صفحة الكاتب : شعيب العاملي

الإمامُ نظام الدين!
شعيب العاملي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

بسم الله الرحمن الرحيم
 
روينا عن أمير المؤمنين عليه السلام في وصيته للحسنين عليهما السلام قوله:
أُوصِيكُمَا وَجَمِيعَ ولدِي وَأَهْلِي وَمَنْ بَلَغَهُ كِتَابِي بِتَقْوَى الله، وَنَظْمِ أَمْرِكُمْ، وَصَلَاحِ ذَاتِ بَيْنِكُم‏ (نهج البلاغة الرسالة47).
 
هي وصيةٌ تشملنا نحن الشيعة في زمن الغيبة أيضاً، فالأمير العَطوف الشَّفيق الرحيم يوصي الأمَّةَ كلَّها كما يوصي ولديه المعصومَين المطهَّرَين الزكيَّين.
 
أولى الوصايا هي تقوى الله: وما أعظمها من وصيةٍ لبلوغ رضا الرحمان، ذَكَرَهَا الله سبحانه بهذا اللفظ وما يُشتَقُّ منه مئات المرَّات في كتابه، وهي خيرُ زادٍ يَتَزَوَّدُ به الإنسان لمعاده.
 
ثاني الوصايا بعد تقوى الله: نَظْمِ أَمْرِكُمْ.
 
فأيُّ أمرٍ هذا الذي يوصي الإمام بنَظمه؟ وكيف للأمّة أن تنظُم أمرها؟! وما بالُ أمَّةِ خير الأنبياء والرُّسُل مُذ فارَقَهُم قد عجزت عن نَظم أمرها، وتسافلت حتى رجعت إلى سابق عهدها؟
 
إذا كان المسلم يهتم بأمور المسلمين، فكيف لا يهتم بمصير أمة الإسلام؟
وكيف لا يهتم بمصيرهم رسولُ الله صلى الله عليه وآله؟ وَمِن قبله الله عزَّ وجل؟!
 
لقد حذَّرَ الرسولُ الأمَّة مما يهدم قواعد الإسلام من أساسه، حينما قال صلى الله عليه وآله:
مَا وَلَّتْ أُمَّةٌ أَمْرَهَا رَجُلًا وَفِيهِمْ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ، إِلَّا لَمْ يَزَلْ أَمْرُهُمْ يَذْهَبُ سَفَالاً، حَتَّى يَرْجِعُوا إِلَى مَا تَرَكُوا (الأمالي للطوسي ص560).
في رواية أخرى: حَتَّى يَرْجِعُوا إِلَى مِلَّةِ عَبَدَةِ العِجْلِ.
 
ولاية أمر الأمّة إذاً، هي التي يحصل بها نَظم أمرها، وهي التي أوصى بها الإمامُ ومِن قبله النبيّ صلى الله عليه وآله، وينبغي أن يختصَّ بها الأعلم من هذه الأمة، وإلا تسافلت.
 
فحين يتصدَّر الجاهل ويُقصى العالم، وحين يُزوى القادرُ الخبير، والعالمُ البَصير، تتخلَّفُ الأمة وتتسافل، وترجع إلى ملّة عبدة العجل، كما رجعت أمّة موسى عليه السلام إلى عبادة عجلِها، وكما عَبَدَت هذه الأمَّةُ عجلاً آخر بعد نبيِّها!
 
إنما يبدأ نظم الأمر من رأس الهرم، فينبغي أن يكون رأس الأمة وقائدها وسائسها أعلم مَن فيها، ومَن أعلم منك يا عليّ بن أبي طالب؟!
مَن قرنوا بك يا علي؟! وما هو مبلغ علمهم؟!
فكيف لا تنحدر هذه الأمة في وديان الجهالة والضلالة؟!
 
إن لمن يريد تولي أمر الأمة صفاتٍ يذكرها الإمام الرضا عليه السلام حين يقول في حديثه المعروف (الكافي ج1 ص200):
الإِمَامُ المُطَهَّرُ مِنَ الذُّنُوبِ، وَالمُبَرَّأُ عَنِ العُيُوبِ: عصمةٌ وكمالٌ يفتقده كلُّ من تولى أمر الأمّة بعد النبيّ صلى الله عليه وآله سوى أمير المؤمنين عليه السلام.
 
