أثر الفكاهة (الكوميديا) في الناس .. وتأريخها
رضاء الحكيم

إن الفكاهة متأصلة في حياة الإنسان، فهي ملمح من ملامح سلوكه اليومي العام، يستمتع الناس بها أكثر لو كانت بمشاركة الآخرين فرحهم وابتسامتهم، فهي قادرة على تقوية الأواصر البينية في المجتمع، لتخلق علاقات وطيدة بين الناس ولا سيما الأصدقاء والمقربين، فهو سلوك إيجابي صحي ينعش الحياة ويجعلها مسالمة هادئة وبلا توترات أو ضجر، وقد تكون حلا لكثير من المواقف المشحونة بالغيض والعصبية المفرطة، فتكون مرهما لتخفيف حدية أو شدة الخطاب وجديته.

وكما هو معلوم ما للضحكة والابتسامة ومشاكساتها المفرحة من دور في العمل وشده العصبي وروتينه الثقيل على النفسية في أجواء العمل الجادة، فضلا عن أنه يرفع الروح المعنوية للقيام بمزيد من البذل والعطاء، مما جعل من النظرة الى أجواء الفكاهة والفرح في كل مكان ولا سيما العمل، نظرة جادة، كرس لها البحث من أجل استثمار هذه الخاصية الإنسانية الفريدة عند بني البشر، لصالح الحياة والبناء والإصلاح.

للفرح يوم وعمر في التأريخ
ومن هذا المنطلق ومن خلال استيعاب وفهم هذا السلوك الإنساني الإيجابي، أصبح في الولايات المتحدة الأميركية يوما باسم ( المتعة في العمل ) ضمن منهج لاستعمال وإدارة البهجة والفرح في مكان العمل، وذلك لزيادة انتاجية العامل، حسب الدراسات التي أجريت على هذا السلوك الانساني ومديات آثاره على رفع الروح المعنوية لدى الإنسان ودفعه نحو بذل جهد أكبر دون الاحساس بالضيق والتعب.
وكما هي الفنون في التجارب الانسانية عبر التأريخ كان لهذا المنحى الفني ( الكوميدي ) الباعث على الضحك والسرور في المجتمع تدرجا وباعثا عبر التاريخ، فبدأت تأريخيا عند أرسطو الفيلسوف اليوناني القديم، حينما عبر عنه قائلا : إن القبح غير المقزز هو مكون أساس في الفكاهة.
وعرفت الفكاهة في المخطوطات السنسكريتية القديمة، على أنها، واحدة من فنون الهند، أما في الصين فقد ازدرتها الثقافة الكونفشيوسية وأهملتها حتى وقت قريب.
وفي الثقافة العربية لم تخرج عن ديوان العرب فجاءت في أغراضه الشعرية العربية، بشعر الهجاء، الذي كان يحوي على جانب مهم من السخرية والنقد اللاذع، متماشيا مع فلاسفة ومفكري ذلك العصر الذين أخذوا عن أرسطو مفهومه للفكاهة، ولا سيما بعد دمجها بأفكارهم ورؤاهم في تلك الحقبة، إذ عدّوا الكوميديا بأنها « فن توبيخ» فلم تقم للبهجة والفرح وزنا على وفق معياريتهم للكوميديا التي لم تتضح ملامحها إلا في القرن الثاني عشر، حينما اتضح معنى الكوميديا على وفق ما نعرفه اليوم.

