للأبناء حق على الآباء, ومن حق الآباء أن يعلموا بأن أبنائهم منهم ومضاف إليهم بالخير وبالشر في هذه الدنيا. وكما ورد عن الإمام زين العابدين (ع) أنه قال :(وأما حقّ ولدك فأن تعلم انّه منك ومضاف إليك في عاجل الدنيا بخيره وشره، وإنّك مسؤول عما وليته من حسن الأدب والدلالة على ربه عزّ وجلّ، والمعونة على طاعته، فاعمل في أمره عمل من يعلم أنّه مثاب على الإحسان إليه معاقب على الإساءة إليه).
وسعيا ً لإحراز الخير ودفع الشر, وأملا ً بالثواب الجزيل, أرجو التوفيق من الله تعالى بإبداء النصيحة الى ولدي (علي) بأمور شتى لله فيها رضا ولولدي له فيها الخير والصلاح في معترك هذه الحياة. فإن (الدين النصيحة) كما ورد عن النبي الأكرم (ص وآله), و(من أكبر التوفيق الأخذ بالنصيحة) كما ورد عن الإمام علي (ع) وهذا ما أرجوه لولدي.
بابا.. يدور الحديث هذه المرة عن (الوطنية الشيعية) ما المقصود من هذا الـ..
سألني بغتة بعد أن وضع جهازه اللوحي جانبا ً, وأجبته على الفور مقاطعا ً: الوطنية الشيعية هو مشروع السيد السيستاني بلا جدال.
سكت ولكنه ظل مبحلقا ً في وجهي بانتظار إجابة أعمق فتداركت الأمر وقلت له بهدوء: إسمع بُنيّ علي:
سأجيبك عن ماهية هذا المشروع أولا ً، وسأعرفك على ملامحه ثانيا ً, وأثبت لك بأن السيد السيستاني له الريادة في طرح هذا المشروع على الساحة وتطبيقه على أرض الواقع ثالثا ً, ولكني وقبل كل شيء ألفت نظرك الى أمور عدة, كتوطئة، لها في المحصلة صلة بهذا الموضوع منها:
1ـ أن مذهب (التشيع) أنشأه رسول الله (ص وآله) وهو مَن أطلق على من والى الإمام (علي) عليه السلام (شيعة). فقد رُوي أنه لما نزلت الآية: (إنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية) قال رسول الله (ص وآله) لعليّ: (هو أنت وشيعتك يوم القيامة راضين مرضيين). إذن.. فـ(الشيعة والتشيع) من تأسيس رسول الله (ص وآله) وأرسى دعائمهما أئمة أهل البيت المعصومين (عليهم السلام) من بعده, وامتدت وترعرعت واتسعت واستمرت بعد الغيبة الكبرى متمثلة بمراجع الدين العظام الجامعي للشرائط باعتبارهم نواب الإمام المعصوم (عج). وأنبهك بأن الإعتقاد بأن الشيعة والتشيع (انبثقا هكذا) في حياة النبي من قبل ثلة موالية امتدت واتسعت بعدها عبر حقب تاريخية, مغالطة كبرى ولا يحق لمن اعتقد بتلك المغالطة التكلم بإسم الشيعة والتشيع قط.
2ـ أن مهمة حفظ ورعاية واستمرار كيان (الشيعة والتشيع) ليست من مهام أحد ٍ ممن لا حظ له بالعلم والدين والأخلاق، وإنما هي مهمة أنيطت بنواب الإمام المعصوم (عج) في زمن الغيبة الكبرى، من الفقهاء والعلماء الربانيين ومراجع الدين العظام بتسديد المعصوم (عج), فقد ورد عن الإمام صاحب العصر والزمان (عج): (وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله). إذن فالمشروع إلهيّ بالمحصلة، وهذا ما جرى ويجري وسيجري مع مرور الأيام الى ما شاء الله تعالى.