المَخْصُوصُ بِالعِلْمِ، المَوْسُومُ بِالحِلْمِ: خَصيصةٌ مِن الله تعالى خَصَّ بها الإمامَ بعد النبي، وراثة من رسول الله صلى الله عليه وآله، بالعلم كلّه، فالله تعالى لا يجعل خليفةً في أرضه وسمائه إن سُئِلَ قال لا أعرف.
 
نِظَامُ الدِّينِ: الإمام هو نظام الدين، فإذا سَلَبتَ الدِّينَ نِظامَه انفرَطَ عقده، وهُدِمَت قواعده، واجتُثَّت أركانه..
الإمامُ نظامُ الدِّين لأنّه العالم بمواضع الأمور، والقادر على نَظم أمور الأمّة في معاشها ومعادها.
 
وَعِزُّ المُسْلِمِينَ: لقد أعزّ الله الناس بمحمدٍ صلى الله عليه وآله لمّا أسلموا على يديه، وبعليٍّ عليه السلام لمّا رفع راية الإسلام خفّاقة في أيام النبي صلى الله عليه وآله.
بالنبي كان عزُّ المسلمين، وبالإمام بعده.. فأيُّ عِزٍّ للمسلمين سيبقى فيما لو سُلِبَ عِزُّهم عليهم السلام؟ ونُحِّيَ إمامُهُم عن منصبه، وزُوِيَ عن حقه وإرثه.
 
بهذا يرجع المسلمون أذلاء يتخطفهم الناس.. أليس هذا هو حالنا مُذ تَقَمَّصَها ابن ابي قحافة؟ وهو يعلم أن محلَّ عليٍّ منها محلّ القطب من الرحى.
 
وَغَيْظُ المُنَافِقِينَ، وَبَوَارُ الكَافِرِينَ: مَن الذي يقدر على معرفة المنافق وتمييزه؟ إن المنافق يُبطِنُ ما لا يُظهر، فمن يعرف حقيقته غير الإمام؟ وكم يغتاظ المنافق إذا ما كان ورقةً مفتوحةً أمام الإمام؟!
الإمام بوار الكافرين، فمن الذي أهلك الكفار في بدء الدعوة كي يهلكهم في لاحق الأيام غير الإمام المتّصف بالكمال؟ فحفظ للإسلام عزّه ومجده.
 
إِنَّ الإِمَامَةَ زِمَامُ الدِّينِ، وَنِظَامُ المُسْلِمِينَ: يُعَبِّرُ الإمام هنا تعبيراً مختلفاً، فهناك كان التعبير (الإمام نظام الدين)، وهنا: (الإمامة زمام الدين):
الإمامُ إذاً هو القَيِّم على الدِّين، فهل يمكن نَظم الأمر بغير القَيِّم؟ بغير من كان (نظامَ المسلمين)؟ فما بالك لو صار هذا الدين خالٍ ممّن يمسك بزمامه! وما حاله لو استُلِبَ حقُّ الإمام؟
 
لقد أعرضت الأمّة عن وصية الله والرسول والإمام، فخسرت صلاح أمرها، في الدنيا قبل الآخرة.
 
يقول عليه السلام عن الإمام أنه:
صَلَاحُ الدُّنْيَا وَعِزُّ المُؤْمِنِينَ: لم يبق لدُنيَانا من صلاحٍ لما مُنِعَ الإمام حقَّه، ولم يبق للمؤمنين من عِزٍّ ظاهر.
 
ألم يقل الإمام الصادق عليه السلام: إِنَّ لِلْحَقِّ دَوْلَةً وَلِلْبَاطِلِ دَوْلَةً، وَكُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي دَوْلَةِ صَاحِبِهِ ذَلِيلٌ (الكافي ج2 ص447).
أليست دولتهم عليهم السلام هي آخر الدُّوَل؟ كما قالوا..
 
لقد صار المؤمن ذليلاً في دولة الباطل التي نعيشها، وفقد المؤمنون عزّهم بفقدهم لإمامهم.
إنَّ عِزَّةَ نَفسِهم بالله تعالى لا تُفقَد، لكنَّ العزَّ الظاهر قد سُلب.. وصلاح الدنيا قد فُقِد.
 
