صفحة الكاتب : لطيف عبد سالم

من ذاكرة شتاء بغداد
لطيف عبد سالم

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

     بعد انتقال عائلته من صرائف العاصمة والميزرة في آخر أيام عهد

 الزعيم عبد الكريم قاسم ، قدر لـ ( سعيد فرحان ) أن ينشأ ويترعرع في
 مدينة تعد إحدى أقدم مناطق ضاحية بغداد  الشرقية . 
وعلى الرغم من انتقال اثنين من أبنائه الخمسة إلى مناطق أكثر تحضرا في عاصمة البلاد ، فإن صاحبنا آثر البقاء في هذه المدينة البائسة التي عاش وما يزال يعيش فيها بتواد وتراحم مع جيرانه وأصدقائه الذين اعتادوا على مناداته
 باسم  ( حجي سعيد الفرحان ) . 
     ومنذ سنين مضت كانت الطيبة والكياسة والهدوء ابرز عنوانات حياته التي لم ينغص سعادتها غير الم المفاصل  الذي اشتدت وطأته في السنوات الأربع التي انقضت منذ أدائه فريضة حج بيت الله الحرام . 
      وبقصد مراجعة دائرة التقاعد العامة لتصحيح ما الحق بقيمة راتبه التقاعدي ضـــــررا ،غادر الحاج سعيد منزله ثاني أيام السنة الميلادية الجديدة وحيدا كعادته بعد أن جهد نفسه في إحاطة ساقيه مــن أسفلهما حتى مايقرب من الركب بثلاث طبقات من أكياس النايلون بحيث لم تعد ترى من بنطلونه العتيق إلا مساحة صغيرة ، لضمان الحفاظ على ملابسه نظيفة جراء مسيره وسط الأطيان والأوحال التي تكونت بفعل الأمطار التي حبا الله بها مساحات واسعة من ارض الرافدين ليلة رأس السنة الميلادية الجديدة وأعياد الميلاد المجيد . 
      وقد بدأ الحاج رحلته المجنونة السير في أقدم شوارع المدينة وعصبها التجاري، والذي يشار أليه باسم شارع الجامع نسبة إلى أقدم مساجدها الذي أقيم  في نهاية العقد الخامس من القرن الماضي . وقد جعله بطء مسيره وشدة حذره يشبه إلى حد بعيد من يحبو على وجه البسيطة أملاً في وصوله مقصده بهندام نظيف يليق بكبر سنه ومركزه الاجتماعي  ، بوصفه أحد الذين عملوا في حقل التعليم الابتدائي بهذه المدينة البائسة حتى إحالته على التقاعد قبل ثلاث سنوات  ، غير انه ما أن قطع أمتار عدة من مسافة هذه الرحلة حتى أوقفته عن الاستمرار بالسير أول رشقة طينية احدثتها حركة إطارات إحدى السيارات القديمة التي اعتاد الأهالي الإشارة إليها باسم ( الزوبة ) التي جاءت تسميتها من احد الأفلام السينمائية المصرية . 
          ومن المناسب الإشارة هنا الى ان هذا الـــــنوع من السيارات يعد بنــظر الأهالي نعمة لامثيل لها ،بوصفها الوحيدة القادرة على الخوض في الأوحال والأطيان والسير في طرقات مدينتهم الموحشة التي لاتصلح حتى لمسير المشاة . كذلك العربات التي تجرها الخيول أو الحمير تجد صعوبة في اجتيازها . وكان لوقــــع هذه التحية الصباحية ابلغ الأثر في نفس صاحبنا جراء ما استقر على ثيابه  من أطيان واضر بهندامه . إذ اتشحت ثيابه العتيقة الداكنة الزرقة بأشكال عشوائية لايقوى سلفادور دالي رائد الحركة السريالية حتى مجرد التفكير بطريقة تشكيل ما يماثلها  فيما لوطلب منه ذلك . 
           ولان الحاج سعيد كما عرف عنه عنيد بطبعه ، فقد آل على نفسه إكمال مابدأه  على الرغم من الصعاب التي اعترضت مسيره ، 