3ـ إن الإدعاء بعدم وجود نهج أو مشروع يحفظ الشيعة والتشيع من السقوط في مستنقع(الإنحرافات الخطيرة) وشراك (الإنقسامات الحادة), ويصونها من خروقات وخرافات (الشعارات) الزائفة تحت رايات و(لافتات) الحداثة غير الملتزمة المُطالبة(بتغييرات جذرية في مبادئ الإسلام العقائدية والقيمية), ليس فقط مغالطة عظيمة بل تجني سافر على مقام الإمام المعصوم(عج) أولا ً والمرجعيات الدينية ثانيا ً وسلب لدورهما معا ً ثالثاً. وكما قلنا أن حفظ كيان ووجود الشيعة واستمراه رغم الصعاب والتحديات عبر التاريخ أحد أهم مرتكزات مشروع أئمة أهل البيت (عليهم السلام) ومن بعدهم المرجعيات الدينية. وأما الإنحرافات الخطيرة والإنقسامات الحادة في الواقع الشيعي المزعومة إن وُجدت, فليس بسبب غياب ذلك المشروع الإلهي, وإنما بسبب عدم العمل بذلك المشروع الذي أسسه رسول الله(ص وآله) وأرسى دعائمه الأئمة المعصومين (عليهم السلام) وسار على هذا الخد والنهج المرجعيات الدينية, وبسبب جعل ذلك المشروع من الأمور الثانوية تنظيرا ًوتطبيقا ًوليس من الأولويات في الواقع الشيعي, وبسبب التردي في العمل السياسي, وبسبب حدة الهجمات المضادة على الشيعة خاصة والتشيع عامة من قبل الأعداء على مختلف مشاربهم في الداخل والخارج, وبغض النظر عن باقي الأسباب الأخرى.
ـ نعم بابا..
قال لي ذلك وهو يعتدل بجلسته ويسند ظهره على الأريكة, استعدادا ً لسماع المزيد فقلت له:
ولدي.. يشير الكلام المتقدم الى أن (الشيعة) عموما ً يشتركون بأمور عقائدية آمنوا بها وهي لا تنفك عنهم أين ما كانوا ووجدوا في أصقاع الأرض, بحيث صاغت لهم هوية عُرفت بـ(الهوية الشيعية) وعُرفوا بها وهي عابرة للحدود, وهي (غير) المقصد المتمثل بـ(الوطنية الشيعية) كهوية, ومكونات الهوية الشيعية على سبيل المثال لا الحصر:
ـ الإمامة: وهو الإعتقاد باثني عشر إماما ً معصوما ً كأوصياء لرسول الله (ص وآله) أولهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) وآخرهم الإمام الحجة بن الحسن (عج).
ـ القضية المهدوية: نسبة للإمام المهديّ (عج), وهو (التاسع) من ولد الأمام الحسين (ع), وهو الذي يملأ الله به الأرض عدلا ً كما ملئت ظلما ً وجورا.
ـ القضية الحسينية: وهي المحور الجامع والعنصر المعبر عن وجودهم بأجلى صورة، بل هي أفضل إعلان عن الهوية المشتركة والجامعة للشيعة.
ـ الإرتباط بالمرجعية الدينية: ويعتبر إرتباط مقدس يربط القاعدة الشعبية (الشيعية أين ما كانوا ووجدوا) بالمرجعية الدينية, باعتبارها تقوم مقام النيابة عن المعصوم (عج) وبهذا تكون الرافد لديمومة هذا الإرتباط مع الأمام الغائب (عج). وبهذه النقطة يفترق ويتميز الشيعة عن غيرها من الملل.
أعتقد صار واضحا ً لك بأن الكلام للآن يخص مفهوم (الشيعية ـ العقائدية) كهوية عابرة للحدود, وهي تفترق هنا عن مفهوم (الوطنية الشيعية) موضوع سؤالك كهوية تنطبق على الشيعة عموما ً داخل أوطانهم تحديدا ً, وتتحرك وتتفاعل داخل حدود بلدانهم فقط. فـ(أتباع أهل البيت ـ عليهم السلام) موزعون على دول وأوطان كما تعرف, ولهم هويتهم الوطنية الجامعة والشاملة لهم ويعرفون بها, وبما أن أتباع أهل البيت (عليهم السلام): منهم المؤمن ومنهم غير ذلك, ومنهم المستقل ومنهم المتحزب المؤمن بأيديولوجيات مختلفة ومتنوعة منها إسلاموية أو يسارية أو ليبرالية وهلمجرا, فالهوية الجامعة لهم أو القاسم المشترك بينهم هو (الوطن) والشعور بـ(الوطنية) والإندماج في مجتمعاتهم مع باقي المكونات والشرائح الإجتماعية, والإلتزام بدساتير وقوانين تلك الدولة التي يعيشون فيها واحترامها.