يقول عليه السلام: إِنَّ الإِمَامَةَ أُسُّ الإِسْلَامِ النَّامِي وَفَرْعُهُ السَّامِي: وأسُّ الشيء أصله.. فكيف تكون الإمامة أصل الإسلام وفرعه معاً؟ أتجتمع هاتان الصفتان في شيء واحد؟
إن الفرع من كلِّ شي‏ءٍ هو أعلاه‏ أيها الأحبة، لا يُرادُ منه الشيخ المتفرِّع كفروع الشجرة، بل يُراد أرفع ما في الشيء وأسمى ما فيه وأعلاه.
فالإمامة أصل الإسلام النامي، وأعلى ما فيه.. وهو الفرع السامي.
 
لماذا صار الإمام نظام الدين؟
 
لقائلٍ أن يقول:
لماذا صار الإمام نظام الدين؟ بل بماذا صار كذلك؟
وما هي الصفات التي ينبغي توفُّرُها فيمن يؤدي هذا الدور ويتسنَّم هذا المنصب؟ وأنتم تعدُّونه منصب الخلافة الإلهية على الأرض؟ بل في عالم التكوين!
 
أليس علينا أن نبحث عمن تتوفر فيه صفات الكمال والكفاءة بأعلى مراتبها؟
لقد احتجَّ أمير المؤمنين عليه السلام على معاوية بأن الله كفى الأمّة أمر اختيار الإمام حيث اختاره تعالى لهم وجعله إماماً.
 
يصعب على الأمَّة أن تعرف امامها لولا اختيار الله له، ولكن.. لو قُدِّرَ للأمّة أن تختار إمامها، ولو كان الاختيار بيدها وأرادت نَظم أمرها بنفسها.. أليس عليها أن تختار الأكمل أيضاً؟
 
يذكر الإمام بعض الصفات التي ينبغي توفُّرُها فيمن تختاره الأمة عليها إماماً لو لم يكن الله تعالى قد اختار لها إماماً فيقول عليه السلام:
إماماً عَفِيفاً عَالِماً وَرِعاً، عَارِفاً بِالقَضَاءِ وَالسُّنَّةِ، يَجْمَعُ أَمْرَهُمْ، وَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ، وَيَأْخُذُ لِلْمَظْلُومِ مِنَ الظَّالِمِ حَقَّهُ، وَيَحْفَظُ أَطْرَافَهُمْ، وَيَجْبِي فَيْئَهُمْ، وَيُقِيمُ حِجَّتَهُمْ وَجُمْعَتَهُمْ، وَيَجْبِي صَدَقَاتِهِم (كتاب سليم ج‏2 ص752).
 
هي صفاتٌ يصعب الإحاطة بها.. لكنّا لا نُعدَم علائمها..
نُفَتِّشُ بطون الكتب والتاريخ.. لنرى تجليها بأبهى صورها في أمير المؤمنين عليه السلام وبَنيه دون سواهم.
 
عَفِيفاً عَالِماً: نَمُرُّ سَريعاً على هاتين الكلمتين، ونكتفي بهما، ونحن نحاول أن نستفيد منهما في عصرنا هذا..
 
عفَّةُ الإمام
 
قَالَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (ع): إِنَّ الله جَعَلَنِي إِمَاماً لِخَلْقِهِ، فَفَرَضَ عَلَيَّ التَّقْدِيرَ فِي نَفْسِي وَمَطْعَمِي وَمَشْرَبِي وَمَلْبَسِي كَضُعَفَاءِ النَّاسِ، كَيْ يَقْتَدِيَ الفَقِيرُ بِفَقْرِي، وَلَا يُطْغِيَ الغَنِيَّ غِنَاهُ (الكافي ج‏1 ص410).
 
أيُّ عِفِّةٍ عُرِفَت عنك يا أمير المؤمنين؟ يا إمام الخلق.. لقد جعلك الله إماماً لخلقه، فلست إماماً للناس فقط، أنت الخليفة في عالم التكوين بأسره.. أنتَ الإمامُ، والوجود بأسره مأمومٌ.. فالوجود تَبَعٌ لك! وقد وَلَّاك الله عليه! لأنك خير من يمتثل أمره.. ولكنك عِشت كأفقر الناس، كي يقتدي الفقير بفقرك، ويتواضع الغنيُّ لمّا يرى أنَّ أعظم مَن عليها هو أكثرهم تواضعاً.
ينبغي أن يكون الإمام عفيفاً.. فهل من عفة أعظم من هذه؟ حين عفَّ عن الدُّنيا بما فيها!
 
