلوبَهم، فيتجدّدُ الرُزءُ مع كُلِّ أَنَّةِ طفلٍ أو لوعةِ ثكلى، ويرتفعُ النشيجُ عندَ كُلِّ رشفةِ ماءٍ أو آيةٍ تُتلى، حتى غادرتِ الابتسامةُ وجوهَهم، وكُسِفَتْ شمسُ البهجةِ في سماءِ بيوتهم، فلا حديثَ لهم إلا وينتهي إلى رُزءِ سيّدهم الإمامِ الحُسين (عليه السلام)، وعندَ مِحنتِه تتضاءلُ العباراتُ وينتهي وهجُ الكلام، فتُترجِمُ الزفراتُ والعبراتُ ما حلَّ بقلوبِ ساداتِ الأنام...
وهُنا يخرجُ المُختارُ طلبًا للثأر، ويتوعّدُ بالقصاصِ من قَتَلةِ سيّدِ الشهداء وأبي الأحرار، ولا غرابةَ في أنْ ينالَ شرفًا كهذا وهو البطلُ المِغوار، الذي جعلَ من بيتِه ملجأً للشيعةِ إبانَ قدومِ سفيرِ الحُسين مُسلمٍ بن عقيل (سلام الله عليه)، الذي آواه في بيتِه وسَخّرَ كُلَّ وجودِه لخدمتِه، وإنجاحِ مشروعِ نهضةِ سيّدِه، وقد بالغَ في حمايتِه وتوفيرِ كُلِّ فُرَصِ النجاحِ لعملِه، إلا أنَّ الغدرَ والمكرَ، وغفلةَ جُملةٍ لا يُستهانُ بها من البشر، لطالما كانتْ سببًا في وأدِ المشاريعِ الإلهيةِ التي تحملُ الخيرَ والسعادةَ للبشرية...
نعم، لا غرابةَ في أنْ يكونَ المُختارُ الثقفي (رضوان الله عليه) سببًا في إدخالِ السرورِ على البيتِ الهاشمي، وهو الذي تحمّلَ في سبيلِ نُصرتِهم السجنَ والتعذيبَ والتنكيلَ، وعينُه التي شُتِرَت - بقضيبِ ابنِ زياد (لعنه الله (تعالى)) إبانَ اعتقاله- على حُبِّه وولائه خيرُ دليل..
لقد انطلقَ هذا الثائرُ الأبيُّ للأخذِ بثاراتِ آلِ النبي، ولاحقَ بمُجرّدِ تحرُّرِه من السجنِ أعداءَ الإسلام وقَتَلةَ الإمامِ الحُسين (عليه السلام) في كُلِّ مكانٍ حتى أذاقَهم الموتَ الزؤام، وشفى قلوبَ أهلِ البيتِ (عليهم السلام)، وبَرّدَ أكبادَهم التي أحرقتْها الآلام، وما بَلسَمَ جراحَها مرورُ الليالي والأيامِ وتصرُّمُ الشهورِ والأعوام..
جاءَ المُختارُ الثقفي ليضع حدًّا للمُعاناةِ، ويفتحُ بابًا جديدًا للحياةِ، في بيوتٍ ألِفَتِ الحُزنَ والأسى والزفرات، حتى شكرَ سادةُ الساداتِ عملَه، وترحّموا عليه وثمّنوا مواقفَه وفعلَه، ونطقوا أمامَ الملأ بفضلِه، فقد رويَ عن أبي عبدِ اللهِ الصادق (عليه السلام) أنّه قال: "عندَما أرسلَ المُختارُ برأسِ عبيدِ اللهِ بن زياد وعمر بن سعد إلى المدينة: إنَّ المُختارَ أدخلَ السّرورَ على أهلِ البيت (عليهم السلام). ثم قال: ما امتشطتْ فينا هاشميةٌ ولا اختضبتْ حتى بعثَ المُختارُ إلينا برؤوسِ الذين قتلوا الحُسينَ (عليه السلام)".
ورويَ عن الإمامِ السجّاد (عليه السلام) أنّه قال: "جزى اللهُ المُختارَ خيرًا"...

