الكذب فن بغدادي رائع
محمد غازي الأخرس
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
أنا أحبّ الكذابين منذ طفولتي، لا أقصد الذين يكذبون بطريقة سوداء للتغلّب علينا بالباطل، إنما أعني أولئك الحبّابين، الحلوين، من أمثال إبراهيم عرب وابن عمي جبّار وأمثالهما ممن يؤلفون قصصا هم أبطالها ثم يتماهون مع الوهم فيصدّقون أنفسهم، حتى إذا ضحك أحدنا أو أبدى استغرابه مما يسمع نظر الكذاب إليه شزرا ثم أشاح عنه باتجاه من يصدقه.
أنا أعدّ هؤلاء أشبه بروائيين أخطأوا الدرب إلى الأدب وشطّوا لناحية أخرى، حيث أحدهم يستيقظ، كما يروي العرب، فيكتشف أن قطعة من الليل لا تزال منتبهة رغم طلوع الصباح فيتعجب ويطاردها بسيفه فتهرب منه وتأبى التفتت. ثم لا يهدأ الفارس من طراده لها حتى ينتصر عليها فيبعثر سوادها بحسامه. الكذّاب الذي روى هذه الحكاية لا يقلّ إبداعا، برأيي، عن أيّ قاص ما بعد حداثوي. أنه مثل ابن عمي الذي حدّثني عن بطولاته في حرب السنوات الثمان حتى تخيلته بطل فيلم سوفيتي. لقد حدّثني مرة أن فوجه ابتلي أياما بـ( كوسج ) يأكل الجنود وكان الضباط يتوسلون به أن ينزل إلى النهر ويخلصهم منه وهو ( يتمندل) عليهم . وفي الأخير لا يستغرق بيديه الأمر أكثر من دقائق، يقطّع ( الكوسج ) بحربته ويأتي به مقتولا . بل انه أحرج قائد الفيلق ، ذات مرة، بجرأة قلّ نظيرها ؛ يزورهم في ( أم الرصاص) فينبري له ابن عمي الهمام قائلا بلهجة جنوبية مكسورة ـ سيدي، الجيش بيه عنصريات . فيسكت الجميع ويسأله القائد ـ شلون بيه عنصريات ؟ فيجيب جبار ـ مقدم فلان ونقيب فلان كانوا مجازين بالهجوم وأنطيتهم أنواط شجاعة وآنه خلّصت الفوج كله ومحد انطاني نوط!
بطولة ما بعدها بطولة تنتهي كما في الأفلام والأحلام بيد القائد وهي تنزع نوطا من مقدم لتعلّقه في صدر ابن عمي المكرود .
مسكين يا ابن عمي، يا من كرموه في الجيش في الثمانينات بـ3000 آلاف دينار ، دينار ينطح دينارا ، وحين سألته في أيّ مصرف أودع المبلغ الكبير هذا، ابتسم وقال ـ جا أنه زوج ، اكلك على المصرف وتروح تسحبهن !!
هذا النوع من الأبطال ينتشر في مجتمعنا كانتشار الفاسدين الإداريين في الجيوش والدوائر وعلّة وجودهم أن مجتمعنا يقوم على مركزية البطل الفردي الذي ينتصر على أقوى الكواسج في الأهوار ويدحر أشرس الأسود في الفيافي ويقلبه ( عل البطانه) ، كما فعلها ابراهيم عرب. ليس هذا حسب فالفرد البطل دائما هو الـ( دون جوان) الألذ بالنسبة للنساء ولا تملك الصبايا أمامه إلا التوسل للفوز بنظرة منه. عرب رحمه الله زعم مرة أن المس بيل وقعت في شباكه وظلت تطارده فترة وهو يتهرّب منها .
وكان رواد مقهاه الشهيرة في الكرخ يجارونه وهم يسمعون مثل تلك الحكايات الشبيهة بالقصص القصيرة ؛ يتذكر أحد روّاده حكاية تفطس من الضحك ، فذات يوم قرر إبراهيم أن يصيد سمكة ، رمى السنّارة في دجلة ثم أخذته غفوة قصيرة ، وما هي إلا هنيهة حتى سحبته السنّارة بقوة فاستفاق وسحبها ، وإذا جانب الرصافة ينسحب كله و( يطبك) بالكرخ إذ يبدو أن السنارة ( كلبت ) بالرصيف النهري المقابل . ولكي لا تخرب بغداد ، عاد عرب فدفع الرصافة برجله وأعادها إلى مكانها . وهنا سأله أحد الجالسين في المقهى : أبو عرب لعد جسر الصالحية وين صار؟ فبادر بسرعة : ضميناه ابيت خالتك !
نعم ، منذ طفولتي أحببت الكذابين من هذه الرجل فهم يكثفون أحلامنا في القوة والتمكن والانتصار على قوانين الطبيعة . بالمقابل فإنني كرهت النمط الآخر الذي تعرفونه جيدا ، ذلك أن هؤلاء ، على العكس ، يلخّصون كلّ كوابيسنا وإحباطاتنا ، ويجهدون للانتصار علينا وليس على الأسود وأسماك القرش والعفاريت وقطع الليل التي تأبى التفتت في ضوء النهار..
حقي لو مو حقّي!