عِلمُ الإمام
 
لكن.. هل تكفي العفَّة وحدها؟ أم لا بدَّ من أن تقترن بالعلم كما قال عليه السلام: عَفِيفاً عَالِماً؟
 
ههنا قصة في غاية الطرافة على عظيم شأنها..
لقد رأى بعضُ من لم يكن له نصيبٌ من العلم سيرةَ أمير المؤمنين عليه السلام هذه، فَظَنَّ أنَّهُ هو أيضاً مُكَلَّفٌ بأن يكون مثله في ذلك، ولعلَّه تَوَهَّمَ أنَّه قد يزيدُ في فِعاله عمّا فعله الإمام..
 
فهذا عاصم بن زياد فيما روينا لَبِسَ العباء وترك المُلاء.. تَرَكَ الثِّيَاب اللّينة، فجاء أخوه يشكوه إلى أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ (ع): أَنَّهُ قَدْ غَمَّ أَهْلَهُ وَأَحْزَنَ وُلْدَهُ بِذَلِكَ!
 
تجاوزَ عاصمُ الحدّ، فجيء به إلى أمير المؤمنين عليه السلام: فَلَمَّا رَآهُ عَبَسَ فِي وَجْهِهِ: الإمام البَشوش عَبَسَ في وجه عاصمٍ لعظم ما ارتكبه!
 
فَقَالَ لَهُ:
(أَ مَا اسْتَحْيَيْتَ مِنْ أَهْلِكَ؟
أَ مَا رَحِمْتَ وُلْدَكَ؟
أَ تَرَى الله أَحَلَّ لَك‏ الطَّيِّبَاتِ وَهُوَ يَكْرَهُ أَخْذَكَ مِنْهَا؟
أَنْتَ أَهْوَنُ عَلَى الله مِنْ ذَلِكَ).
 
أتظُنُّ يا عاصم أنَّ الله أحلَّ لك الحلال لكي تتجنبه؟!
أتظن أنَّ الله يكره لك أن تستفيد من نعمه؟!
 
حاشا لله ذلك.. ثم يقول عليه السلام:
فَبِالله لَابْتِذَالُ نِعَمِ الله بِالفَعَالِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنِ ابْتِذَالِهَا بِالمَقَالِ: إنَّ الله تعالى يُحبُّ أن يُحدِّثَ العبدُ بنعمة ربِّه بلسانه، لكنَّ بَذلَ النِّعمة بالفِعال أحبُّ مِن بَذلها بالمقال.. أي أنَّ الإنفاق على النفس، والتوسعة على العيال، وترك التضييق عليهم، أحب إلى الله تعالى من إظهار النعمة باللسان.
فالفعلُ أبلغُ في التعبير من القول.
 
فَقَالَ عَاصِمٌ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، فَعَلَى مَا اقْتَصَرْتَ فِي مَطْعَمِكَ عَلَى الجُشُوبَةِ وَفِي مَلْبَسِكَ عَلَى الخُشُونَةِ؟
 
من ها هنا تؤتى الشبهات، فقد قاسَ عاصم أميرَ المؤمنين على نفسه، دون أن يسمعَ منه أمراً بذلك، ولعله قد سمع آيات الكتاب وأحاديث الإمام التي تحثُّ على التزيُّن والتجمُّل، وعلى استغلال النِّعَم الإلهية واستثمارها فيما يرضي الله سبحانه، وعلى إظهارها، لكنَّه خالفَ ذلك كله، لمّا رأى أميرَ المؤمنين عليه السلام على نهجٍ خاص، فأراد أن ينتهج نهجاً خاصاً أيضاً مخالفاً أمر السماء.. بل أرادَ أن يحتجَّ على أمير المؤمنين عليه السلام بقوله: فَعَلَى مَا اقْتَصَرْتَ فِي مَطْعَمِكَ عَلَى الجُشُوبَةِ؟!
 
قال له الإمام حينها:
وَيْحَكَ، إِنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ فَرَضَ عَلَى أَئِمَّةِ العَدْلِ أَنْ يُقَدِّرُوا أَنْفُسَهُمْ بِضَعَفَةِ النَّاسِ، كَيْلَا يَتَبَيَّغَ بِالفَقِيرِ فَقْرُهُ.
لقد رحم الله تعالى الفقير، فأمرَ أكمَلَ النّاس أن يواسوه بأنفسهم، لئلا يتهيّج به الفقرُ، ولا يتألَّم من فقره.
 
هو حُكمٌ خاصٌّ بإمام الأمّة، يساوي فيه الإمامُ نفسه بأضعف النّاس، والجهلُ بذلك أودى بعاصمٍ إلى معصيةِ الله، وإلى أذيَّة أهله، لكنَّ الإمام عليه السلام، العفيف العالم، بيَّنَ له السرَّ في ذلك:
فَألقَى عَاصِمُ بْنُ زِيَادٍ العَبَاءَ، وَلَبِسَ المُلَاءَ (الكافي ج‏1 ص411).
 
ليس هذا الحديثُ عن علم السماء والأرض، بل حديثٌ عما قد يُبتَلى به الإنسان المؤمن كلَّ يومٍ من أيّامه.
فقد يظنُّ مؤمنٌ أنّ الزُّهد هو ترك الطيبات التي أنزلها الله لعباده، وأنه يعني لبس الخشن وصعوبة الحياة حصراً.
 
ولكن.. عِندَ عَليٍّ يجتمع العلم مع العفة، وسائر صفات الكمال، التي بها صارَ إماماً.. هادياً الناس إلى الصراط المستقيم.
هذا نَزرٌ يسيرٌ من علم عليٍّ عليه السلام، وكلّما طرقت باباً وجدت بحارَ علم عليٍّ سَبَّاقَةً فيه.
هاتان صفتان من صفاته، حارَ فيهما الناس.. ولقد كان من سائر صفات الإمام:
 
عَارِفاً بِالقَضَاءِ وَالسُّنَّةِ، يَجْمَعُ أَمْرَهُمْ وَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ: فمن أعرف من عليّ؟! ومَن جامع الكلمة على التقوى سواه؟ لو أطاعوه..
 
عليٌّ في كلام الرَّسول
 
لئن خفيَ على أحدٍ شخص الإمام، الذي يأخذ للمظلوم حقه من الظالم، فما عليه إلا أن يحتَكِمَ إلى كلام رسول الله صلى الله عليه وآله.
 
ولقد فتحَ النبيُّ باب تشخيص الإمام جلياً بقوله:
إِنْ تَسْتَخْلِفُوا عَلِيّاً - وَمَا أَرَاكُمْ فَاعِلِينَ - تَجِدُوهُ هَادِياً مَهْدِيّاً، يَحْمِلُكُمْ عَلَى المَحَجَّةِ البَيْضَاءِ (مناقب آل أبي طالب عليهم السلام ج‏3 ص83).
 
لقد جعلَ الله علياً خليفةً له، وأنتم أيها الناس بين خيارين:
1. إما أن تستخلفوه، أي تقبلوا بجعل الله له خليفةً.
2. وإما أن ترفضوا، وهو ما حصل.. حينما ردَّ الناس أمر الله فيه عليه السلام.
 
ولو أنكم استخلفتموه فأطعتم الله لكان خيراً لكم، لكنَّ نفوسَكم تستصعب المحجَّةَ البيضاء، ولا تقرُّ بالحقّ لأهله.
لقد كان حديثُ النبيِّ هذا قبل رفضهم استخلاف الله لأمير المؤمنين عليه السلام، ولقد كان له عليه السلام حديثٌ بعد سلب الحق فقال:
 
أَيَّتُهَا الأُمَّةُ المُتَحَيِّرَةُ بَعْدَ نَبِيِّهَا، أَمَا إِنَّكُمْ لَوْ قَدَّمْتُمْ مَنْ قَدَّمَ الله، وَأَخَّرْتُمْ مَنْ أَخَّرَ الله، وَجَعَلْتُمُ الوِلَايَةَ وَالوِرَاثَةَ حَيْثُ جَعَلَهَا الله، مَا عَالَ وَلِيُّ الله: يُحَدِّثُهُم عليه السلام بآثار أفعالهم.
تشكو هذه الأمّة من الفقر والمصائب والتشتُّت والتمزُّق، ولو أطاعت الله في عليٍّ لما احتاجَ وليٌّ من أولياء الله لشيءٍ أو لأحد!
 