علي الخباز, [٠٣/٠٨/٢٠٢٢ ٠٥:١٥ ص]
ولا ريبَ أنّ موقفاً مُشرِّفاً مثل هذا سيخلقُ أعداءً كثيرين له؛ لذلك واجهَ هذا البطلُ الأبيُّ صنوفَ المُعاناةِ في طريقه، وتحمّلَ مُختلفَ الابتلاءاتِ في مسيرتِه، لكنّه لم يتراجعْ لإيمانِه بخطه، وثقتِه بنصرِ اللهِ (تعالى) له، ومحقِ عدوه ولو كانَ ثمنُ ذلك العُمرَ كُلَّه، فالشهادةُ في فكرِ الصالحين تُحفةُ اللهِ التي لا تتهيّأ لأيٍّ كان، ونيلُها يحتاجُ إلى توفيقٍ ولطفٍ خاصٍّ من الرحمن، وما الحياةُ في نظر العبدِ الحقيقي إلا رحلةُ جهادٍ وإيمان، ينبغي أنْ تُختَمَ بخيرٍ وإحسان، وهكذا كانَ مصيرُ المُختارِ عداوةَ الأشرارِ من بني أمية وآلِ الزبير ومن لفَّ لفَّهم في رحلةِ التمحيصِ والاختبار...
لقدِ اختارَ المُختارُ نهايتَه على طريقِ سادتِه الذين ذابَ في حُبِّهم، واصطبغتْ كُلُّ حياتِه بجرحهم، فحملَ همَّهم وقودًا يوري كبدَه بنارٍ لا تنطفئ أبدًا، بل تزدادُ سعيرًا كُلّما لاحَ طيفُهم، أو مرَّ في سمعِه ذكرُ مُصابهم؛ لذا جعلَ من كربلائهم مُنطلقًا لثورتِه التي كانَ يُريدُ لها أنْ تُعيدَ حقَّهم، وتُبلسِمَ شيئًا من جراحِهم، وتنشرَ عبقَ كلماتِهم، وتنثرَ عبيرَ عدلِهم الذي غابَ مع انطفاءِ أنوارِ علي (عليه السلام) والدهم.
ولكن لم يُكتبْ لثورته الاستمرارُ بعدَ رحلةِ الثأر من الأشرار، ومسيرةِ النشرِ لنهجِ الميامين الأبرار، فقد تكالبَ على قتلِه واستئصالِ وجودِه مَنْ أعمى الشيطانُ قلبَه فاختارَ الخزيَ والعارَ والخلودَ في النار، لتكون نهايتُه على يدِ آلِ الزُبير الذين كشفوا عن حقيقتهم، وبانَ بجلاءٍ ما كانَ مخفيًا عن الناسِ من أمرِهم، عندما أقدموا على نحرِ كُلِّ من كانَ مع المختار الثقفي حتى بعدَ استسلامهم، فضلًا عن أمرهم لجلاوزتهم بقطعِ رأسِ المُختارِ وكفِّه وتسميرِها بمُسمارٍ إلى جانبِ المسجدِ ليُرعِبوا كُلَّ من يُفكِّرُ بالثورةِ ضِدّهم.
وبهذا فضحَ الدمُ الزكيُّ للمُختارِ أكاذيبِهم، وكشفَ الستارَ عن مكرِهم ودهائهم وحقيقتهم، فكانتْ تلك الدماءُ الزكيةُ من جهةٍ أولَ مسمارٍ في كرسي الدولةِ الزبيرية، ومن جِهةٍ أخرى دليلَ الولاءِ والانتماءِ الصادقِ للعِترة النبوية، التي ترجمتْ بتدفُّقِها معنى أنْ يكونَ المرءُ معهم وعلى خطِّهم، وأوضحتْ بجريانِها ما هي البراهينُ التي ينبغي تقديمُها في سبيلِ إثباتِ ولائهم، نسألهُ (تعالى) أنْ يوفِّقَنا وإيّاكم للكونِ معهم، والسيرِ على طريقِهم من خِلالِ الإخلاصِ لمنهجِهم، وحملِ فكرِهم، وبثِّ كلماتِهم، والانتظارِ الصادقِ لقائمِهم الذي تتحقّقَ على يديه كُلُّ أحلامِهم، وتُشرِقُ من فناءِ بيته الأقدس شمس أنوار علومِهم (صلوات الله وسلامه عليهم).


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


زينب العارضي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2022/08/05



كتابة تعليق لموضوع : حكاية ثائر 
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net