فن الكوميديا (الملهاة)
والكوميديا (الملهاة) فن من فنون التمثيل، بشتى طرقه وأساليبه بدءا من المهرجين والى العروض المسرحية مرورا بالأعمال التلفزيونية والسينمائية الى المشاهد و(القفشات) التي تبث على شبكات التواصل الاجتماعي اليوم، ومن أهم مبتغياتها أنها تهدف الى الفكاهة والترفيه عبر الوسائل التي تثير البهجة والضحك ، فهي في أساسها عمل أدبي يجسد فنيا ليستثير شعور البهجة والسعادة لدى المتلقي.
والملهاة (الكوميديا) تقف أيضا تحت جنح النكت التي يعبر عنها الناس فضلا عن المواقف والقصص المضحكة والمقالب التي تأتي لغرض ممازحة شخص لآخر، ويسمى هؤلاء الأشخاص المضحكون أي الذين يؤدون الأدوار الكوميدية بالكوميديين ، وواحدهم الكوميديان.
حكاية كلمة كوميديا
وقد ذكرنا أن المنطلق التأريخي لهذا الشكل الأدبي والفني كان في زمن الحضارة الإغريقية، أي منذ عصر اليونان القديمة ، وعلى الأخص في عيدهم لإلههم « ديونيسوس « الذي يعتبرونه إلها الخصب، ومن طبيعة هذا الرمز الذي ينتسب لموسم الزرع والحصاد يكون الاحتفاء به بوساطة طقوس دينية مرة حزينة, وأخرى سعيدة مفرحة حسب موسم الزراعة عندهم، فيكون المشهد حزينا في موسم حصادهم، ظنا منهم ان هذا الإله سيموت مع جني الثمر وسيحيى مع بداية موسم الزراعة، فتكون طقوسهم الاحتفالية سعيدة مرتبطة أيضا بنوع الثمر الرئيس لديهم وهو ( العنب )، فالناس والنسّاك يحتفلون بطريقتهم الدالة على الخصوبة بشكل يبعث على البهجة والفرح في تقليد يقومون به وهو وضع بقايا عصير العنب ( قشوره ) على وجوههم أي وضع ( الكوميديا ) والذي تعني بقايا العنب، فهؤلاء هم الكوميديون، ومن هنا أطلق هذا المسمى على هذا المنحى الفكاهي الباعث على الفرح عندهم والذي انسحب هذا الشكل الترفيهي الهزلي الى مسرحياتهم في اليونان ومنها مسرحيات ( أريستوفان ).

رواد المسرح الكوميدي
ثم بعد ذلك استعمل هذا المسمى، أي فن الكوميديا، في أوربا، فخاض في هذا المجال ( ميناندر ) ثم تبعه ( بلاوتس وترنس ) في شكل من أشكال مسرح الأدب اللاتيني في توجهه الكوميدي الكلاسيكي، حتى بلغت أعلى درجاتها وحبكتها الأدبية والفنية على يد ( شكسبير ) في القرن ( السادس عشر ) في مجموعة من المسرحيات الكوميدية الرومانسية، بعدها استطاع ( موليير ) أن يمزج بين المسرح الكلاسيكي وكوميديا ( الفن ) لينتج شكلا جديدا لهذا المسرح الكوميدي، ثم ظهر في نهاية القرن الثامن عشر ( شريدان وجولد سميث ) اللذان أنتجا المسرح الكوميدي، بكامل معانيه وتفاصيله الخاصة به، وكان ( أوسكار وايلد ) علامة فارقة لهذا الفن في القرن التاسع عشر، والذي تناول في أعماله المسرحية الكوميدية أخلاقيات المجتمع وسلوكياته كمادة أساسي في موضوعاته التي تناولها في هذا الجانب الفني والأدبي، وبعد سلسلة طويلة من هذه الاعمال المسرحية دخلت السينما لتكون حاضنة سعيدة لتلك المشاهد والأفكار المبهجة والفكاهية.

مبتنى الفكاهة
إن صناعة المشاهد والمواقف المضحكة الباعثة على السرور اعتمدت على أساليب يبدو أنها تجريبية عبر خبرة التكرار والتجربة لما قد يثير ضحك الناس وبهجتهم وبوساطة توظيف بعض الكلمات والحركات والمواقف أو استعمال التناقضات والأشكال المدهشة والغريبة، ويمكن أن يكون عنصر المفاجأة أحد العناصر الرئيسة لحث المتلقي على الانبهار والضحك.
وقد يرتفع هذا الشكل من الفن أو يهبط حسب الوسيلة والفكرة المتبناة لإثارة الفكاهة، فقد تصبح مبتذلة هابطة بوساطة استعمال اساليب تهكمية أو محرجة لإثارة الضحك، أو قد يكون النقد والسخرية البنّاءة أحد هذه الأساليب والأدوات التعبيرية الفنية الموسومة بخفة الدم والمواقف المبتكرة، والتي يكون من الممكن فيها معالجة مواضيع اجتماعية وسياسية وثقافية مهمة، وهناك ما يسمى بالكوميديا السوداء، حيث تذهب الكوميديا هنا الى مواقف جادة او صعبة قد لا تلقى من الجمهور رد فعل يدعو للسعادة والارتياح.