وَلَا طَاشَ سَهْمٌ مِنْ فَرَائِضِ الله، وَلَا اخْتَلَفَ اثْنَانِ فِي حُكْمِ الله: وكيف تضيع فرائضُ الله لو كان عليٌّ ولياً عليها؟ وكيف يختلف الناس في حكم الله إذا كان المتصدِّي لبيانه هو العالمُ بتعليم الله، والحاكم بقضاء الله؟
 
وَلَا تَنَازَعَتِ الأُمَّةُ فِي شَيْ‏ءٍ مِنْ أَمْرِ الله إِلَّا عِلْمُ ذَلِكَ عِنْدَنَا مِنْ كِتَابِ الله: إذا كان الحاكم والمتمكِّنُ من رقاب الأمّة هو العالم فلماذا التنازع؟ إنما يحصل التنازع بين غير الكمّل، ولو ردّوه الى العالم لحكم العالم بينهم بالحق، والعالمُ عالمٌ بالكتاب، الذي فيه تبيان كل شيء، وبيده رفع غائلة اختلاف الأمة لو قَبِلَته..
لكنَّهم جحدوا.. فقال لهم: فَذُوقُوا وَبَالَ مَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ (الكافي ج‏7 ص77).
 
تجني الأمَّةُ ثمار ما فعلت.. لقد أطبقت الأمَّة على تأخير من قدَّمَ الله فأصابها خزيٌ وعار.
ولكن..
لماذا رفضت الأمَّةُ الإمام؟ هل كان فيه نقصٌ وعيبٌ؟ حاشاه..
 
هل كانت تسعى لإمامٍ أكملَ منه وأعظم؟
كلماتُ الزَّهراء تكشفُ عن حقيقة القوم، في وثيقةٍ خالدة إلى آخر الدَّهر، فقد قالت عليها السلام:
 
مَا الَّذِي نَقَمُوا مِنْ أَبِي حَسَنٍ؟ نَقَمُوا- وَالله- مِنْهُ شِدَّةَ وَطْأَتِهِ وَنَكَالَ وَقْعَتِهِ، وَنَكِيرَ سَيْفِهِ، وَتَبَحُّرَهِ فِي كِتَابِ الله، وَتَنَمُّرَهُ «غضبه لله» فِي ذَاتِ الله.
 
إنما كانت نقمتهم عليه لاستقامته! وصلاحه! وشدَّته في ذات الله! فهو الوديعُ الذي يألفُ ويؤلَف في أيامه، لكنه الغضوب في ذات الله.
لقد حسدوه على تَبَحُّرِهِ في كتاب الله! ألا يحسد الجاهلُ العالمَ؟ سيَّما لو كان الجاهلُ عديم الغيرة، سيء النفس، دَنِيَّهَا.
 
ثم قالت عليها السلام:
وَايْمُ الله لَوْ تَكَافَوْا «كفوا أيديهم» عَنْ زِمَامٍ نَبَذَهُ إِلَيْهِ رَسُولُ الله لَاعْتَلَقَهُ «اخذه بيده» ثُمَّ لَسَارَ بِهِم‏ سَيْراً سُجُحاً «سهلاً».. وَلَانْفَتَحَتْ عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٌ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، وَلَكِنَّهُمْ بَغَوْا فَسَيَأْخُذُهُمُ الله بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (دلائل الإمامة ص127).
 
لم يكفّ هؤلاء أيديهم عن زمام ٍ نبذه رسول الله إلى عليٍّ.. فما هو هذا الزمام؟
 
إنَّه زمام الإمامة.. الإمامة زمامُ الدِّين كما عبر الإمام الرضا عليه السلام.. وهو الذي نبذه له رسول الله صلى الله عليه وآله، حين نصبَه إماماً بأمر الله، لكنَّهم تطاولوا وسلبوه.. ولم يقبلوا أن يسير بهم صراط الحق.. فحرموا أنفسهم من بركات السماء بِبَغيِهِم.
 
ثمَّ قالت عليها السلام:
أَبْشِرُوا بِسَيْفٍ صَارِمٍ، وَهَرْجٍ شَامِلٍ، وَاسْتِبْدَادٍ مِنَ الظَّالِمِينَ، يَدَعُ فَيْئَكُمْ زَهِيداً، وَجَمْعَكُمْ حَصِيداً، فَيَا خُسْرَى لَكُمْ، وَكَيْفَ بِكُمْ وَقَدْ عَمِيَتْ عَلَيْكُمْ؟ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ؟!».
 
هل مِن كلماتٍ تُصَوِّرُ واقع الأمَّة أبلغ من هذه الكلمات؟! مُذ غُصِبَت الخلافة حتى ظهور الحجة؟! عمىً يعقبه خسرانٌ مبينٌ في الدُّنيا والآخرة.
 
لقد صارت كلُّ هذه المعاني راسخةً في عقول الشيعة وقلوبهم، كما في رواياتهم وتراثهم، وفكرهم ونهجهم.
فكلُّ حرمانٍ تتعرض له البشرية، وكلُّ ظلمٍ يقع على الأمة اليوم، يرجع الى غصب الخلافة.
وكلُّ بركةٍ تُرفَعُ من الأرض يتحمل وزرها الأُوَلُ.. وأتباعهم..
 
ولكن..
كيف وصلت الأمة إلى هنا؟ وما كانت الحُجَّةُ في سلب زمام الإمامة؟
لقد تحجج بعضهم بأن لهم عقولاً تُخَوِّلُهُم أن يختاروا إماماً من أنفسهم.. لكن كذَّبَتهم هذه العقول.
وقد وصف الإمام هذه العقول بأنها حائرة بائرة ناقصة..
 
يقول الإمام الرضا عليه السلام:
رَامُوا إِقَامَةَ الإِمَامِ بِعُقُولٍ حَائِرَةٍ بَائِرَةٍ نَاقِصَةٍ: فهي أعجز من أن تعرف صلاح أمرها فضلاً عن صلاح أمّة الإسلام..
 
وَآرَاءٍ مُضِلَّةٍ: لأنه ليس بعد الهدى إلا الضلال.. فمن رغب عن الهدى غرق في بحور الضلال مهما نَمَّقَ رأيه وكلامه.
 
فَلَمْ يَزْدَادُوا مِنْهُ إِلَّا بُعْداً، قاتَلَهُمُ الله أَنَّى يُؤْفَكُونَ، وَلَقَدْ رَامُوا صَعْباً وَقَالُوا إِفْكاً، وَضَلُّوا ضَلالًا بَعِيداً، وَوَقَعُوا فِي الحَيْرَةِ إِذْ تَرَكُوا الإِمَامَ عَنْ بَصِيرَةٍ: ليس غُصَّابُ الخلافة من أهل الجهل، إنَّهم يعلمون أنه إمامٌ مفترض الطاعة، وقد تركوه عن بصيرة، بصيرة بأنهم انتقلوا من الهدى إلى الضلال! بصيرة بأنهم سلبوا الحق أهله.. وليس بعد ذلك إلا الحيرة.
 
وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ: لقد استبصروا بمحمدٍ صلى الله عليه وآله، ثمَّ ارتدوا بعد ما صَدَّهُم الشيطان عن السبيل.
 
رَغِبُوا عَنِ اخْتِيَارِ الله وَاخْتِيَارِ رَسُولِ الله (ص) وَأَهْلِ بَيْتِهِ إِلَى اخْتِيَارِهِمْ، وَالقُرْآنُ يُنَادِيهِمْ ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الخِيَرَةُ﴾.
 
فكيف يُرتَجَى الخير لمن زهد في اختيار الله؟ ورَدَّ أعظم فريضة في الأمة، وحارب الله في أس دينه وأساسه، في الإمامة الشريفة.
حَريٌّ بالأمة أن تأخذ حقَّها من هؤلاء.. وحقَّ للأئمة أن يأخذوا حقَّهم منهم ومن هذه الأمة المتخاذلة، وسيأتي ذلك اليوم حيث تقرُّ عيون المؤمنين.
 
جعلنا الله من أتباع من اختارهم الله تعالى، وعجل في فرج وليهم.
والحمد لله رب العالمين.


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


شعيب العاملي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2023/02/09



كتابة تعليق لموضوع : الإمامُ نظام الدين!
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net