صفحة الكاتب : شعيب العاملي

الإمام الكاظم.. وفِتنَةُ المال!
شعيب العاملي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

بسم الله الرحمن الرحيم
 
كَانَتْ صِرَارُ أَبِي الحَسَنِ مُوسَى مَثَلًا!
 
هي عبارةٌ نَقَلَها الشيخ المفيد رحمه الله عن جماعةٍ من أهل العلم، تُبَيِّنُ كثرةَ عطاء الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام، حتى أنَّ صِرار الدنانير التي كان يُوَزِّعها على الناس صارَت مضربَ مَثَل.. و: كَانَ يَصِلُ بِالْمِائَتَيْ دِينَارٍ إِلَى الثَّلَاثِمِائَةِ دِينَارٍ (الإرشاد ج‏2 ص234).
 
ولأنَّ الأقربين أولى بالمعروف، كان عليه السلام: أَوْصَلَ النَّاسِ لِأَهْلِهِ وَرَحِمِهِ.. حتى مَن كان يعلم أنه يرومُ أذيتَّه، كابن أخيه (محمد بن اسماعيل)، فقد أعطاه صُرَّةً فيها مائة دينار، ثم أخرى، ثمَّ ثالثة، ثم أعطاه ثلاثة الآف درهم، وهو يعلمُ أنَّه سيشي به إلى هارون، ولطالما قال له: أُوصِيكَ أَنْ تَتَّقِيَ الله فِي دَمِي!
 
لكنَّ محمداً طمع بمالِ هارون، فسَلَّمَ عليه بالخلافة، ثمَّ زَعَمَ أمَامَه أنَّ عمَّه الكاظم عليه السلام يُسلَّم عليه بالخلافة أيضاً تحريضاً عليه، فوصله هارون بمائة ألف درهم..
 
لكن قول الإمام عليه السلام (إِذَا وَصَلْتُهُ وَقَطَعَنِي قَطَعَ الله أَجَلَهُ!) قد تحقق عاجلاً قبل أن تبلغه هذه الأموال: فَرَمَاهُ الله بِالذُّبَحَةِ، فَمَا نَظَرَ مِنْهَا إِلَى دِرْهَمٍ وَلَا مَسَّهُ! (الكافي ج1 ص486).
 
بل كان الإحسان إلى المسيئين من عاداته، فقد نُقِلَ أنّه: إِذَا بَلَغَهُ عَنِ الرَّجُلِ مَا يَكْرَهُ بَعَثَ إِلَيْهِ بِصُرَّةِ دَنَانِير (مقاتل الطالبيين ص348).
 
فكان إحسانه شاملاً حتّى لأشد مخالفه، حيثه أنه وَصَلَ رَجُلاً من ولد عمر ابن الخطاب، كان يؤذيه ويسبّه، فوَصَلَهُ بثلاثمائة دينار، حتى صلح بذلك أمره وكفي شرّه، ولم يرض ما اقترحه بعض جلسائه يوماً من قتله، بل زجرهم زجراً شديداً (الإرشاد ج2 ص233).
 
وهكذا كان الإمام عليه السلام كثير العطاء بالأموال والأعيان.
حيث: كَانَ يَفْتَقِدُ فُقَرَاءَ المَدِينَةِ فِي اللَّيْلِ، فَيَحْمِلُ‏ إِلَيْهِمْ فِيهِ الْعَيْنَ (الذهب والدنانير) وَالْوَرِقَ (الفضة والدراهم) وَالْأَدِقَّةَ (الطحين) وَالتُّمُورَ، فَيُوصِلُ إِلَيْهِمْ ذَلِكَ، وَلَا يَعْلَمُونَ مِنْ أَيِّ جِهَةٍ هُوَ (الإرشاد ج2 ص232).
 