واعلم يا ولدي يقينا ً.. أن السيد السيستاني وإضافة الى موقعه ومقامه الديني كمرجع أعلى للطائفة وراع لـ(الهوية الشيعية) وسيرا ً على منهج النجف الأشرف العتيد, له الريادة بلا مُنازع بتطبيق مشروع (الوطنية الشيعية) في العراق. وما عليك إلا أن تراجع وتبحث في خطاب السيد السيستاني المتنوع، والمبثوث عبر وسائل ووسائط عدة من استفتاءات وبيانات ومواقف وخطب الجمعة وغيرها.
ـ(المرجعية الدينية العليا الممثلة بالسيد السيستاني تؤمن بضرورة اندماج الشيعة أينما وجدوا في أوطانهم).
قلت له هذه الجملة بهدود تام بغية غرسها في ذهنه لتنمو وتورق وتثمر, لأن الأمر يتعدى العراق الى باقي الشيعة في المنتشرين في بلدان العالم . وواصلت الحديث معه مسترسلا ً:
ولعل خير مَن أشار موضحا ً ملامح مشروع السيد السيستاني في (الوطنية الشيعية) وأوجزها بنقاط (خمس) هو الحاج (حامد الخفاف) مدير مكتب السيد السيستاني في لبنان, وذلك في حوار أجراه معه موقع (شفقنا) حول دور المرجعية في المشهد الديني والسياسي بتاريخ 12 أيلول عام 2019م لذلك أوردها لك نصا ً:
1ـ إنّ المرجعية العليا لا تتدخل في تفاصيل العمل السياسي بل تترك المجال واسعاً للقوى السياسية للقيام بذلك، وإنما تتدخل في القضايا المصيرية التي تعجز القوى السياسية عن التعاطي معها أو تقديم حلول مركزية لها.
2ـ إنَّها تُؤمن بالتعايش السلمي بين أبناء المذاهب الإسلامية من سنة وشيعة وبينهم وبين أبناء الأديان الأخرى، وقد أصلت ذلك بمنهج عملي يبتعد عن الشكليات غير المنتجة لحساب المضمون الذي يُكرس ثقافة التعايش والاحترام المتبادل.
3ـ إنَّها تؤكد على احترام مؤسسات الدولة المنبثقة من خيارات الشعب التي لا بديل عنها بتاتاً لقيام وطن حر ومستقل وسيد، وهذا يسري على كافة القطاعات العسكرية والأمنية والسياسية والإدارية والاجتماعية وغيرها.
4ـ إنها تؤمن بضرورة اندماج الشيعة أينما وجدوا في أوطانهم, وهي تترك لأهل الحل والعقد في كل بلد تدبير شؤونهم، ولا تتدخل في قضاياهم إلا إذا طُلب منها ذلك ورأت أن لتحركها ثمرة مفيدة وفق الظروف والمعطيات الموجودة.
5ـ إنها تُراقب بدقة الأحداث محلياً وإقليمياً ودولياً وقد تسكت طويلاً ولكن سكوتها ليس غياباً، ولذلك فهي عندما تقول, تقول وبقوة في الوقت والمكان المناسبين لتقلب الموازين أو تُغير خُططاً أو تفرض واقعاً فيه مصلحة للوطن والأمة والدلائل على ذلك كثيرة.
والآن أسوق لك بُنيّ علي.. تطبيقات (ثلاث) كأمثلة على ما تقدم:
1ـ ورد في جواب مكتب السيد السيستاني على أحد أسئلة مجلة (بولندا) الإسبوعية والذي كان:
ـ ما هو الخطر الأكبر الآن على بلدكم في حالة وجوده؟
فكان الجواب: خطر محو ثقافته الدينية الوطنية (1).