بيد أنه فوجئ بما هـو أسوأ مما تعرض له قبل قليل . إذ لم تعد ساقيه تقوى على حمل جسمه النحيف ، فضلا عن شعوره ببرودة شديدة أفضت إلى تكبيل ساقيه وزيادة ما يعانيه من آلام ، فأذعن إلى التوقف خشية تعرضه إلى ضرر اكبر . وعند استيضاحه جلية الأمر تبين له مدى ضآلة تقديره لما اعتقده فاعلاً في الوقاية من الأطيان التي أحدثها ماء المطر ، حيث لم تجد الدقة والعناية البالغة التي أحاط بها فعله الذي كان يستهدف منه تفادي الأطيان والأوساخ ومياه المطر التي تغير لونها نتيجة اختلاطها بالمياه الآسنة . ويبدو أن أكياس النايلون كانت طريقة صناعتها من الرداءة بحيث إنها سمحت للمياه والأوساخ التي أفرزتها الأوحال النفاذ عبرها بسهولة . وفي ظل تداعيات فشل مهمة هذا الجدار الشفاف الذي حسبه صاحبنا واقياً ، شعر الحاج سعيد باكتئاب وإحباط شديدين ، فتراجع إلى الوراء والوجوم يخيم عليه باتجاه مااعتقده ملاذاً آمناً يجنبه التعرض لمزيد من المشاكل ، واستقر به المقام قرب جدار أحد المنازل المواجهة لهذا الشارع . ومن دون وعي اندست يده اليمنى في جيب معطفه العتيق الذي صاحبه اغلب سني عمله الوظيفي وعاش معه ابرز الإحداث الكبرى التي شهدتها البلاد ليخرج علبة سجائره التي تحمل علامة تجارية متواضعة ويستل منها سيجارة ويشعلها ، وبعد ان سحب منها نفساً عميقاً تعبيرا عن محاولــته تخفيف جزء من هـــــمه ، نفث دخــانا كثيفا وسط ذهول  أبعده عن العالــــم ومشــــــكلاته. و لولا أصوات قهقهات المارين الذين استغربوا منظره وما تركته الأطيان من آثار على ملابسه لما عاد إلى وعيه الذي استلزمه فعل شئ يحفظ له مااهدر من هيبته ، فكان أن اهتدى على عجالة إلى قرار رشيد ألغى بموجبه رحلته وقرر العودة خائبا إلى منزله .
         وبين نظرات العابرين التي نالت منه التفاتات ملحوظة ، وابتسامات من قرب منه من أطفال المدارس عزم ألحجي على الإسراع في التوجه إلى منزله رغم ألمه ألممض جراء عودته بخفي حنين، وكان يردد بصوت منخفض قول الشاعر ألشابي :
واليوم أحيا مرهق الأعصاب مشبوب الشعور
                          هذا مصيري يابني الدنيا..فما أشقى المصير
وكان اختراقه لأوسع برك الطين وأعمقها من دون الخشية من خطر المسير في هذه الظروف بسبب افتقار بعض منهولات منظومة المجاري حديثة الإنشاء إلى أغطيتها التي تحولت إلى مصادر لتامين صناعة المواد المعادة ، يشعره بدفء في ظل علامات الخجل الذي خيم عليه وأصابه بالوجوم ، وجعله ناقما على كل من أسهم بتوريد نفايات العالم من سلع وأغذية وبضائع إلى بلادنا التي ابتليت بتنامي ظاهرة الإغراق السلعي واتساع مدياتها ، ومن جملتها هذه الأكياس اللعينة التي ثبت فشلها ميدانيا في أول مواجهة حقيقية ، فضلا عن جهره بالدعوة إلى إنصاف
 صناعة المعاد الوطنية التي كانت سائدة بمختلف مناطق البلاد قبل عام 2003 م وضرورة إعادة أمجادها . 
        ويبدو أن لهذه الدعوة مايبررها ؛ بالنظر لعدم صلاحية كثير مما يورده ألينا بعض تجار بلدنا الغيارى على ملئ جيوبهم وتوسيع حدود ثرائهم ونفخ كروشهم التي باتت بحاجة ماسة إلى الترشيق بعد ان استفحل السحت الحرام في كل نشاطاتهم التي عكست عدم اكتراثهم بمصالح البلاد ومشاعر الفقراء والمعوزين  وعوائل الشهداء وضحايا العمليات الإرهابية بعد أن نشطت مديات الطالح من أفعالهم وأسهموا في  تعطيل فاعلية النشاط الصناعي الوطني في ظل  فتح المنافذ الحدودية على مصراعيها أمام البضائع الأجنبية ؛ لأسباب يجهلها جهابذة الصناعة  ، ولا يقوى أشهر الفلكيين على فك رموز طلاسمها .
      وما أن وصل أستاذنا الفاضل ( حجي سعيد الفرحان ) إلى باب منزله حتى ظهرت عليه آثار التعب والإرهاق من شدة مكابداته التي أفضت به إلى غرفة الإنعاش في مستشفى الكندي ببغداد . 
 
 
 
 
المهندس لطيف عبد سالم العكيلي /  باحث وكاتب

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


لطيف عبد سالم
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2012/05/25



كتابة تعليق لموضوع : من ذاكرة شتاء بغداد
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net