من ثمَّ كان خُلفاء الجور يخشون الإمام غنيّاً كان أم فقيراً.. وحيداً كان أم مُحاطاً بشيعته..
لكنَّ غِنَاهُ كان أشدَّ عليهم وأخطر، فهذا المأمون يسأل أباه هارون عن السرِّ في إعطائه أبناء المهاجرين والأنصار ومَن لا يعرف حسبه ونسبه خمسة آلاف دينار وما دون.. فيما أعطى موسى بن جعفر عليه السلام: أَخَسَّ عَطِيَّةٍ أَعْطَيْتَهَا أَحَداً مِنَ النَّاسِ؟!
 
كان هارون يُدركُ أنَّ للمال تأثيراً كبيراً في النّاس.. وأنَّه عاملٌ من عوامل القوَّة، ويخشى من اجتماع الشيعة حول إمامهم، فقال للمأمون: وَفَقْرُ هَذَا وَأَهْلِ بَيْتِهِ أَسْلَمُ لِي وَلَكُمْ مِنْ بَسْطِ أَيْدِيهِمْ وَأَعْيُنِهِم‏! (عيون أخبار الرضا عليه السلام ج‏1 ص92).
 
إعتمد هارون كسائر الخلفاء سياسة التضييق على الإمام، فنَشَرَ الجواسيس، وبالَغَ في الظُّلم والقَهر.. حتى مَنَعَ الإمام مِن أن تُجبى له الأموال من شيعته، ووقعت المشقَّة في توزيع ما يصل إليه عليه السلام.
 
يقول الشيخ الصدوق رحمه الله عن الكاظم عليه السلام:
لم يكن موسى بن جعفر (ع) ممّن يجمع المال، ولكنه حصل في وقت الرشيد.. ولم يقدر على تفريق ما كان يجتمع إلا على القليل ممن يثق بهم في كتمان السرّ.. ولو لا ذلك لَفَرَّقَ ما اجتمع من هذه الأموال (عيون أخبار الرضا ج1 ص114).
 
لم يعد الإمام يستلم الأموال كما كان، بل صارَ سجيناً لهارون، وصارَت الأموالُ تُجمعُ عند وكلائه.
 
إنَّ قِلَّة المال ابتلاءٌ من الله للعباد.. وكذا كثرته.. بل قد تكون كثرته أصعب وأشدّ.. فقد قال أمير المؤمنين عليه السلام: إِنَّ كَثْرَةَ المَالِ عَدُوٌّ لِلْمُؤْمِنِين‏ (التمحيص ص48).
وقال: اعْلَمُوا أَنَّ كَثْرَةَ المَالِ مَفْسَدَةٌ لِلدِّينِ، مَقْسَاةٌ لِلْقُلُوب‏ (تحف العقول ص199).
 
لَم تكَن هذه الأموال ملكاً لهؤلاء الوُكلاء، بل كانت أمانة الإمام لديهم، وقد تكاثرت يوماً فيوم، والإمام في سجنه: فَاتَّخَذُوا بِذَلِكَ دُوراً، وَعَقَدُوا الْعُقُودَ، وَاشْتَرَوُا الْغَلَّات‏ (بحار الأنوار ج48 ص266).
 
حتى جاء يومُ الامتحان الكبير..
 
يقول يونس بن عبد الرحمان: لمَّا مَاتَ أَبُو الْحَسَنِ (ع) وَلَيْسَ مِنْ قُوَّامِهِ أَحَدٌ إِلَّا وَعِنْدَهُ المَالُ الْكَثِيرُ، فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبَ وَقْفِهِمْ وَجُحُودِهِمْ لِمَوْتِهِ! (عيون أخبار الرضا ج1 ص113).
 
لقد تَمَكَّنَ الشيطان من هؤلاء، واستغلَّ المالَ سلاحاً فتاكاً أفسَدَ به أديان بعض الوكلاء.. فمِنهُم مَن كان لديه سبعون ألف دينار.. ومنهم من كان عنده ثلاثون ألف دينار..
 
