صفحة الكاتب : شعيب العاملي

الإمام والعصبية.. وحَمِيَّة الجاهلية!
شعيب العاملي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

بسم الله الرحمن الرحيم
 
﴿وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ﴾ (الزخرف23).
 
المُخاطِبُ في هذه الآية هو الله تعالى، الخالق العَليم، مرسل الأنبياء والمرسلين.
والمُخاطَبُ هو سَيِّدُ الرُّسُل والخلائق أجمعين، محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله.
 
مضمون الخطاب أو الخبر: ما أرسلنا من قبلك يا محمد من نذيرٍ إلا رفضه الجبابرة والمترفون المتنعّمون، الذين يرفضون الحجة والدليل والبرهان.
 
ما السبب في ذلك؟ لماذا يرفض هؤلاء خبر السماء؟ ولماذا يردوّن كلامَ الرسل؟
الجواب: ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا﴾!
 
وإن تكونوا أيها القوم قد وجدتم آباءكم على ملَّةٍ، أفهل معيار الحق وسبيله هو اتباع الآباء لهذا الطريق أو ذاك؟!
قال القرآن عنهم في موضع آخر: ﴿بَلْ نَتَّبِعُ مَا الفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا﴾ ثم حاجَّهم فقال: ﴿أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ﴾ (البقرة170).
 
لماذا اتّباع الآباء اذاً وهم لا يعقلون؟ أيضحي أحدنا بعقله على مذبح الأبوّة والبنوّة والقرابة؟! أيصير العقل والهداية تَرَفاً يصحّ الإستغناء عنه؟!
 
لقد ذكرت كتب اللغة كلمةً تختزل هذا التصرف الأرعن، الذي لطالما واجَهَت به الأمم أنبياءها، وتُبَيِّنُهُ هذه الكلمة عميقاً، حينما عرّفت لفظ (العصبية):
العَصَبيَّة: أن يدعو الرجل إلى نُصْرة عَصَبته والتألُّب معهم على من يناوئهم، ظالمين كانوا أو مظلومين. وقد تعصَّبوا عليهم إذا تجمّعوا (تهذيب اللغة ج‏2 ص30).
 
وهكذا كان.. فتألّبت الأمة وتعصّبت وأجمعت أمرها على مناوئة محمد صلى الله عليه وآله، كما فعلت الأمم مع من تقدم عنه صلى الله عليه وآله.
 
فماذا فَعَلَت هذه الأمة؟
دعا النبيُّ إلى عبادة الإله الواحد الاحد، فأنكرت وجوده، وعبدت أصنامها، ورفضت الإيمان بنبوته صلى الله عليه وآله.
 
بل تجرّأت على الله تعالى بأن وَزَّعَت أصنامها حول الكعبة، حتى ورد أنَّه: دَخَلَ رَسُولُ الله (صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ) يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ وَالأَصْنَامُ حَوْلَ الكَعْبَةِ، وَكَانَتْ ثَلَاثَمِائَةٍ وَسِتِّينَ‏ صَنَماً (الأمالي للطوسي ص337).
 
هذه هي عصبية الأمم السابقة.. وعصبية الجاهلية الجهلاء.. وما كان لها من محطِّمٍ إلا أبو الحسن علي عليه السلام، وهو الذي ينقل قول النبي صلى الله عليه وآله له: اصْعَدْ عَلَى كَتِفِيَ.
 
ثم يقول:
ثُمَّ انْحَنَى النَّبِيُّ فَصَعِدْتُ عَلَى كَتِفِهِ فَقَلَبْتُ الأَصْنَامَ عَلَى رُءُوسِهَا وَنَزَلْتُ وَخَرَجْنَا مِنَ الكَعْبَةِ.
حَتَّى أَتَيْنَا مَنْزِلَ خَدِيجَةَ (رض) فَقَالَ لِي: أَوَّلُ مَنْ كَسَرَ الأَصْنَامَ جَدُّكَ إِبْرَاهِيمُ (ع)، ثُمَّ أَنْتَ يَا عَلِيُّ آخِرُ مَنْ كَسَرَ الأَصْنَامَ.
فَلَمَّا أَصْبَحَ أَهْلُ مَكَّةَ وَجَدُوا الأَصْنَامَ مَنْكُوسَةً مَكْبُوبَةً عَلَى رُءُوسِهَا فَقَالُوا: مَا فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِلَّا مُحَمَّدٌ وَابْنُ عَمِّهِ، ثُمَّ لَمْ يُقَمْ فِي الكَعْبَةِ صَنَم‏ (الفضائل لابن شاذان القمي ص97).
 