رسائل وقضايا كوميدية
واليوم تشاع كثيرا الأفلام والمسلسلات الكوميدية التي تراوح بين الرصين الجاد والهابط التي غالبا يكون في محورها ممثل أو مجموعة ممثلين بارعين، وبهذا الشكل الفني يكون هناك بطل لتلك المواقف والمشاهد التي تتناول الكثير من القضايا على وفق أساليب متعد دة منها الجاد والساخر والناقد، ومنها من يميل للتهريج والإسفاف، فلا يكون الهدف هنا سوى الإضحاك كما يفعل المهرجون في سابق العصور.
إن الكثير من تلك الأعمال الفكاهية ( الكوميدية ) تلقى رواجاً كبيراً لدى الجمهور المتلقي، بل وتتأثر تلك الجماهير كثيراً بما يقدم من مشاهد وجمل و( قفشات ) يتناولها الناس في حياتهم اليومية، وان كثيراً من الأعمال المسرحية التي أنتجت منذ عقود لم تزل عالقة في أذهان الناس الى الآن، ومنها المسرحيات العراقية كمسرحية ( العبّخانه، النخلة والجيران، بيت وخمس بيبان، الخيط والعصفور، المحطة ) على الرغم من افتقار أغلب هذه المسرحيات العراقية الى المضمون العميق والنقد اللاذع والبنّاء لقضايا الأمة، ومن الشواهد المسرحية والفنية، المسرحيات السورية الهادفة ( كاسك يا وطن ) ومسلسلات ( غوار الطوشي) والكثير غيرها من الأعمال الفنية الهادفة التي أفادت وأمتعت الجمهور بالرسائل والقضايا الوطنية المهمة فضلا عن المستوى الفكاهي ( الكوميدي ) الناضج الذي أدخل على الأسرة العربية البهجة والسرور فضلا عن المسؤولية الوطنية والاجتماعية التي بثت من خلال الرسائل التي حملتها تلك الأعمال، ولا يفوتني أن أذكر بعض النماذج الفنية الخالية من الأثر الإيجابي التوجيهي في الكثير من المسرحيات المصرية والتي كان همها الأول والأخير هو إضحاك الجمهور وملء فراغه بالهرج والمرج والإثارات أو الإشارات الجنسية أحيانا، كمسرحية ( الواد سيد الشغال، ومدرسة المشاغبين، وشاهد مشفش حاجه ) والكثير من الأعمال المسرحية والتلفزيونية والسينمائية الخالية من المضمون الهادف، وأحيانا كثيرة هابطة في الشكل والمضمون كموجة المسرحيات والمسلسلات ومنها الرمضانية والأفلام التي أصبحت كالفاكهة الفاسدة التي يرغم المتفرج على تناولها، وسواء في الأعمال الكوميدية أو الجادة.
ولم تبتعد الأعمال الفنية المنتجة لشريحة الأطفال، سواءً كانت تعليمية أم ترفيهية عن الكوميديا، لقدرة هذا المنحى الفني على جذب المشاهدين وإمتاعهم، ولا سيما أنها تحمل بين طيات مباهجها وتسلياتها غايات وأهداف تعليمية وتثقيفية للأسرة والطفل، فنرى الكثير من الأعمال المدهشة والكبيرة ذات الإنتاج العالمي الفني والتوجيهي الضخم، كما نرى ما دون ذلك يراوح بين الجيد والهابط البسيط، وذلك بسبب الفقر في القدرة الإنتاجية التي تحكمها الأموال والخبرة ومستوى التقنيات المتاحة في هذه الأعمال، ومن الشواهد على شكل من أشكال الإنتاج الذي أخذ حيزا مهما وواسعا في فترات سابقة، هو مسارح ( الدمى ) أو ( العرايس ) كما تسميها بعض الأقطار العربية، وهو شكل فني انتشر كثيرا في فنون وثقافات الشعوب ومنها العربية، ومنها ما ارتقى الى عروض وإنتاج عالمي ضخم، عالي التكاليف، كمسرح الدمى الهوليودي ( الضفدع كامل ) والذي تم تسويقه بنسخ عربية وأجنبية متعددة، وأدخل في برامج الأطفال كفقرة مميزة، كبرنامج الأطفال الخليجي ( المشترك ) إفتح يا سمسم، وفي هذه الأعمال الفنية كانت الفكاهة والأريحية في الطرح والسخرية في حدود الأدب واللياقة مادة أساسية في الطرح والتنويع وقوة الجذب تجاه المتلقي، الطفل والبالغ على حد سواء..


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


رضاء الحكيم

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2022/11/17



كتابة تعليق لموضوع : أثر الفكاهة (الكوميديا) في الناس .. وتأريخها
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net