أرسل الإمام الرضا عليه السلام يطلب هذا المال.. فكان جوابهم: أَنَّ أَبَاكَ لَمْ يَمُتْ!
لقد أنكر هؤلاء موتَ الإمام الكاظم عليه السلام لئلا يُسَلِّموا الأموال إلى وريثه الإمام المعصوم، مع قيام الحجَّة عليهم، ووضوح الأمر وجلائه.. فليس الأمرُ من موارد المتشابهات، بل هو جُحُودٌ مع ثبوت البيِّنة واليقين من بطلان ما هم عليه.
 
لذا كَثُرَ في الروايات ذمُّهم والتحذير منهم قَبل وَقفهم، فعن الصادق عليه السلام: إِنَّ مِنَ الشِّيعَةِ بَعْدَنَا مَنْ هُمْ شَرٌّ مِنَ النُّصَّاب‏.. إِنَّمَا هُمْ قَوْمٌ يُفْتَنُونَ بِزَيْدٍ وَيُفْتَنُونَ بِمُوسَى (رجال الكشي ص459).
 
كيف يصيرُ هؤلاء شرَّاً من النُصَّاب؟ لأنهم يتلبَّسون باسم التشيُّع، وينكرون الأئمة عليهم السلام، ثمَّ يسعون في إضلال الشيعة بذلك، فإنهم: يَدَعُونَ الشِّيعَةَ إِلَى ضَلَالِهِمْ، وَفِي ذَلِكَ إِبْطَالُ حُقُوقِنَا وَهَدْمُ دَيْنِ الله (ص462). فصاروا بذلك: شَرّ الخَلْقِ (ص458).
 
إنَّ المعيارَ في سوء حال أهل الضلال هو مقدار خطرهم على أديان المؤمنين، فالنّاصبُ قد يسلبُ المؤمنين شيئاً من دُنياهم، أو حتى حياتَهم، لكنَّه غالباً لا يُخشى منه على أديانهم، لكنَّ الذي يدعو الشيعة إلى الضلال يسلبهم دينهم وآخرتهم، وهو أخطر وأشدّ، فلا عجب أن يصفهم الإمام الرضا عليه السلام بأنَّهم: كُفَّارٌ مُشْرِكُونَ زَنَادِقَة (رجال الكشي ص456)..
 
وأن يقول عنهم الإمام الجواد عليه السلام: الْوَاقِفَةُ هُمْ حَمِيرُ الشِّيعَةِ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةِ: ﴿إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا﴾ (ص460).
 
لقد تَعَرَّفَ هؤلاء على الأئمة، وانتسبوا إليهم، ثمَّ جحدوهم! وهم يعلمون حقَّهم وفضلهم، والسببُ في ذلك: حبُّ المال.. فما أخطره!
 
هُوَ واحدٌ من ستة أشياءٍ عُصيَ الله بها.. فَعَنهُم عليهم السلام:
مَا عُصِيَ الله عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا بِسِتَّةِ أَشْيَاءَ: حُبِّ الدُّنْيَا، وَحُبِّ الرِّئَاسَةِ، وَحُبِّ الطَّعَامِ، وَحُبِّ المَالِ، وَحُبِّ النِّسَاءِ، وَحُبِّ النَّوْم‏ (معدن الجواهر ص53).
ولا يزالُ النّاسُ يُمتَحنون بذلك حتى يومنا هذا..
 
لقد لعن الرَّسول صلى الله عليه وآله مَن عَبَدَ الدينار والدِّرهم! وقال أنَّ: الدِّينَارَ وَالدِّرْهَمَ أَهْلَكَا مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، وَهُمَا مُهْلِكَاكُمْ! (الكافي ج2 ص316).
فكَم مِن عابدٍ لهما في أيامنا هذه؟! وكَم من هالكٍ بهما؟!
 
يستوي في الهلاك مَن عَبَدَهُما مِن أهل الدُّنيا، ومَن تَلَبَّسَ بلباس الدِّين وكان مِن عُبَّادِهِما، كما كان الواقفة! وإن كان هؤلاء شَرٌّ مِن سائر أهل الدُّنيا، لاستغلالهم دين الله تعالى، وتلبيسهم الحقَّ على المؤمنين..
 
قد ترى اليومَ علماء يزعمون أنَّهم أبواب الله تعالى، وأبواب آل محمد، وحملة رسالاتهم، وهم عَبيد الدُّنيا ودينارها ودرهما! فليس بالقول وحدهُ يصيرُ المسلمُ مؤمناً! ولا باللباس يكون العالمُ عالماً!
إنَّما شيعة عليٍّ من صدَّقَ قولَهُ فِعلُه!
 
ما أخطَرَ انحراف أهل الدِّين! سيَّما أهل العلم منهم! وما أشنعه لو كان المُهلك لهم في ذلك بعضُ مالِ الدُّنيا!
إنَّه بابٌ يطرقه الشيطان بقوَّة.. فـ: لَيْسَ شَيْ‏ءٌ أَثْقَلَ عَلَى الشَّيْطَانِ مِنَ الصَّدَقَةِ عَلَى المُؤْمِنِ (الكافي ج‏4 ص3).
 
إنَّ من الصدَّقة ما يكون واجباً، ومنها ما يكون مستحبَّاً.. والشيطان يسعى لمنع المؤمن منهما معاً.. لكنَّ العاقل يعلم أنَّ من أنفق في سبيل الله أخلف الله عليه وعوَّضَه خيراً مما أنفق.. كما قال الباقر عليه السلام: أَنْفِقْ وَأَيْقِنْ بِالخَلَفِ مِنَ الله، فَإِنَّهُ لَمْ يَبْخَلْ عَبْدٌ وَلَا أَمَةٌ بِنَفَقَةٍ فِيمَا يُرْضِي الله عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا أَنْفَقَ أَضْعَافَهَا فِيمَا يُسْخِطُ الله عَزَّ وَجَلَّ (الكافي ج4 ص43).
 
وعن الصادق عليه السلام: مَا رَجُلٌ يَمْنَعُ حَقّاً مِنْ مَالِهِ إِلَّا طَوَّقَهُ الله عَزَّ وَجَلَّ بِهِ حَيَّةً مِنْ نَارٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (الكافي ج3 ص504).
ولئن كان الطَّمَعُ بالمال قد حَرَفَ قوماً عن القول بالإمامة يوماً! وزعموا أنَّ الإمام لم يمُت! فإنَّ الخطر عظيم.. والشيطانُ بالمِرصاد..
 
فكم ينبغي على العاقل أن يحذر من مَنع حقوق الله، لئلا ينقلب على عقبيه بسبب المال كما انقلبَ الأُوَل.. فيقول للإمام عند ظهوره: يَا ابْنَ فَاطِمَةَ: ارْجِعْ! لَا حَاجَةَ لَنَا فِيك‏!
 
هو امتحانٌ على المؤمن أن يُراقب نفسه فيه، ويعلم أنَّ منع حقِّ الله هو من أبرز مصاديق البخل التي ورد أنها تمحق الإسلام! وقد قال إمامنا الكاظم عليه السلام: الْبَخِيلُ مَنْ بَخِلَ بِمَا افْتَرَضَ الله عَلَيْهِ (الكافي ج4 ص45).
 
فلينظُر عاقلٌ لنفسه.. وليُقدِّم لغده.. وليعتبر بمَن سبقه.
أجارنا الله تعالى من أن نبخل بما افترض علينا.. ووقانا المهالك.. وهدانا لمرضاته.. وثبَّتنا على ولاية أحبائه وأوليائه.
 
والحمد لله رب العالمين
 
الاثنين 22 رجب 1444 هـ الموافق 13 – 2 – 2023 م


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


شعيب العاملي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2023/02/13



كتابة تعليق لموضوع : الإمام الكاظم.. وفِتنَةُ المال!
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net