لقد سقطت الأصنام التي أحاطت بالكعبة بِفِعلِ عَليٍّ عليه السلام، ولم تَقُم لها قائمةٌ بعد ذلك..
لكن أصنام الجاهلية وأوثانها وعصبياتها بقيت في النفوس عَصِيَّةً على الكَسر.. إذ كَسرُهَا في النفوس يعني الإستقامة والصلاح والفلاح والنجاح، والإقرار بالفضل لأهله، وكيف لنفوسٍ تَرَبَّت على الحقد والكراهية والبغضاء، ومُلِئَت حَسَدَاً على الحق وأهله، كيف لها أن تخضع لدينٍ يستوي فيه الشريف والوضيع؟ وتترك نهج آبائها!
 
إنها العصبية.. التي اقترنت مع الحسد والجهل والحماقة فأضحت داءً لا دواء له!
لم تكن أولى ساحات العصبية أيام دعوة النبي صلى الله عليه وآله، فكلُّ من تقدم عنه صلى الله عليه وآله من الأنبياء قد ووجه بالعصبية.
ولو أردنا أن نسبر أغوار التاريخ ونذهب في أعماقه، لوصلنا إلى مرحلةٍ تسبقُ حياتنا الأرضية، نقلها لنا مَن عنده خبر السماوات والأرض، ذاك أميرُ المؤمنين عليه السلام حين يقول:
 
الحَمْدُ لله الَّذِي لَبِسَ العِزَّ وَالكِبْرِيَاءَ وَاخْتَارَهُمَا لِنَفْسِهِ دُونَ‏ خَلْقِهِ، وَجَعَلَهُمَا حِمًى وَحَرَماً عَلَى غَيْرِهِ، وَاصْطَفَاهُمَا لِجَلَالِهِ‏، وَجَعَلَ اللَّعْنَةَ عَلَى مَنْ نَازَعَهُ فِيهِمَا مِنْ عِبَادِهِ، ثُمَّ اخْتَبَرَ بِذَلِكَ مَلَائِكَتَهُ المُقَرَّبِينَ، لِيَمِيزَ المُتَوَاضِعِينَ مِنْهُمْ مِنَ المُسْتَكْبِرِينَ..
 
هو امتحانٌ من الله تعالى لملائكته ومَن شَرِكَهُم في العبادة، بأن يسجدوا لآدم عليه السلام، ليتميَّز المتكبِّرُ منهم وينفصل عنهم.
فَسَجَدَ المَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ، اعْتَرَضَتْهُ الحَمِيَّةُ، فَافْتَخَرَ عَلَى آدَمَ بِخَلْقِهِ، وَتَعَصَّبَ عَلَيْهِ لِأَصْلِهِ.
فَعَدُوُّ الله إِمَامُ المُتَعَصِّبِينَ، وَسَلَفُ المُسْتَكْبِرِينَ! الَّذِي وَضَعَ أَسَاسَ العَصَبِيَّةِ! وَنَازَعَ الله رِدَاءَ الجَبْرِيَّةِ (نهج البلاغة ص286).
 
هي العصبيَّة إذاً، واضع أساسها إبليس.. إمام المتعصّبين.. عدوّ الله.. فمن اتخذه ولياً صار لله عدواً.. ومن عاداه وخالفه في عصبيته وأطاع الله صار لله ولياً.
 
طريقان لا يجتمعان.. إما طاعة الله تعالى أو طاعة عدوّه إمام المتعصّبين.. وإمام المتعصبين هذا لا يدع المسلمين وشأنهم.. إنما قعد لهم صراط الله المستقيم، وأتاهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم.
 
فما يريد منهم هذا الخبيث؟
إنه يُشعِلُ ما كَمَنَ في قلوبهم من نيران العصبية، ويلهب نفوسهم ويحرِّضهم على تلك العصبية ليردّهم إلى أحقاد الجاهلية، فيحقق نصره بهذا، ووعده بالإضلال والغواية لمن اتَّبعه وأطاعه..
 
يقول أمير المؤمنين عليه السلام السلام مُستَبِقَاً محاولات إبليس هذه:
فَأَطْفِئُوا مَا كَمَنَ فِي قُلُوبِكُمْ مِنْ نِيرَانِ العَصَبِيَّةِ وَأَحْقَادِ الجَاهِلِيَّةِ، فَإِنَّمَا تِلْكَ الحَمِيَّةُ تَكُونُ فِي المُسْلِمِ مِنْ خَطَرَاتِ الشَّيْطَانِ وَنَخَوَاتِهِ وَنَزَغَاتِهِ وَنَفَثَاتِهِ (نهج البلاغة ص288).
 
هي نيرانٌ كامنةٌ في قلوب الناس، إما أن يطفؤوها، وإما أن يسمحوا لإبليس بإشعالها، فتحرق النفوس المؤمنة، وتُلهِب هذه الأرواح، فيخرج الإنسان بها عن ربقة الإيمان.
 
أمّا خطرات الشيطان، ونخواته، ونزغاته ونفثاته، فذاك عالم خَفيٌّ عنّا، لكنّا نتلمَّسُ بعض آثاره من قول أمير المؤمنين عليه السلام: اعْتَمِدُوا وَضْعَ التَّذَلُّلِ عَلَى رُءُوسِكُمْ، وَإِلْقَاءَ التَّعَزُّزِ تَحْتَ أَقْدَامِكُمْ، وَخَلْعَ التَّكَبُّرِ مِنْ أَعْنَاقِكُم‏.
 
من ذلَّلَ نفسه لله تعالى وتواضع له عزَّ وجل خمدت في قلبه نيران العصبية وأحقاد الجاهلية، وعنه عليه السلام:
احْذَرُوا (مَنَافِخَ) الكِبْرِ، وَغَلَبَةَ الحَمِيَّةِ، وَتَعَصُّبَ الجَاهِلِيَّةِ (عيون الحكم ص105).
 
لماذا؟
لأن: مَنْ أَخَذَتْهُ العَصَبِيَّةُ جَار!
ففي العصبيّة جَورٌ على النفس بترك الحق واتباع الباطل، وجَورٌ على الدين بمحاربته، لأنّ المتعصِّبَ تأخذه العزّة بالإثم.. فيحارب الله ورُسُلَهُ وأولياءه.
 
لقد ورد عن المعصومين عليهم السلام تحذيرٌ عجيبٌ من التعصُّب، فعن الصادق عليه السلام: مَنْ تَعَصَّبَ أَوْ تُعُصِّبَ لَهُ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الإِيمَانِ مِنْ عُنُقِهِ (الكافي ج‏2 ص307).
المُتعصِّب، ومَن يُتعصَّبُ له وهو راضٍ، كلاهما قد خرجا من الإيمان.. إما حقيقةً وإما تنزيلاً..
 
أي أن المؤمن إن كان من المتعصبين أو الآمرين والراضين بالتعصُّب: إما أن يخرجه ذلك من الإيمان حقيقةً فيصبح غير مؤمن.. أو أنّه لشدة مخالفته لأمر الشريعة يُنَزَّل منزلة غير المؤمن..
 
لماذا كل هذا الأثر إذا؟
لأن العصبيَّة تنقله من جبهة الحق إلى جبهة الباطل.. فالمؤمن عدوٌّ لأعراب الجاهلية، لكنَّ العصبية تجعله وإياهُم في وادٍ واحد.. ذلك أنه سلك مسلكهم ونهج طريقهم. سواءٌ كان التعصُّبُ للزعيم والقائد والرئيس، أو للعشيرة والأخ والقومية..
 
إن الإنسان يُحاسَبُ على فِعَاِلهِ لا على أقوَالِه فقط، فمَن قال بلسانهِ أنه مؤمنٌ ثم خالفَ فعلُه قولَه ما كانَ مؤمناً عند الله سبحانه وتعالى حقاً.
وعن النبي صلى الله عليه وآله: مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ حَبَّةٌ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ عَصَبِيَّةٍ بَعَثَهُ الله يَوْمَ القِيَامَةِ مَعَ أَعْرَابِ الجَاهِلِيَّةِ (الكافي ج‏2 ص308).
 
ههنا لا تنفع الوسطية.. إما إلى جانب الحق أو إلى جانب الباطل..
فمن لم يتخلَّ عن العصبية لم ينفعه شيء.. كما في يوم عاشوراء: فإما إلى جانب الحسين عليه السلام وإما إلى جانب يزيد.. ومن لم يكن خالصاً من العصبية كان مع أعراب الجاهلية.. الذين تعصَّبوا على الحسين فقتلوه بُغضَاً منهم لأبيه، فصاروا مصداقاً للحديث الشريف: مَنْ تَعَصَّبَ عَصَبَهُ الله بِعِصَابَةٍ مِنْ نَارٍ (الكافي ج‏2 ص308).
 
ولعلَّ قارئاً يتهاون في مثل هذا الحديث.. فما أيسر أمر العصابة من النار.. وكأنها كالعصابة التي نضعها لألم الرأس مثلاً!
 
كلا أيُّها الأحبّة.. فإنَّه لمّا وُضِعَت منافخ النار جاء جبرائيل إلى الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله قاطباً.. فأخبره أنَّ الله تعالى أمر بالنار فنُفِخَ فيها ألف عامٍ حتى ابيضّت، وألف عام حتى احمرَّت، وألف عامٍ حتى اسوَّدَت، ثم قال جبرائيل لرسول الله صلى الله عليه وآله:
لَوْ أَنَّ قَطْرَةً مِنَ الضَّرِيعِ قَطَرَتْ فِي شَرَابِ أَهْلِ الدُّنْيَا لَمَاتَ أَهْلُهَا مِنْ نَتْنِهَا!
وَلَوْ أَنَّ حَلْقَةً مِنَ السِّلْسِلَةِ الَّتِي طُولُهَا سَبْعُونَ ذِراعاً وُضِعَتْ عَلَى الدُّنْيَا لَذَابَتِ الدُّنْيَا مِنْ حَرِّهَا (تفسير القمي ج‏2 ص81).
 
أيستهين أحدنا بنارٍ سَجَّرَها جبّارها لغضبه؟ لا غرو إذاً أن تحرق حلقةٌ من سلسلتها الدنيا مِن حَرِّها..
أمّا ماذا تفعل العصابة من النار؟ فعلمها عند ربي.. أجارنا الله تعالى منها ومن عذاب ذلك اليوم العظيم.
 
كيف النجاة من العصبية؟
إذا كانت العصبية مَقيتَةً إلى هذا الحد، وعظيمة الأثر، وشديدة الخطر، فما السبيل إلى الخلاص منها؟ وهل يمكن أن يُجَرَّ الإنسان إليها جَرّاً من حيث لا يشعر؟
إنَّ تَجَنُّبَ أهل العصبية يُساعدُ المؤمن عل تَوَقِّيها، ومِن هؤلاء فئتان ينبغي الحذر منهما:
 
الفئة الأولى: السادة والكبراء
 
يقول أمير المؤمنين في نهج البلاغة:
أَلَا فَالحَذَرَ الحَذَرَ مِنْ طَاعَةِ سَادَاتِكُمْ وَكُبَرَائِكُمْ الَّذِينَ تَكَبَّرُوا عَنْ حَسَبِهِمْ، وَتَرَفَّعُوا فَوْقَ نَسَبِهِمْ.. ‏فَإِنَّهُمْ قَوَاعِدُ أَسَاسِ العَصَبِيَّةِ، وَدَعَائِمُ أَرْكَانِ الفِتْنَةِ، وَسُيُوفُ اعْتِزَاءِ الجَاهِلِيَّةِ، فَاتَّقُوا الله، وَلَا تَكُونُوا لِنِعَمِهِ عَلَيْكُمْ أَضْدَاداً، وَلَا لِفَضْلِهِ عِنْدَكُمْ حُسَّاداً (نهج البلاغة ص290).
 
إنَّ أكابر الأمة وساداتها، الذين تَسَيَّدوا بالتَّسَلُّط والتَّجَبُّر والتكبر، والجحود والحسد والإنكار، هم المتعصبون ضد سادات الخلق والحساد لهم.
هؤلاء أساس العصبية في هذه الأمة، وإبليس أساسها الأول.
هؤلاء دعائم أركان الفتنة، الذين أوقعوا الأمة في كل مصيبة، وكُلُّ تَعَصُّبٍ يرجع إليهم وإلى إمامهم إمام المتعصبين إبليس عدو الله.
 
وعلى المؤمن الحذر من هؤلاء، لأن السَّيرَ في رِكابِهم مدعاةٌ للهلكة. أجارنا الله من ذلك.
 
الفئة الثانية: العلماء المتعصبون للباطل
 
روينا عن إمامنا العسكريّ عليه السلام تمييزه بين صنفين من العلماء:
1. العلماء الذين يُعرَفُون بالفسق والعصبية الشديدة، فتقليد هؤلاء كتقليد اليهود لفَسَقَةِ فقهائهم.
2. العلماء الذين سلموا من العصبية، وصانوا أنفسهم، وحفظوا دينهم، وهؤلاء ممَّن ينبغي الرجوع إليهم.
 
فَعَنه عليه السلام:
وَكَذَلِكَ عَوَامُّ أُمَّتِنَا، إِذَا عَرَفُوا مِنْ فُقَهَائِهِمُ الفِسْقَ الظَّاهِرَ، وَالعَصَبِيَّةَ الشَّدِيدَةَ وَالتَّكَالُبَ عَلَى حُطَامِ الدُّنْيَا وَحَرَامِهَا..
فَمَنْ قَلَّدَ مِنْ عَوَامِّنَا مِثْلَ هَؤُلَاءِ الفُقَهَاءِ، فَهُمْ مِثْلُ اليَهُودِ الَّذِينَ ذَمَّهُمُ الله تَعَالَى بِالتَّقْلِيدِ لِفَسَقَةِ فُقَهَائِهِمْ.
 
الميزان عند هؤلاء هو العصبية، فهم يَرَونَ شخصاً يستحق إصلاح أمره، ويستحق الإكرام والإعزاز والعون، فيُهلِكُونَه تَعَصُّباً!
ويَرَونَ آخر عدُّواً لله يستحق الإذلال والإهانة، فيُرفِقُونَ به ويحسنون إليه تعصباً.. وهؤلاء كفقهاء اليهود الفَسَقَة، لا يصح الرجوع إليهم ولا الأخذ عنهم..
 
إنما يؤخذ الدين ممن وصفهم الإمام فقال:
فَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنَ الفُقَهَاءِ صَائِناً لِنَفْسِهِ، حَافِظاً لِدِينِهِ، مُخَالِفاً لِهَوَاهُ، مُطِيعاً لِأَمْرِ مَوْلَاهُ فَلِلْعَوَامِّ أَنْ يُقَلِّدُوهُ (تفسير الإمام العسكري عليه السلام ص300).
 
علامة العصبية
 
فإن سأل سائلٌ: ما علامة العصبيَّة في هؤلاء السادة والكبراء، أو الفقهاء الفسقة المتعصبون.. أو غيرهم من عوام الناس؟
هل لنا أن نتلمَّسَ علامةً نكتشفُ بها أنّ هذا من أهل العصبية أو أنّه ليس منهم؟!
 
يأتي الجواب عن لسان الإمام زين العابدين عليه السلام لما سئل عن العصبية فقال:
العَصَبِيَّةُ الَّتِي يَأْثَمُ عَلَيْهَا صَاحِبُهَا أَنْ يَرَى الرَّجُلُ شِرَارَ قَوْمِهِ خَيْراً مِنْ خِيَارِ قَوْمٍ آخَرِينَ، وَلَيْسَ مِنَ العَصَبِيَّةِ أَنْ يُحِبُّ الرَّجُلُ قَوْمَهُ، وَلَكِنْ مِنَ العَصَبِيَّةِ أَنْ يُعِينَ قَوْمَهُ عَلَى الظُّلْمِ (الكافي ج‏2 ص309).
 
إنَّ الأقربين أولى بالمعروف والمحبة، فينبغي على المؤمن أن يحسن إلى قرابته وقومه قبل غيرهم، لكن ليس له أن يرى المسيء منهم خيراً من المحسن إن كان من سواهم.
ليس لأحدنا أن يزعم أن أخاه المسيء خيرٌ من خيار قومٍ آخرين..
ولا أن ابن عشيرته المسيء خيرٌ من خيار قومٍ آخرين..
ولا ابن منطقته أو بلده.. ولا من انتمى لحزبه أو فئته..
 
نعم أيها الأحبة.. الحزبيَّة المقيتة واحدةٌ من عناوين التعصُّب الأعمى التي تفتك بالمجتمع..
لقد قعد لنا إمام التعصب إبليس صراطَ الله المستقيم.. فلم يترك باباً إلا طرقه.. والعصبية أحد أبوابه.. فلا ينبغي أن تأخذنا العزة بالإثم..
 
إنَّ الدين يأمرُ بحبِّ الأوطان.. وبالإحسان إلى الأهل والأخوان والجيران ومودتهم.. لكن لا يأمر بإعانتهم على الظلم أبداً.
 
إنَّ الدين يأمر بنظم الأمر.. وللناس أن ينظموا أمورهم بأيِّ صورةٍ تُصلِحُ دُنياهم وآخرتهم.. ومهما تعدَّدَت عناوين ذلك.. كالجمعيات.. والبلديات.. والتنظيمات.. وحتى الأحزاب.. على أن لا يخرجهم ذلك من حق إلى باطل..
 
وأكثر ما يخرج الإنسان من الحق ويدخله في الباطل هو الحزبية المقيتة التي يرى فيها المُحِازِبُ شِرَارَ قومه خيراً من خيار قوم آخرين.
وينسَحِبُ ذلك إلى صراعاتٍ بألوانٍ وأشكالٍ شتّى، تتغير أساليبها بتغيُّر البلدان، لكنَّ جَوهرَها واحدٌ.. إنَّه عصبية إبليس.. التي قد توصل الإنسان إلى سفك دم أخيه المؤمن، أو هتك عرضه، أو إسقاط حرمته!
 
فالحذر الحذر أيّها الأحبة..
وها نحنُ نَتَمَثَّلُ قولَ أمير المؤمنين عليه السلام حينما حَذَّرَ من عصبية المال أيضاً، وفتح باباً أمام عصبيةٍ حقَّةٍ واحدةٍ لا شريك لها فقال:
 
وَأَمَّا الأَغْنِيَاءُ مِنْ مُتْرَفَةِ الأُمَمِ، فَتَعَصَّبُوا لِآثَارِ مَوَاقِعِ النِّعَمِ، فَقالُوا: نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً، وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ.
هذا حال المترفين الذين قال الله عنهم: ﴿إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ﴾.
 
فليكن تعصبكم لمكارم الخصال
 
ثمَّ قال عليه السلام:
فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ مِنَ العَصَبِيَّةِ، فَلْيَكُنْ تَعَصُّبُكُمْ لِمَكَارِمِ الخِصَالِ، وَمَحَامِدِ الأَفْعَالِ، وَمَحَاسِنِ الأُمُورِ الَّتِي تَفَاضَلَتْ فِيهَا المُجَدَاءُ وَالنُّجَدَاءُ مِنْ بُيُوتَاتِ العَرَبِ..
فَتَعَصَّبُوا لِخِلَالِ الحَمْدِ، مِنَ الحِفْظِ لِلْجِوَارِ، وَالوَفَاءِ بِالذِّمَامِ.. (نهج البلاغة ص296).
 
إن كان لا بُدّ.. فالتعصب للحق إذاً..
هذا مفاد قرين الحق وأمير المحقين والمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام.
كلُّ عصبيةٍ مقيتةٌ.. إلا العصبية للحقّ إذاً..
فمن تَعَصَّبَ للإمام.. فَنَزَّهَهُ عن تُرَّهَات المتصوِّفَة والعرفاء..
 
ومن تَعَصَّبَ للإمام.. فَنَزَّهَ مقامه عن أن تناله أيدي المتطاولين، فهو كالنجم لا يدانيه أحد.. ونَزَّهَ الإمام عن أن يأمر بطاعة غير المعصوم كما ينبغي طاعة المعصوم.
من فَعَلَ ذلك كان متعصِّباً للإمام عليه السلام..
 
وإذا كان التعصُّبُ لمكارم الخصال وخلال الحمد حسناً.. فكيف يكون التعصب لإمام المكارم وسيدها.. لإمام الحق ورائده.. للمعصوم عليه السلام؟
فهنيئاً لمن تعصَّبَ لإمامه ودينه، ومكارم الخصال، ومحاسن الأفعال.
 
اللهم عجل في فرج وليك.. وسهِّل مخرجه.. واجعلنا من أنصاره في اجتثاث جذور العصبيَّة لغير الحق، إنّك نعم المولى ونعم النصير..
 
والحمد لله رب العالمين

الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


شعيب العاملي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2023/03/16



كتابة تعليق لموضوع : الإمام والعصبية.. وحَمِيَّة الجاهلية!
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net