لاحظ.. فحقيقة الخطر هو (محو) كلا الثقافتين ـ الهويتين (العقائدية) كما مر و(الوطنية) للبلد العراق تحديدا ً. هذا ناهيك عن فتوى السيد المرجع الأعلى المشهورة في كتابة الدستور بأيدي عراقية, وإصراره على إجراء الإنتخابات الحرة المباشرة, وحثه للشعب العراقي بكل طوائفه ومكوناته على الإنتخابات, ومطالباته الى احترام الدستور والقانون وهيبة الدولة, وآخرها الفتوى المقدسة التي أطلقها لقتال العدو (داعش) فكانت وطنية بحق حتى كتب الله تعالى على يديه النصر المؤزر.
2ـ في آب من عام 2014م استقبل السيد السيستاني وفدا ًمن الزوار الخليجيين، وبعد أن استهل كلامه باسم الله والصلاة على محمد وآل محمد, مرحبا ً بهم كزوار ينتمون لمدرسة أمير المؤمنين (ع) ذكر سماحته شيعة الحجاز, والقطيف, والإحساء, والدمام, والعراق, وباكستان, وإيران, ولبنان, والبحرين, وكانت أبرز وصايا سماحته لهم هي:
الدين الحب فلتحبوا بعضكم بعض وتبتعدوا عن الشحناء والعداوة والبغض والكراهية ـ ساعدوا بعضكم البعض وكونوا عوناً بالنصيحة والإرشاد ـ اطلبوا العلوم بكافة انواعها وصنوفها واحرصوا على تعليم ابناؤكم الهندسة والطب وغيرها من العلوم ـ تسلحوا بالأخلاق الحميدة ولا تتعرضوا لمقدسات ورموز غيركم ـ وليكن الإحترام المتبادل بين الجميع وخصوصا ً أنكم تنتمون لمدرسة علي(ع).
أنظر.. عبارات سماحته واضح لـ(أتباع أهل البيت (عليهم السلام) في الخليج والقاضي ينصحهم أن يندمجوا في مجتمعاتهم, وأن يحترموا باقي مكونات مجتمعهم في الوطن, وأن يحترموا كيان دولتهم بالتفاعل مع جميع مؤسساتها(2).
3ـ بتاريخ 3 كانون ثاني عام 2013م استقبل السيد السيستاني وفدا ًمن مجلس علماء الشيعة في أفغانستان وأكد لهم سماحته على الأمور التالية:
ـ ضرورة الحفاظ على الوحدة والتضامن الوطني والتماسك الداخلي
ـ مراعاة التعايش السلمي مع جميع القوميات والفئات
ـ إجتناب العنف في التعامل مع الحكام الحاليين
ـ ودعاهم إلى القيام بكل ما بوسعه من أجل استيفاء حقوق الشعب الافغاني(3).
أيضا ً لاحظ.. كيف سماحته يحثهم على الوحدة والتضامن الوطني, ومراعاة التعايش السلمي, واجتناب العنف, والعمل على استيفاء حقوق الشعب بالطرق السلمية وفق الدستور والقانون في وطنهم ـ فمشروع الوطنية الشيعية مشروع السيد السيستاني حفظه الله تعالى ورعاه..
ـ هل وصلت الفكرة بُنيّ علي؟.
ـــــــــــــــــــ
ـ(1) وثيقة رقم (36) من النصوص الصادرة عن سماحة السيد السيستاني دام ظله في المسألة العراقية ـ مكتب السيد السيستاني (دام ظله) ـ النجف الأشرف 26/9/2003م
ـ(2) موقع كتابات في الميزان ـ أبرز ما جاء في لقاء السيد علي السيستاني بالزوار الخليجين
https://kitabat.info/subject.php?id=49947
ـ(3) ـ عن وكالة نون الخبرية ـ المرجع السيستاني يستقبل وفدا من افغانستان
https://non14.net/public/153719
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat